النص لجوزيف سايفرت
الترجمة للأستاد حميد لشهب
إن الله، الشامل لكل الموجودات، والخير في ذاته كان على مر العصور، محط اهتمام ليس فقط الدين لكن الفلسفة والميتافيزيقا أيضا. ولقد احتلت محاولات البرهنة على وجود الله مكانة الصدارة في أعمال فلاسفة عديدين. وعلى العكس من هذا فإن الكثير من المعاصرين وخاصة المثقفين منهم قد يرون في محاولة البرهنة على وجود الله أو صفات ذاك الذي يعتبر المصدر الأصلي والشامل لكل الموجودات ابتعادا عن وضوح أرضية الواقع الموضوعي. ومؤرخوا الفلسفة أنفسهم لم يوضحوا بما فيه الكفاية كيف تحدثت العصور السابقة عن الله وعن البرهنة على وجوده.
* من أوائل الحكم المعروفة في تاريخ الفلسفة هناك قول طاليس الميلي Thales von Milets إن كل شيء ملئ بالآلهة(1). وحتى إن كان العصر القديم قد عرف كذلك فلاسفة ملحدين مثل أبي قور Epicure، فإن جل الفلاسفة القدماء ابتداء من سقراط إلى أفلوطين حاولوا بحجج عديدة البرهنة على أن العالم الواقعي المرئي – وكذا ما سمي بالنفس الإنسانية في محاورة تيماوسي الأفلاطونية(2) قد خلقا من طرف الله. وقد كانت القوانين القديمة للكلام عن الله شهادات إثبات على الأهمية الاجتماعية للوجود الإلهي. فبدء من Nomoi (القوانين) الأفلاطونية إلى العصر الحديث يبقى الاعتقاد واضحا وقويا في كون الله موجودا، وكون الإدراك قد اعترف بأن الوجود المطلق لله ممكن عن طريق العقل، ون القانون يجب أن يعاقب الإلحاد والمتشككين في وجود الله. وتكفي الإشارة أن قوانين أفلاطون تؤكد على عقاب الملحدين، وأن قوانين أكثرية إمبراطوريات القرن السادس عشر كانت تعدم الملحدين والسابين للدين. وعلى امتداد العصر الوسيط لم يكن جل الفلاسفة المهتمين في هذا العصر توحيديين، اعترفوا بوجود الله، ومؤمنين مسيحيين، يهودا أو مسلمين، بل أنهم دافعوا كذلك على إدراك الله بواسطة العقل. ولم يرفض المصلحون الكبار وخاصة لوثر، تفينغلي وكالفان لا براهين وجود الله، ولا براهين عدم موت الروح، التي وجدت مكانها أيضا عند ميلانشتونس Melanchthons الفيلسوف الإنساني وصديق لوثر(3). ومن المعروف أن هؤلاء المصلحين لم تكن لهم ثقة بالعقل الذي كان في نظرهم ضعيفا، خاطئا، والذي نعته بعضهم بـ"العاهرة Hure". ونجد نفس الشيء في القرن 18، حيث حاول كبار فلاسفة هذا القرن، كل واحد على حدة، الدفاع عن برهان من براهين وجود الله.
إلا أنه وبعد نهاية تأثير مدرسة لايبنز Leibniz وفولف Wolf، وظهور فلاسفة جدد مثل هيوم Hume وكنط Kant بدأ النقاش يدور حول براهين وجود الله نفسها، وبذلك تقوى الاتجاه الملحد أو على الأقل الاتجاه اللاإدري (Agnotisme). من طبيعة الحالة لم تكن الأمور بكل هذه البساطة. فقد كان الوضع في الجامعات الألمانية ولمدة طويلة بعد كنط لا يسمح للأستاذ الألماني نفي وجود الله، وإلا فإنه كان معرضا للفصل من التدريس.
وما وقع لفيخت Ficht، الذي أكد في فلسفته على أن مكان الله لا يأتي إلا في الدرجة الثانية بعد إثبات الأنا، وقد اتهم على إثرها بالإلحاد، إلا دليل على أن المعركة بين الاتجاه التوحيدي والاتجاه الملحد لم تكن قد حسمت بعد.
وقد تغيرت الوضعية بعد كنط ما بين القرن 18 والقرن 20 حيث أصبح الحديث عن الله يدخل في إطار النسيب واللاعلمي والشخصي العقائدي الذي لا يهم إلا صاحبه، وليس له أي وزن فلسفي. وعلى الرغم من كل هذا فقد كانت هناك استثناءات في الاستمرار على البرهنة على وجود الله عند ممثلي الاتجاه الأرسطي الأكويني الذي وجد مكانا في الكنيسة المسيحية باستثناء البروتسطان واليهود(4) إلى حدود القرن 20، مع أول مؤتمر للفاتيكان. وخارج الكنيسة المسيحية، وحتى فيها، وابتداء من القرن 18، بدأ اتجاه رفض البراهين العقلية لوجود الله ينتشر في الفلسفة.
والعامل الأساسي، على الأقل العالم الجرماني، الذي أدى إلى هذا التحول هي "الاعتراضات الكبرنيكية" لكنط، ونقده لكل براهين وجود الله. وفكرة كنط التي مفادها أن مضمون المعرفة غير تابع لظروف المعرفة (ظروف تحصيل المعرفة)، وأن مضمون هذه المعرفة غير محدد من طرف الموضوع (Subjekt) وإدراكه، قد قادت إلى فكرة أن الله لم يعثر عليه مسبقا نفسيا، ولا يمكن الاعتراف به ككائن مطلق، ولا يمكن الاعتراف به كأصل لكل الأشياء وككل متناه وكعالم بكل الأشياء، بل إن فكرة الله هي من صنع العقل الإنساني وحتى إن كانت فكرة كنط هذه كافية وحدها للقضاء على قوة براهين وجود الله، فإنه (كنط) قد أضاف ضربة أخرى في "الدياليكتيك الترنسندنتالي" في نقده للعقل الخالص لكل البراهين الكلاسيكية لوجود الله، وهذه الانتقادات الراديكالية، وخاصة ما يتعلق منها بالبرهان الأنطلوجي، هي في معظمها مستقلة عن مبدأ نظرية المعرفة، ولها على كل حال إلى يومنا هذا تأثير على ثقة المختصين في الفلسفة في إمكانية العقل البرهنة على وجود الله.
وقد انتشرت انتقادات كنط هذه في كل مكان، على الرغم من أنه حاول في فرضيته الأخلاقية الموضوعية ترك المكان للاعتقاد بالله على حد تعبيره. ولازال لحد اليوم ما قاله هيجل قبل قرون ساري المفعول: "ليس هذا البرهان أو ذاك، هذا الشكل من البرهان أو ذاك، هذا المكان من البرهان أو ذاك هو الذي فقد من قيمته، بل إن البراهين الدينية للحقيقة في حد ذاتها هي موضوع تساؤل (نقد) طريقة تفكير هذا الزمن". فعدم جدوى هذه البراهين قد أصبحت حكما مطلقا(5)، وهذه الوضعية المزرية لازمت البراهين على وجود الله ولم يستطع هيجل منذ أكثر من 150 سنة إصلاحها حتى وإن كان قد قدم بعض الأدلة التي لم تعرف أي نجاح تاريخي لافي جانبها كنظرية للمعرفة ولا في جانبها الميتافيزيقي. وقد تقوت الانتقادات الكنطية بعد موت هيجل بشكل لقن لفيورباخ وكذا الورثة الكانطيين والهيجليين الآخرين على أن الطيلوجيا ما هي إلا أنطولوجيا، وعلى أن فكرة الله ما هي إلا تعبير داخلي للإنسان، عكس للتجارب الإنسانية، حاجات، أشواق، أو أنها فقط سلوكات سوسيولوجية، سيكولوجية أو اقتصادية في جانب خيالي. وقد استطاع فيورباخ وماركس، وكذا مجموعة كبيرة أخرى من المفكرين، إقناع الجزء الأكبر من مثقفي الإنسانية على أنه إذا كان هدف الميتافيزيقا، وخاصة عندما تكون معرفية فلسفية عقلية، هو الوصول إلى الوجود الإلهي المطلق، فإنها تكون غير معقولة.