abdo ثـــــــــــــــائر
الجنس : عدد المساهمات : 68 معدل التفوق : 176 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 28/01/2012
| | في بناء الحدث الإبداعي قراءة في المبادئ التأسيسية القاعدية للفعل الإبداعي | |
في بناء الحدث الإبداعي
قراءة في المبادئ التأسيسية القاعدية للفعل الإبداعي حبيب مونسي قد يكون من الغريب أن يلحق بعض الدارسين بالقراءة والقارئ نعوتا تثير شيئا من الدهشة، والتي تزول دواعيها سريعا إذا ما عرفت مراميها. لقد صرح ميشال شارل M.Charles: "أن القراءة، تتطلب من القارئ صفات خاصة كالجرأة، والعنف، والمنطق، والتوتر العقلي، والتحدي، فإذا كانت المخاطر التي تنطوي عليها القراءة مسطرة، فإن الفائدة المرجوة غير محددة، بعضهم فقط يتلذذ بهذه الفاكهة المرة دون خطر"1).
(وكأن الصفات المشار إليها، ضرورية لاقتحام حصون القراءة، وخوض مجاهل مسالكها، وعبور مفاوزها في جو غائم، غامض، تتجاوب فيه أصداء الكلمات، وتتقاطع فيه أشباح النصوص القديمة والحديثة، جيئة وذهابا، وكأنه عالم سحري، لا يعرف مبتداه، لا منتهاه. فالجرأة مطلب أساسي يمكن القارئ من اقتحام بحر الدلالة، وجوب لجة المعاني، وركوب التأويلات المختلفة. كما يقوم العنف مفتاحا لفتق المستغلق من المعاني، وتفجير نواة الكلمات، لتتشظى بعيدا عن المألوف والثابت، والجرأة والعنف لا يكتسبان "معقولية" الفعل الواعي إلا إذا اتشحا بالمنطق مرجعا لشحذ المعيار، وابتغاء الصواب. إن استقامة المنطق تكفل للجرأة والعنف، العدل وعدم الشطط والميل، وكل جريء فاتك يحيا في صولة التحدي والتوتر المستمرين..وربما كان في هذا التخريج "الملحمي" ستر لحقائق القراءة تحت ضوضاء الألفاظ، وبريق النعوت، ولكنه يقدم حقيقة جديدة لفعل القراءة، الذي عهدته الدراسات القديمة، فعلا مسالما تابعا للمعنى الأحادي القار في إطار من العلاقة الواضحة بين القارئ والمبدع[1]، أما وقد غدت القراءة اليوم أشبه شيء بقراءة الفلاسفة للموجود، وانفجرت حدود النص، فغمرت القارئ في إطارها وابتلعته لية، فإن مهمة الانعتاق من إطارها لا يكون بالموادعة والمسالمة، وإنما يكون بالمواجهة، وشق سبل في صلبها للخروج من دائرتها..لقد شهدت الدراسات على اختلاف مشاربها، أن العمل الفني يستغرق مبدعه لدرجة يكون فيها هذا الأخير مغمورا بين عناصره، غارقا في تفاصيله، وقد تراجع عالمه الخاص بعيدا وراء دائرة اهتمامه، لا يعبأ به كلية. وقد حمل التاريخ خبر "أرخميدس" ARCHIMEDE عندما سقطت أسوار "سيراكوز" SYRACUSE وتخللها العدو، وعاث فيها فسادا، والعالم الرياضي مشغول برسم دوائر على رمل الحديقة، فيتقدم منه جندي، السيف مصلت في يده، فقول له "أرخميدس": "لا تشوش علي دوائري" وهو في غمرة الإبداع، لا يأبه لسقوط المدينة، ولا لاقتراب الموت منه[2]. كذلك حال "بالزاك" H.BALZAC عندما قام يفتح الباب لصديقه، وعيناه مغرورقتان بالدموع تخفقه عبرة، فيسلم عليه ويخبره بموت "الدوقة لانجيه" La duchesse de langeais ولم يلتفت للموقف إلا أمام دهشة صديقه الذي لا يعرف دوقة بهذا الاسم، لا في باريس ولا خارجها، فيقول له "بالزاك" معتذرا، لقد فرغت من توي من وصف موتها في روايتي[3].إنه استغراق يسلب الفنان إدراكه الخارجي، فينطبق عليه العالم الفني كلية ويعزله عن الخارجي، فلا يبقي له القدرة على استشراق عمله الخاص، أو الإلمام به. وهي حالة توحي بعدم تحكم الفنان في عمله، وأن هناك متحكمات أخرى خارجية ينصاع لها الفنان، عن وعي أو لا وعي منه، توجهه وتقوده في دروب الخلق الفني الغامضة. لذلك كانت القراءة –في هذا الوجه مرتبطة- ارتباطا عضويا بالعملية الإبداعية توقف عليها شرط الفهم والاستفادة. وكلما ازداد إدراكنا للعملية الإبداعية، وفهمنا لميكانيزماتها الفاعلة، كلما كان فهمنا للفعل القرائي أخصب وأبعد إيغالا في عالم المعنى.1 – البناء، الحدث الإبداعي:إن لمصطلح "الخلق" –عندنا- حيثيات "قدسية" ترتفع به إلى الاقتدار الإلهي، وتجعله "فعلا" إلهيا قائما بين الكاف والنون، ذلك أن الخلق إيجاد من عدم، وعلى غير مثال، قد حاول بعض فلاسفة الإسلام تفسيره، وقد عجبوا كيف يخاطب الله عز وجل الشيء الذي يريد خلقه بـ"له" في قوله "أن يقول له كن فكون" وهو غير موجود البتة، فكيف تسنى له مخاطبته وهو لم يخلق بعد؟ لذلك قالوا: لله أمور يبديها ولا يبتديها، وكأنه خلق الأشياء قبلا، ثم هي تظهر في عالم الناس بـ"كن" تباعا[4]. ومهما يكن من تفسير، فإن فعل الخلق يكتسب قدسيته من الإبداع على غير شاكلة، ولا منوال، ولا وجود. فهو اقتدار تتجلى فيه منتهى القدرة. وقياسا عليها درج الناس من مختلف الشعوب على إلحاق الجديد البارع الذي يحدث في النفس دهشة اللقاء مع الغريب المتفرد بـ"الخلق" و"الإبداع"، وما إضافة "الفني" إلا نعتا يلطف من الفعل الإنساني، ويجرده من قدسية الفعل عند الخالق. ويكون إلحاق النعت "الفني" عندما نشهد ميلاد الأثر الذي بإمكانه تخطي الزمن دون أن تذوي نضارته، ويجف ماؤه، وكأنه قد اكتسب سمة الخلود والبقاء رغم التحول المستمر في الأشياء.لقد كانت إضافة المقدس للخلق تأتي من هذه الجهة لتأكيد عنصر التفرد والبقاء في ذات الوقت. ذلك أن الدهشة تنتابنا عندما يتخطى الأثر الفني حقبته الزمنية لحقبة أخرى. عندها فقط ندرك أن العبقرية قد تجسدت في الذات، وأن الإبداع قد تجلى في الأثر، لأنه: "تجاوز القانون الذي يحتوينا، وهزم الزمن، وترك فيه أثرا لا يمحى، بينما نمر نحن دون أثر يذكر. لأنه حقق الفعل المقدس للخلق، والذي يخلف شيئا باقيا دائما، وتجلى فيه أعمق سر في العالم، سر الخلق"[5].لقد اتسم كل اقتراب من الأثر الفني بشيء من الرهبة والتواضع، وكأن شيئا يتجاوز الاستطاعة، وليس من سبيل للمسك به إلا محاولة فهم التركيب، ما دام بناء الأثر الفني حالة فردية، داخلية، يكتنفها الغموض، ويتعذر الوصول إليها عبر الإدراك البسيط، أو الحدس الغامض. لقد ظلت محاولات التفسير عاجزة عن المسك بالتفاعلات شبه الكيماوية التي تحدث ببين الذات والفكرة، ودرجات الانصهار بينهما قبيل الإجراء العملي للأثر.1-1-مبدأ التخييل:لقد أقام "فرويد" S.Freud الفن على نوع من المهادنة القائمة بين عنصرين متعارضين في حياة الفنان. وهما "مبدأ الواقع" و"مبدأ اللذة" عن طريق: "إبعاد الدوافع غير المقبولة اجتماعيا من وعي الإنسان، وعلى إبعاد النزعات الواقعية من حياة الإنسان، وعلى المحافظة على التوازن النفسي"[6]، فيتخذ الفن مسلك العلاج الواقعي الذي يتيح للفرد التحرر من قبضة العالم الخارجي.وجعل "برغسون" الفن تعاليا تمتد بواسطته الذات، لتجاوز اليومي والعرضي الزائل إلى جوهر الحقائق في صفائها وتوهجها، وكأن الفن عين ميتافيزيقية تتيح للذات استكمال رؤيتها الخاصة، غير أن "فرويد" يقيم علاقة الذات بالعالم الخارجي على الصراع، والصدام، والقهر، فتتوسل الذات الفن لتتخذه منجاة لها من ضغط الواقع. وتعمد إلى التخييل آلية فذة في إطلاق العنان للرغبات المكبوتة حتى تحقق إشباعها النوعي الخاص. وكأن الفن تعويض متسام للرغبات التي حال دونها القهر الاجتماعي، في ثوب من الغموض الرمزي الذي تتعدد دلالته، وتعفي على الأصل الذي أنشأها، فتكون نهبا لكل تأويل وتفسير.وقد يذكر التعويض "الفرويدي" بالتطهير "الأرسطي"، أو هو كتابة "فرويدية" له. وكما كان التطهير الأرسطي قاصرا دون غموض العملية الإبداعية، فإن آلية التصعيد الفرويدية قاصرة هي الأخرى. وقد أكد فرويد ذاته: "أن هذه النظرية تخمين لم يثبت بالدليل.. ولا تقدم تفسيرا كاملا لطبيعة الفن"[7]. بل ويزعم "فرويد" أن مبدأ التعويض لا يقف عند الفنان، وإنما يتعداه إلى المتلقي، ما دام المتلقي ينجذب إلى التلبية الوهمية لرغباته اللاشعورية المخفية بعناية عن الآخرين، وعن نفسه. وبذلك يجعل من التعويض الوظيفة الأساسية للفن. وهو تعميم يثقل كاهل النظرية، ويقصرها على ميكانيزم واحد، تتعذر معه رؤية الميكنيزمات الأخرى الفاعلة في العملية الإبداعية.ويقوم "التخييل" على إثارة الذاكرة وحثها عن طريق التصور على استدعاء المخزون المعرفي عند المتلقي حتى يتمكن من استيعابها عن طريق الخيال، بعيدا عن البرهنة العقلية. وهي خاصية تجعل للرمز سلطة الإثارة، وتوجيه الإدراك في مسالك المعاني المحتملة، التي يوحي بها الصنيع. وهو يقبلها لا على أساس صحتها، وإنما يقبلها على أنها منسجمة مع المطلب العام للأثر. وفي هذه الخاصية وحدها يتجلى الجانب الواعي في التخييل. فإذا كان "فرويد" يجد فيه تعويضا لا شعوريا، فإنه لا يعبأ بالإرادة الواعية التي تتعامل مع العناصر الفنية في هندستها وإخراجها. ومن ثم لا يكون التخييل أبدا نزوعا يقع خارج الإدارة، أو على هامشها. وإنما يقوم الأثر على الصياغة والبناء. ذلك أن القيمة الجمالية للعمل لا يمكن أن توجد إلا في العمل الفني لا في منشئه. فإذا كان الداعي واحدا لدى مجموعة من الفنانين، فإن الناتج لا يقاس بشدة الدافع وقوته، وإنما بجودة الأثر واكتماله. وقد أشار "ل.س.فيغوتسكي" إلى ذلك قائلا: "إن الكاتب لا يقتفي في إبداعه، أثر النزاعات والصراعات اللاشعورية وحدها، ولا يقوم في إبداعه بتأدية أية مهام اجتماعية واعية إطلاقا، هو قول لا يتجرأ عليه إلا من أعرض بصورة نهائية عن السيكولوجيا الاجتماعية، وأغمض عينيه عن الواقع"[8]. ما دام المطلب الاجتماعي لا يتوقف عند عرض التعويض، بقدر ما يطمح إلى إشباع جمالي مكتمل، يجسد العبقرية والنضج الإبداعي.وليس "التخييل" فعلا مطلقا يأتيه الفنان في معزل عن الواقع، بعيدا عن عناصره، ولكنه فعل يكتنفه ما يكتنف الأفعال الأخرى من حيثيات ارتباطها بالزمان والمكان. ولا يخرج التخييل عن هذا الشرط. فهو يستلم مادته من معطيات عصره، يشكلها بحسب الأذواق السائدة، وفق أشكال الرغبات ومداها. بيد أن التخييل لا يظل مرهونا بصاحبه، فهو في جيل لاحق ملك لعصر آخر، يلحق به سيما لم تكن له من قبل، وهي تختلف اختلافا كليا عنها.لقد أوقف الزعم الفرويدي التخييل على المقاصد الكامنة في التعويض، فألزم الأثر الفني معنى جوهريا قد تتعدد أعراضه، ولكنه يبقى واحدا في كل حال، لأنه يحيل على وضعية واحدة. غير أن التخييل –وهو يرتبط بالوسط- يفسد على "فرويد" واحدية القصد، ويعطي الأثر إمكانية أخرى يستقل فيها الأثر استقلالا كليا عن مبدعه. فكما: "أن تخييل الفنان لا يضمن القيمة الجمالية للعمل، فإنه لا يستطيع أن يضمن ما ستكون دلالاته بالنسبة إلى جماهيره المتغيرة"[9].لقد تأسس الفهم الفرويدي على مسلمة بسيطة –ولكنها غير مؤسسة- ترى وجود تواز بين شدة الحالة النفسية للفنان وشدتها في الأثر الفني، وكأن الصياغة ضرب من التمثيل الحقيقي لحالة الفنان في الخارج، غير أن ميكانيزم التعويض لا يسلك أبدا عين الاتجاه عند سائر الفنانين، بل قد يغير من وجهته لدواع أكثر وعيا بواقعه، وشروط ظروفه. الأمر الذي يعطي للأثر الفني استقلالية وطابعا خاصا به، لا تبحث خصائصه في خصائص صاحبه، وإنما فيه وحده. وقد عبر "تشايكوفسكي" عن ذلك قائلا: "إن العمل الذي يؤلف في أسعد الظروف قد يصطبغ بألوان قاتمة كئيبة"[10]، لا تجد تفسيرها في الحالة التي تغشى الفنان أثناء العمل، بل في طبيعة العمل ذاته، في موضوعه، وشكله، وأسلوبه، بعيدا عن مزاج المؤلف وهو يمسك بقلمه.1-2- مبدأ الوعي:كما أقام "فرويد" الفن على التخييل، وفسر الفن بالتعويض، وأعطى اللاشعور أولوية توجيه الإبداع، فإن سانتيانا G. SANTAYANA (1863-1952) يجعل الفن نشاطا "واعيا بهدفه" يتأسس على نظرة تخترق المستقبل لترى صورة تحققه الأخير، ولو على سبيل الإجمال، كرؤية شمولية لا تستبين الجزئيات، ولكنها رؤية "تعرف" بصورة ما الكيفية التي تريد أن يكون عليها العمل. لذلك يعمد الفنان إلى المسودات تلو الأخرى يتحسس من خلالها الشكل الذي يختار، والصورة التي يطمح أن يكون عليها الأثر الفني. لذلك جعل "سانتيانا" مولد الفن في نتاج التناسق بين الأفكار والأفعال لغرض تحقيق الاستمتاع، والوصول إلى حالة الإشباع[11]. ولا يتأتى التناسق بين الأفكار والأفعال إلا في وسيط تتجلى فيه مهارة الفنان وبراعة استخدامه. إذ لا معنى للفكرة معلقة بعيدا عن الفعل، ولا وجود للفعل من دون مادة. لذلك كان الفن "معالجة" بارعة للمادة من أجل هدف[12]. وهو تعريف يتجاوز عالم الفن إلى الجانب العملي من الحياة كلها، ما دام ميدان الفن: "هو ذاته ميدان سيطرة الإنسان الواعية على عالم المواد والحركات التي ينبغي على الإنسان أن يستوطنه، وعلى عالم الدوافع الباطنية والعمليات الآلية التي تؤلف كيانه الباطن"[13].إن الحياة سيطرة واعية على الخارجي والداخلي في آن، والتي تمكن الفنان من الانتقال من المادة إلى الصورة: أي من المادة الصلبة إلى المادة المكيفة مع الرغبة، والتي تقع خارج مطالب الحياة، وضرورات العيش. لذلك يفرق "سانيانا" بين القيم الأخلاقية والقيم الجمالية، فيجعل الأولى قيم الواجب والالتزام. والتكليف. ويجعل من الثانية قيم الحرية والنشاط المنطلق. وهي قيم مكتفية بذاتها تكيف الإحساس بوجود خير مطلق[14]. وكأن الفن منزه عن كل منفعة، منفصل عن ضرورات الحياة اليومية. فإذا اقترنت القيم الأخلاقية بالنشاط الجدي الشاق، لأنه صراع ضد الخطيئة، فإن القيم الجمالية تقترن باللعب والنشاط الحر. كذلك كانت الأحكام المرتبطة بها أحكاما جزئية، نسبية، محللة. الأمر الذي يوسع من دائرة التلاقي بين الأطراف المختلفة، ويكمل نظراتها للفن، وقبول الرأي الآخر المخالف.لقد اعتبر "سانيانا" اللذة معيارا جماليا، حين اعتبر الجمال" تلك اللذة المتجسدة في صميم الموضوع"، أو تلك "المتعة الباطنية في صميم الشيء". وأنه اللذة المتحققة موضوعيا، والتي تتيح إشباعا نفسيا. إنه الجمال الذي تلحظه عين الوعي الشاخصة، والتي تدرك فيه الملاءمة التي تعطي لكافة الحواس قدرة الإدراك والإحاطة بالموضوع الجمالي. إذ الجمال كذلك تضافر الإدراكات الحسية وتآزرها في آن.لقد حصر "سانتيانا" الوعي في الإدراك الحسي وحده، وجعله تمظهرا ماديا وحسب، تتعرف عليه لذة الحس الخارجية، وتتلذذ بوجوده جرما قائما إزاءها، تتحاماه الإدراكات متضافرة لتحسس أبعاده المختلفة. ومن ثم كانت معاييرها خارجية، مادية، تقوم على التوافق والانسجام، بعيدا عن كل تعاطف حميمي مع الموضوع. فإذا كانت "سانتيانا" قد خلص الفن من هيمنة اللاشعور وجعله نشاطا واعيا ينشأ من لقاء الفكرة بالعمل لتوليد اللذة، فإنه جعل اللذة خارجية، قائمة على الإدراك الحسي وحده، مؤكدا بذلك انفصال الذات عن الموضوع.لقد اضطر "سانتيانا" لتأكيد انفصال الذات عن الموضوع إلى وضع مقومات للجمال، تنسجم مع التصور السابق، وتقيم للجمال كيانه –فإذا اختلت، أو اعتراها النقص، كان أثرها سلبيا على الجمال:1-2-1-للوظائف الحيوية عند المتلقي الدور الحاسم في إدراك الجميل الحسي، وكل قوة للجمال إنما تتوقف على سلامة هذه الوظائف وقوتها. لذلك كانت الصحة شرطا ضروريا تستند إليه سائر اللذات.وإذا اعترى الوظائف الحيوية، ومنافذ الإحساس تشوش، أو ضعف أو قصور، انقلب ذلك سلبا على الموضوع الجمالي، وفقد الكثير من سيماته الجمالية. وذلك أن العناصر المادية هي الركيزة الأساسية والدعامة الأولى التي ينبني عليها كل تأثير فني. ومن المؤكد أن المادة هي مبدأ (أو بداية) الجمال، كما أن الإحساس هو مبدأ (أو بداية) المعرفة[15]. إن شيئا من "الأبيقورية" يتفصد عن هذا الزعم، ويعطي للجسد أولوية في تلقي اللذة الحسية التي تقف عند الذات، ولا تتجاوزها إلى غيرها. الأمر الذي يسلب الفن كل خاصية للتواصل ويوقفه عند حدود الغاية. كما أوقف "سانيانا" غاية الفن عند اللذة، وحال دون كونها وسيلة لتجاوز الحسية إلى المعنى الباطن الذي يحمله كله أثر جمالي، ويجعله رسالة ناطقة.1-2-2-يقوم الشكل على إرادة واعية لخلق التناظر الذي يفضي إلى الإحساس بالانسجام، والتكافؤ والاقتصاد. وهي "حالات" يكتسبها الشكل من النشاط الواعي في الوسيط لتحقيق الغاية الكامنة وراءه. لذلك تجد النفس ارتياحا، وهي تتابع الإيقاع والتنظيم، الذي يلحق المادة من جراء التدخل الواعي والبارع للفنان. وليس أدل على هذا من مثال السماء المرصعة بالنجوم، والتي تمتلك وحدة، ولكنها تفتقر للتعبير، افتقارها للبناء والتنظيم.لقد أقام "سانتيانا" الموضوع الجمالي، كما يقيم المهندس المعماري تصميمه، ثم إنجازه، فتكون العمارة مصدر لذة تفعم صدر المهندس والمتلقي. ولكنها لا تقيم بينهما تواصلا، إذ يكتفي كل واحد منهما بموقفه الخاص، ويظل الشكل –هناك- يحمل تعبيرا من قسماته الخاصة في إطار كلي من التنظيم والوحدة. لقد أثر هذا الزعم كثيرا في الرؤى النقدية اللاحقة، وترتبت عليه أحكام أساءت كثيرا للصنيع الفني عموما، والأدبي خصوصا.1-2-3-لم يفسر "التعبير" كخاصة بنائية أسلوبية في الأثر الفني، وإنما جعل كمجموعة من التأثيرات الانفعالية: "التي تضفي على المضمون الجمالي لأي عمل فني دلالة وجدانية خاصة، تختلف باختلاف الذكريات والارتباطات التي تتولد في ذهن المتذوق لهذا العمل"[16]، فالتعبير –إذن- قسمة بين الأثر الفني والارتباطات الناشئة عن الذكرى عند المتلقي، فهو عملية منفصلة عن الأثر قائمة عند المتلقي، فهي نسبية متحولة من ذات لأخرى، تجعل المعنى قائما خارج الأثر، مفارقا لبنائه وتنظيمه.لقد اعتبرت "النظرية التعبيرية" Expréssionisme التعبير امتدادا للذات إلى الموضوع، وإسقاطا لمشاعرها عليه، وتحقيقا للون من التطابق بينها وبينه، وهي صورة يرفضها "سانتيانا" لأنه يجد التعبير مجموعة من الانفعالات الوجدانية تنضاف إلى الموضوع الجمالي بسبب ارتباطه في تجربتنا ببعض الخبرات السابقة[17].1-3- مبدأ الموقف:لقد احتلت مقولة "الموقف" مكانة بارزة في الدراسات البلاغية الجمالية منذ "أرسطو". عندها أخذ الموقف سلطته على اللغة من خلال فرض شروطه الزمنية والمكانية على العبارة، وتقديم حيثياته أطرا للقصد الذي يتوجب على اللغة حمله. لقد سمى العرب القدامى الموقف "مراعاة مقتضى الحال" وكأنهم –بذلك- يغلبون الموقف ويجعلون له أولوية على التشكيل اللغوي. ولا تدرك هيمنة الموقف على التشكيل اللغوي إلا من خلال تلمس آثار فعله في النسيج الكلي للعبارة. وقد يسهل علينا تمثل ذلك من خلال ملاحظة الصياغة في الأمثال التي يظهر فيها ميسم المواقف جليا للعيان.خاطب أعرابي أخاه والسيل يجرفه: "يداك أوكتا، وفوك نفخ"[18]، وسواء صاح بها في وجه أخيه، أم قالها لنفسه، فإنه في هذا الموقف لا يعلم أخاه بغرقه، لأن الغريق يعاني الغرق ويكابده، ولكنه يقوله في صيغة تدفع عنه مسؤولة هلاك الغريق، لذلك جاءت الصياغة غريبة في ترتيبها، إذ قدم عقد الوكاء، وأخر النفخ لأن سبب الغرق يعود إلى وهن الوكاء لا إلى سلامة النفخ، فالذي أهلك الأعرابي وهن وكائه. لذلك جاءت العبارة تحمل في صياغتها وجهين من الدلالة: الوجه الذي ذكرنا ودفع تبعة الهلاك عن نفسه، وكأنه يقول له: "لست في هلاكك في شيء، فأنت الذي عقدت الوكاء بعد النفخ. والواقع أن: "الموقف الذي نتخذه هو الذي يتحكم في طريقة إدراكنا للعالم"[19].إن الموقف هو طريقة توجيه إدراكنا نحو العالم وأحداثه، ذلك أن الكيفيات التي ندرك بها الأحداث والأشياء هي التي تحدد فهمنا لها وتبني تصوراتنا، وتعطيها أبعادها المختلفة. بيد أن هذه الكيفيات لا تنطلق ابتداء نحو العالم، وإنما تسيرها وتوجهها الأغراض الوقتية، والمطالب الحياتية. فهي –بذلك- تحدد كيفية إدراك العالم. وإذا عددنا كيفيات الإدراك بعدد الذوات المدركة، فإننا نعدد رؤى العالم عند الناس، ونقر باختلافها وتنوعها.إن الموقف لا يوجه الإدراك وحسب، وإنما –في ارتباطه بالأغراض- يوجه السلوك ويفرض عليه سبل تحقيق ما يمليه الموقف، ويمكن من التكيف معه بحسب المصالح العاجلة والآجلة. ولا يخلو ذلك السبيل من اتخاذ أحكام قيمة ترتبط هي الأخرى بمدى الاستفادة من المواقف استحسانا واستهجانا[20].لقد ارتبط فهم مقوله الموقف "بالنزعة البارغماتية النفعية"، التي تجعل كل سلوك تكيفا نفعيا إزاء المواقف، وهي التي تحل الموقف النفعي العملي محل الموقف الجمالي المحض. لأنها تعمل -في ارتباطها بالأغراض– على نفي الموضوع المدرك لذاته، الخالي من كل فائدة. فالجميل هو النافع حتما. وعندما يكون "موقفنا عمليا لا ندرك الأشياء إلا بوصفها وسيلة لهدف يتجاوز تجربة إدراكنا لها"[21].يضيف "جروم ستولنيتز" J.Stolnitz للموقف العام موقفا خاصا يسميه الموقف الاستطيقي، ويعرفه بأنه "انتباه، وتأمل متعاطف، منزه عن الغرض، لأي موضوع للوعي على الإطلاق، من أجل هذا الموضوع ذاته فحسب"[22]. ثم يمضي مناقشا عبارة التعريف متوقفا عن "منزه عن الغرض" و"المتعاطف" و"انتباه"، وفي مناقشته تقوم الردود على النزعة النفعية، ودفعها بعيدا عن ساحة الفن والجمال. ثم يميز بين الإدراك العملي الذي يدرك فيه الموضوع بغية معرفة أصله ونتائجه، وعلاقته المتبادلة مع الأشياء الأخرى، والإدراك الاستيطيقي الذي يقوم فيه الموقف الاستيطيقي "بعزل" الموضوع، والتركيز عليه بعيدا عن كل المؤثرات الخارجية التي تحاول استلابه، وإلحاقه بالمواقف العملية الأخرى. ويقوم "التعاطف" حركة تقبل الأثر الفني دون سابق فكرة، أو سابق موقف منه، وإنما يفرض "التعاطف" على المتذوق قبول الأثر على أنه كذلك: فيه من الحيوية والإثارة القسط الذي يخول له أن يكون أثرا فنيا. وكأن "التعاطف" يعطي "فرصة" لكل الآثار الفنية أن تكون كذلك بعيدا عن اعتبارات خارجية.ويرى "كيت هفنر" K.Havner أن الذوق في التجربة الاستيطيقية وعي وتنبيه وحيوية[23]، وهي خطوات ثلاثة تؤطر كل إدراك، وتعطيه مصداقيته، فلا يكون الإدراك مجرد انفعال طائش غير منظم، بل "وعيا" ينتظم الموضوع الجمالي في شموليته وعلاقته بالموضوعات الجمالية قبله. ثم يقوم "الانتباه" بتخلل جزئيات الموضوع الجمالي لفرز عناصره، وبيان تفرده واختلافه عن التجارب الأخرى. وتعطي "الحيوية" لهذه الأجزاء أثناء عملية التركيب إشعاعا جديدا تتلاقى فيه الخبرة بالتجربة الجمالية. ولا يمنع "التعاطف" من إبقاء الموضوع الجمالي بعيدا عن الذات، يرقبه الوعي للتأكد من التفاصيل المكونة للهندسة الكلية. ويحفظ للإدراك تدرجه "المنطقي" حتى لا يكون عرضة لقفزات متعثرة تضيع معها وحدة العمل.ويكتسب "الموقف الاستيطيقي" ديناميكية خاصة، حينما يتيح لأي موضوع كان أن يدرك بصفة استيطيقية، فيتحول العالم بعناصره المختلفة إلى موضوعات استيطيقية، بل يتجاوز الجمال والقبح –على صعيد واحد- مع الخير والشر، فتدرك العناصر السلبية إدراكا استيطيقيا بعيدا عن كل حكم قيمي، قد يخلع عليها مسحة أخلاقية. وقد قال "أ.م بارتلت" EM BARTLETT: "في استطاعتي أن أرى القبح بطريقة استيطيقية، ولكني لا أستطيع أن أراه جميلا"[24]. وكأن القبح هنا قد انسحب من الوجود المادي إلى الوجود الرمزي، تزول معه مادته، ليرتفع مرة أخرى إلى المستوى الاستطيقي.1-4-مبدأ التعبير:يسلم جيروم ستولنيتز بأن مصطلح التعبير من أكثر الألفاظ شيوعا في لغة الفن. ولكنه رغم شيوعه يتشح بالغموض لتشعب المطالب القائمة وراءه في كل حديث. وهو في عالم الفن قد يشير إلى خاصيتين: إلى عملية الخلق الفني في عمومها، أو إلى سمة كامنة في العمل ذاته، فيكون التعبير خاصية لذلك العمل، من بين جملة خواصه البنائية. إلا أن الفهم الجديد يجعل التعبير بعدا من أبعاد الفن كالمادة، والشكل، فهو الحجرة الثالثة لأثافي القدر، به يكتمل الصنيع الفني، ويأخذ سمته الدالة[25]. عندها نكون إزاء مظهرين للتعبير في الأثر الفني، يجب الانتباه إليهما عند الاقتراب منه. يتجلى المظهر الأول في كونه بعدا من أبعاده، ويتشكل الثاني في تقاطع السياقيات المختلفة فيه. الأمر الذي يوحي لنا بوجود لونين من التعبير يحملهما الأثر في ذات الآن، يشكلان أخيرا حقيقة التعبير في الأثر جملة.غير أن هذا التقسيم المبسط لا يزيد الأمر وضوحا، ولكنه يبعث على الريبة، مادمنا نشهد –على صعيد آخر- وضع الفنان وهو يزداد ضيقا وجرحا خاصة: "وأنه جرد من الموضوع، ومن التحكم في أناه، من خلال اكتشاف إنسان آخر يسكنه، ويتحدث بلسانه. وكما جرد من توهم الواقع الذي كانت الكلمات تشير إليه، من خلال اكتشاف أن الرموز هي التي تنظم الواقع وتخلقه"[26]. ولم يعد الكاتب ذاتا واضحة المعالم بينة الحدود، ذات ميزات يستقيم معها تحديد التعبير، وضبط القصد. إن الدراسات الجمالية تؤكد انتفاء التعبير مع غياب الموضوع. لأنه يتعذر على الأشياء الغفل، غير المنظمة أن تكون لها تعبيرات دالة، بيد أن النقد الجديد يؤكد غياب الموضوع في الكتابة الحداثية، وكأنها مصادرة لنفسها، تحيل على بياض وحياد، حسب زعم بلانشو M.Blanchot الذي يؤكد بأن "كل كاتب –من خلال فعل الكتابة- لا يفكر، فهو في الحقيقة لا يكتب"[27].وإذا أضفنا غياب الذات أو ازدواجها، وخواء اللغة وعجزها عن تحديد الواقع ماديا، أو معنويا على الأقل، تبينت لنا خطوة مبدأ التعبير طرفا ضروريا في بناء العملية الإبداعية. ولم يعد المؤلف يكتب بعين السذاجة التي يتحدث بها، وهي حالة من اللبس عاناها كافكا F.KAFKA من قبل، لقد كتب يقول وكأن كلماته تحمل دهشة المكتشف لوضع جديد يحياه: "أن أكتب خلاف ما أتكلم، وأتكلم خلاف ما أفكر، وأفكر خلاف ما يجب علي أن أفكر، وهكذا إلى غاية أعمق الظلمات"[28]. وكأنها ملاحقة لاهثة وراء مطلب غامض، يبتعد كلما اقترب منه، حتى تبتلعه ظلمات الحيرة، وتعود الكتابة فارغة مجهدة تلوك أصواتا لم تعرف كيف تمتلئ تعبيرا. وأمام هذا الموقف، لم يكن أمام النقاد والأدباء إلا الاختيار بين الدلالة والفراغ، بين التواصل والصمت، الأمر الذي أجبر "روبير إسكاربيت R.ESCARPIT على أن يقول: "أن يكون لنا أدب متوسط (Médiocre) يتحاور مع شعبه أفضل من أدب جيد لا يسمع أصوات من هو تعبير لهم"[29].إن بين حيرة كافكا وموقف إسكاربيت مسافة تشغلها مسألة التعبير، وتحدها في طرفين: سالب وموجب، تنتقي مع الأول أشكال التواصل التي حملها الفن منذ آماد بعيدة، رسالة تجتهد في تبليغ قصد صاحبها، محمولا على تداعيات يرفدها السياق، والشكل، والمادة. ويحاول الثاني إبقاء حاسة التواصل يقظة، حتى ولو ضحى بقسط من التقنية والجمال.لقد كانت وضعية مأساوية حملها القرن العشرون حملا جنينيا أول الأمر، ولكنها لم تفت عين الرقيب. لقد كتب فلادمير ويدلي V.WEIDLE عام 1936 مبينا أن بروست PROUST وجويس JOYCE ينتهيان إلى عين النتيجة: "انتفاء الرواية شكلا منبثقا عن الحياة في ثوبها الفني"[30]. ثم يفسر أفول العالم المتخيل بعزلة الفنان ووحدته، في عالم انفصل عنه، ولا يرغب في الانتماء إليه، والاعتقاد فيه، ويرفض أن يظهر أمامه ذاتا مغذية مقهورة.إن معضلة التعبير تأخذ بعدها المأساوي من وضعية الفنان إزاء ذاته وإزاء الآخرين. وهي وضعية تكشف الدراسات النقدية ذات المنحى الفكري عن تفاقمها حينا بعد حين، وكأن الفتق يزداد كلما أمعن الواقع في غيه، واستمر يسحق الذات الشاعرة، فتدير ظهرها وتتجاهله. ولكنه ما يزال منتفضا وراءها لا يعبأ بها. لقد رأى هنري ميللر انقراضها وشيكا، فهو يقول: "لم يكن الشاعر مهددا مثلما هو اليوم، إننا نخشى انقراضه" | |
|