المحاولة الإجرائية الثانية التي تطالعنا في الفكر النهضوي العربي الحديث، بعد أكثر من خمسين سنة، تتمثل في طموح محمد عبده لوضع العلم والفكر العلمي على جدول أعمال الإنجاز، وذلك من خلال الإصلاح العلمي للأزهر، عبر وضعه في مناهج التدريس، فلم يجرؤ على “اقتحام العقبة” بغير تمهيد يعفيه من تهمة الابتداع ومن ثم التهجم على حرمة المسجد وتقاليد الدين، فدبر مع المخلصين من طلاب الإصلاح “حيلة شرعية” للبدء بالإصلاح المطلوب، واتفقوا على استفتاء شيخ جامع الازهر ومفتي الديار المصرية في مسألة العلوم التي يجوز تدريسها بالجامع ولا تعتبر العناية بها في أماكن العبادة مخالفة للتقاليد الإسلامية، وكلفوا عالما تونسيا فاضلا وهو الأستاذ محمد بيرم، أشهر علماء جامع الزيتونة شيخ الجامع يومذاك (1887) فكتب إليه بعد تمهيد وجيز: “....ما قولكم رضي الله عنكم : هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء وغيرها من سائر المعارف لا سيما ما ينبغي عليه منها من زيادة القوة في الأمة بما تجاري به الأمم المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد؟ بل هل يجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة بمعنى أن يكون واجبا كفائيا ...وإذا كان الحكم فيها كذلك فهل تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين... أفيدوا الجواب لا زلتم مقصدا لأولي الألباب.” (عباس محمود العقاد ، محمد عبده ص 171-172).
هذه “الحيلة الشرعية” التي اختير لها الظرف المناسب سياسيا ، حيث كان الإنبابي يعلم مصدر الاستفتاء فلم يهمله كما أشار عليه أعوانه ، فسلكت “الحيلة” لكن عبر تحفظات تفتح الباب للتفرقة بين طريقة وطريقة، مما يتيح المجال للمعارضين لتعطيل تنفيذها كما أراد الإنبابي، لاسيما في المنطق والطبيعيات.
فقد خص الشيخ البحث في الطبيعيات لـ “أهل الشرع” وليس على “طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام لأنه يؤدي للوقوع في العقائد المخالفة”.
لعل هذا التحفظ الذي مر عليه أكثر من قرن، لا يزال يواجه العقل العربي، السائد، والمهيمن، إذ يريد علما بلا فلسفة، أي بلا منهج علمي، يريد تقنية، آلة، مقشرة من النظام المعرفي والعقلي الكامن وراء نظام سيرورة تشكلها، يريد ثمار العلم بلا شجرة معرفته، يريد منتوجا، بدون علاقات إنتاجه، ولهذا لا يحصل على العلم والتقنية إلا بصورة (آلة/سلعة) عبر السوق وليس عبر المصنع، أي يريد علما منجزا محققا، بدون تاريخ، تاريخ النظريات العلمية، الذي هو تاريخ أخطائها تعريفا، في سبيل بلوغ النسبي من الحقائق التي تسير دائما على طريق إنكار ذاتها، ليحل محله المطلق يرفرف بحقائقه الكلية فوق طبقات الزمان والمكان، ليتوحد تاريخ الإيمان بالعلم في السبعينات، مع اتساع نفوذ سلطان الإيديولوجيا التقليدية، ومع بلورة صيغة “العلم الإسرائيلي والإيمان العربي” في التسعينات، المحددة لموقع العرب في القسمة الدولية للنظام العالمي الجديد، “العولمة”.
إن فتوى “الإنبابي” إعتبرها الإصلاحيون الشباب الملتفون حول “محمد عبده” نصرا رغم أنها لم يكتب لها التنفيذ في الأزهر ، وكان الشيخ محمد عبده عضوا فيه.
الشيخ الشاب الذي كانت تترأرأ أمام عينيه أنوار الغرب – الذي بالغ الخديوي إسماعيل في فتح النوافذ أمامه – لم يكن يدري أن هذه النهضة الشامخة، سيعقبها تدخل الإنكليز مستفيدين من نوافذ إسماعيل، التي غدت ثقوبا في الكيان المصري، ليعيدها الإنكليز إلى ما ينبغي أن تكون عليه الأطراف، بالنسبة للمركز، أي قطع الطريق أمام تنمية مستقلة لبورجوازية وطنية ، وإعادتها إلى دورة إنتاج رأس المال التابع، من خلال الكومبرادورية .
ولهذا فإن الشاب محمد عبده، الذي يضربه شيخه الوقور محمد عليش لحضوره على جمال الدين وقراءته كتب المعتزلة والمتكلمين، والذي تتواطأ عليه لجنة الامتحان بالأزهر لإسقاطه، دون الحصول على شهادة "العالمية، كان يمضي بفتوة عقلية، ليقترح على الشيخ الإنبابي، تدريس مقدمة ابن خلدون في الأزهر، فيرفض الاقتراح، لكنه يمضي لاحقا في تنفيذ برنامجه العلمي من خلال الأزهر.
الفاصل بين البرنامجين، برنامج الطهطاوي ، وبرنامج محمد عبده ، هو فاصل مرح التاريخ وشقائه. كان الأول يضع برنامجا للأمة وهي في طور مرحها على مسرح التاريخ إذ تبني قواعد الدولة الوطنية الحديثة، وتحقق انتصاراتها قبل التدخل الغربي لوأدها، وإعادتها إلى مهد شقاء التبعية الذي سيرثه الخلف في صورة الهيمنة الاستعمارية المباشرة على مصائر الأمة، هنا يعلن محمد عبده في لندن، في زمن منفاه، الحرب على الاحتلال في عقر داره، فيقول لهم في صحافتهم (البال مال) “إننا نرى أن انتصاركم للحرية إنما هو انتصار لما فيه مصلحتكم، وأن عطفكم علينا كعطف الذئب على الحمل، ولقد قضيتم على عناصر الخير فينا لكي تكون لكم من ذلك حجة للبقاء في بلادنا، تلك هي مصائر الحرية التي كان يتوسمها الشيخ في الأوربيين بعد أن كان يطمح إلى”الإصلاح وتقدم أثر الأوربيين في طريق الحرية “ليخلص إلى أنه” ليس في مصر من بلغ به الظلم حدا يرجو معه مساعدتهم.“”إن لنا إليكم رجاء واحدا، وهو أن تغادروا بلادنا حالا إلى غير رجعة“. وعندما تسأله الصحيفة عن الخديوي توفيق، يجيب أنه”أساء إلينا أبلغ السوء لأنه مهد لدخولكم إلى بلادنا، وانضم أيام الحرب إلى أعدائنا... ولا يمكننا أن نشعر إزاءه بأقل احترام" (المصدر السابق، ص 161-162).
إن الدور الذي لعبه الإمام كمثقف “ماجد” بصوفية الذي يفني ذاته في ذات الله عبر الفناء في خلقه، أدخله في صدام عنيف مع سلطات الاحتلال الإنكليزي، وسلطات القصر حيث ناصب عباس الثاني العداء، فكان خلال هذه الفترة يلاين ويحتاط، ومن هنا كان موقفه المتردد من الثورة العرابية، التي كان يخشى أن يقودها التهور إلى الاحتلال البريطاني المباشر، ولكنها عندما قامت انخرط في صفوفها، دون تردد، فنفي مع من نفي، فكانت العروى الوثقى صوته الوطني والإصلاحي التنويري، بعد أن شك بمصداقية قيم الحرية والديموقراطية والتقدم العلمي الأوروبي الذي لم يقدم لمجتمعه والمجتمع التركي غير جدع أنف الأمة. يقول: “لقد شيد المصريون والعثمانيون عددا من المدارس على النمط الجديد وبعثوا بطوائف منهم إلى البلاد الغربية ليحملوا إليهم ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف والصنائع والأدوات وكل ما يسمى تمدنا وهو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني، هل انتفع المصريون والعثمانيون بما قدموا لأنفسهم من ذلك... هل صاروا أحسن مما كانوا عليه؟.... هل استنقذوا أنفسهم من أنياب الفقر والفاقة... هل نجوا بها من ورطات ما يلجئهم إليه الأجانب بتصرفاتهم؟ هل أحكموا الحصون وسدوا الثغور؟ ....نعم ربما وجد بينهم أفراد يتفوهون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية...في عبارات بتراء لا تعرف غايتها ولا تعلم بدايتها... ومنهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم فقلبوا أوضاع المباني والمسكن وبدلوا هيئات المآكل والملابس والفرش والآنية وسائر الماعون... فنسفوا بذلك ثروتهم إلى غير بلادهم واعتاضوا عنها أعراض الزينة مما يروق منظره ولا يحمد أثره... فأماتوا أرباب الصنائع من قومهم وأهلكوا العاملين في المهن... وهذا جدع لأنف الأمة يشوه وجهها ويحط شأنها وما كان هذا إلا لأن تلك العلوم وضعت فيهم على غير أساسها وفاجأتهم قبل أوانها ...” (محمد عبده ، جمال الدين الأفغاني ، مجلة العروة الوثقى ، عن “الإصلاح والنهضة” ، القسم الأول ، مصدر سبق ذكره ، ص 142-14.)
ماذا يمكن للخطاب العربي المعاصر أن يضيف بعد قرن على هذا الخطاب المفعم بالشجن والتأسي في علاقة المجتمع العربي بالعلم والتقنية الأوروبية؟
تلك هي خيبة الأمل الثانية بعلوم وتقانة الغرب، بعد خيبة أمل سلفه الطهطاوي المفعم ثقة وفرحا، رغم أن الخلف (عبده) سجل تقدما نوعيا في درجة امتلاكه للنهاجية العقلانية الليبرالية الغربية، فقد كان ملما بالفكر التاريخي الأوروبي ونظريات التطور التاريخي، وبخاصة نظريات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الإنكليز: سبنسر وقد ترجم كتابه عن الفرنسية «التربية" وسافر إلى بريطانيا للقائه قبل وفاته، ودارت بينهما حوارات أثارت إعجاب سبنسر [1]
فالإشكالية، كانت أكبر من ممكنات الوعي الفردي مهما كانت عبقريته، إنها الإشكالية التي أنتجها قانون التطور اللامتكافئ الذي حكم توسع الرأسمالية العالمية، حيث كلما تراكم التقدم في المركز الرأسمالي أنتج طرديا تأخر الأطراف وفق أطروحة سمير أمين ومدرسة التبعية. وقرأ فريزر ووستر مارك، كما أطلع على مؤلفات رينان وتين وجيبون وغوستاف لوبون وماكس نوردار، كما اعتمد في معظم مادة مقدمة كتابه “رسالة التوحيد” على مقدمة ابن خلدون ، التي اقترح إدخالها للأزهر ، بل وقام بعض الوقت بتدريسها .[2] هذا الشيخ الذي كان يصلح للقبعة لا للعمامة – حسب رأي عرابي فيه – يداخله اليأس والإحباط والتشاؤم.[3]
—
الأربعاء ديسمبر 18, 2013 12:48 am من طرف ميمونة