عبدالوهاب حميد رشيد / اختراعات ما بين النهرين* أنظمة التعليم والمدارس.كان لاختراع الكتابة في بلاد سومر منتصف الألف الرابع قبل الميلاد الأثر الأكبر في نشوء أول المدارس ونظم التعليم في العالم القديم. لم يكن التعليم مقتصراً على رجال الدين والنبلاء، كما في بعض الأقاليم المجاورة، إنما توفر للعامة. وهذا ثورة بحد ذاته… حقوق المرأة ومكانتها المتميزة في المجتمع ارتقت المرأة في الحضارة العراقية مكاناً متميزاً. منذ ومضات الوعي الأولى، ارتبطت بالأرض، فهي الأم، المانحة للحياة، الملكة الراعية، والربة الحامية. لذلك منحها المجتمع حقها ومكانتها بتميز وتقدير، لم تألفه الحضارات المجاورة. مجلس إدارة الحكم ( الكونغرس ) ومبدأ الشورى والانتخاب تذكر ألواح ملحمة كلكامش بأن مدينة اوروك، كانت تتمتع بأول مؤسسة حكم في تاريخ البشرية. كان هناك تطبيق لمبدأ الديمقراطية بصورة مجلس تمثيل للشيوخ، وكذا نظم تشريع وقضاء وجيش منظم من تشكيلات عسكرية مختلفة (مشاة وعربات واستخبارات). خريطة العالم البابلية أقدم خريطة في التاريخ تعود للحقبة البابلية المتأخرة (بحدود 600 ق . م). كان التوسع الإمبراطوري لبابل الكلدانية والازدهار العلمي، سبباً لابتداع العقل العراقي وسائل أفضل للتخطيط الجغرافي بغرض السيطرة على الأقاليم. عدسة النمرود أول حجر كريستالي ربما استخدم من قبل الآشوريون لأغراض التكبير في المشاهدات الفلكية كعدسة مكبرة، يبلغ عمرها 3000 سنة. وقد تم اكتشافها في موقع النمرود الآثاري وهو الآن في المتحف البريطاني.
نظم الري منذ مطلع الألف السادس ق.م، ابتدع سكان ما بين النهرين أولا وأعقد نظم ري للاستفادة القصوى من مصادر المياه المتوفرة بالنهرين العظيمين دجلة والفرات. وربما كانت جنان بابل المعلقة وعجيبة العالم القديم، هي ذروة الإبداع العراقي في هندسة الري. القانون والتشريع لا يفترق اثنان أن أول شرائع كتبت على أرض العراق، في البدابة، كانت شريعة اورنمو- العاهل السومري في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. وكان كل عاهل عراقي يليه يتفاخر بسن شرائعه لتتوج الجهود برائعة حمورابي البابلية، أصل القانون الحديث. نظام الأعداد، الحساب والهندسة يعتبرالإنجاز الذي حققه العراقيون القدماء من جهة تطوير علم الرياضيات والحساب، بالإضافة إلى إسهاماتهم المجيدة في إطار نظام الأعداد واختراع مبدأ الصفر الحسابي، حجر الزاوية في علوم الفلك وما تلاها من تطور علمي شامل. علوم الفلك والتنجيم بلا فخر، يتسيد علماء بابل وكهنتها الكلدان، قائمة الآباء المؤسسين لعلم الفلك بشكله الحالي. لايستطيع الغرب أن ينكر أن الحجر الأساس لهذا العلم قد أُرسي في بابل العراقية. الزجاج قبل ما يقرب من 3500 سنة ق.م استطاع الإنسان العراقي أن يستفيد من الرمال المتوفرة بوفرة في محيطه المعيشي، ليخرج بإنجاز ثوري في مجال صناعة التزجيج. اختراع الأشرعة، صناعة القوراب، ونظم الملاحة كانت الحاجة للانتقال والتجارة بين سومر وبلدان أعالي الخليج ( تلمون ومجان ) ومن بعدها بلاد السند، السبب في تطور صناعة القوراب والأشرعة ومن بعدها نظم الملاحة البحرية.
بطارية بغداد سبقت بطارية بغداد اختراع اديسون للطاقة الكهربائية بحدود ألفي عام، في 250 ق.م- خلال الحقبة البارثية- ( بعد غزو الاسكندر المقدوني ) لبلاد الرافدين. أغلب الظن أن الحاجة لطلاء المعادن كانت الحافز خلف ظهور هكذا إعجاز علمي. العمارة و اختراع القوس المعماري أول ظهور للقوس المعماري في التاريخ يعود إلى مابين الألف الثالث ومنتصف الألف الثاني ق.م. اخترعه السومريون لتشييد أكواخهم من القصب والبردي في السهل الجنوبي، ومن ثم طوروه ليلائم البناء بالطابوق والآجر المفخور. نشوء المدن، تقنيات البناء والتخطيط العمراني أول مدينة ظهرت في التاريخ البشري كانت اريدو- الموقع المقدس الأول لنزول الآلهة بين البشر في مطلع الألف الرابع قبل الميلاد. كان نشوء المدن كمراكز للحياة علامة بارزة في حياة العراقيين الأوائل. المحراث يعتبر الفلاح العراقي أول من اخترع وطور آلية الحرث وتقنيات رش البذور في نفس الوقت. ويعتقد العراقيون الأوائل أن الإله انليل هو من أوحى بفكرة ربط الحرث بتغير المواسم وعلم الفلك الري، الزراعة والتدجين في مطلع الألف السادس قبل الميلاد، طور العراقيون الأوائل القاطنون في السهل الرسوبي بين دجلة والفرات تقنيات الري الأولية للتغلب على تقلبات الطبيعة لأغراض الزراعة وتدجين الحيوانات العجلة والقرص الدوار تعتبر فكرة القرص الدوار إحدى أهم الإنجازات الرافدية. الفكرة انبثقت من الرحى الطينية المدورة المستخدمة لطحن البذور، ومن ثم تطورت لاستخدامات أكثر تعقيداً، كالعجلة والعربة، لاستخداماتهما الزراعية في السهل الخصيب. ومن ثم اتسعت الاستخدامات لتشمل جميع النواحي.
تطوير الوعي الديني أسهم العراقيون القدماء بتطوير الحس الديني وارتقائه، كانت الغاية هي الاقتراب من قوى الطبيعة المحيطة بهم والمتمثلة بالهة مختلفة تقدر مصير البشر، ومن ثم تعقدت هذه المنظومة الفكرية لتشمل عملية خلق الكون والإنسان والتساؤلات الفلسفية عن جدوى الحياة الأرضية… اختراع الموسيقى لايختلف اثنان أن أول نوطة موسيقية دونت في التاريخ هي من أرض سومر. كانت الموسيقى مصاحبة للأعياد والمناسبات الدينية والحكومية الشخصية لحكام بلاد الرافدين. وجدت أقدم قيثارة سومرية في المقبرة الملكية في اور، وتوجد مدونة عن نوطة موسيقية سومرية… أدب الملاحم لا مجال للشك أن فكرة الملحمة كعمل أدبي ديني ووسيلة لتدوين التاريخ باسلوب رفيع، هي من إنجازات بلاد ما بين النهرين، ابتداء من ملحمة الخلق السومرية ( الاينوما ايليش ) ومروراً بالعمل التاريخي العظيم ( ملحمة كلكامش )… الكتابة والتدوين كان العراق القديم سباقاً في منجزاته العلمية والأدبية وأهمها معرفة الكتابة في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، وقبل أي موطن حضاري آخر في العالم القديم، وعلى إثرها ازدهرت نظم التعليم والمدارس وابتكار الأداب وتدوينها من ملاحم واساطير. مممممممممممممممممممـ * موقع الآثاري العراقي الدكتور بهنام أبو الصوف. http://www.abualsoof.com/inp/category_vi...t=10&CID=3 – لمزيد من المعلومارات عن هذه الاختراعات، لاحظ تفصيلاتها في نفس الموقع.
قراءة تأويلية عن حضارة وادي الرافدين لكتاب متميّز الدكتور عبد الحسين شعبان*
بلغة رشيقة وجملة أنيقة ومعنى عميق يقدّم الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد مؤلفه الجديد الموسوم: حضارة وادي الرافدين- ميزوبوتاميا، “العقيدة الدينية.. الحياة الاجتماعية.. الافكار الفلسفية”. والمؤلف كما أعرف باحث اقتصادي متخصص، وله دراسات وأبحاث ومؤلفات قيّمة في مجال العلاقات الاقتصادية العربية، التكامل الاقتصادي العربي، التجارة الخارجية، الأمن الغذائي العربي، الصناعة التحويلية، وغيرها، مثلما له اهتمامات متنوّعة، بالعلوم الاجتماعية والتاريخية والفلسفية وفي قضايا الإصلاح والديمقراطية. وهو كاتب جزل العطاء رفد المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والكتب والترجمات. أستطيع القول أن كتاب الدكتور رشيد هو كتاب سسيو ثقافي تاريخي، فهو لم يترك شاردة أو واردة في حضارات مجتمع وادي الرافدين، الاّ وطرحها وناقش فيها، وغاص في بحثها وفي التنقيب عنها بمعول عامل متمرّس يعرف صنعته جيداً، وقد استهدف الباحث المساهمة في رفع درجة الوعي الثقافي وتنميته من خلال منظور نقدي موضوعي، إزاء الذات، وفي إطار مراجعة شاملة لا تشمل الماضي وقراءاته وتأويلاته حسب، بقدر ما تشمل الحاضر أيضاً، لاسيما الفكر السائد، وكيف يتعاطى مع التراث وكيف ينظر إلى التاريخ؟ تاريخنا وتاريخ الآخر!! كأنني أقرأ ما يريده المؤلف من وراء السطور، فالعراق الذي ظل يتصدّر نشرات الأخبار على مدى ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمان، وما يزال حتى الآن، ظلّ ينزف ويعاني ويتبدد لدرجة الذوبان أحياناً، وحتى لو كانت المسألة تتعلق بواقع مؤقت، ظرفي، طارئ، لكن العراق المستمر منذ نحو 7 آلاف عام، وهو الذي يقدّمه الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد: العراق الدائم ، الستراتيجي، المتكامل، عراق الحضارة الكونية الأولى، ظلّ بعيداً وملتبساً بإغراض أو دونه أحياناً، حين تختلف زاوية النظر إلى التاريخ ودلالاته. ولعلّ القراءة التأويلية لهذا الجهد المضني، الذي قام به المؤلف في سفره الجميل، إنما تستهدف الاستعارة والاستذكار والتبصّر وأخذ العبر والدروس. لقد عاش إنسان ما قبل حضارة وادي الرافدين في الكهوف القصية لمنطقة كردستان- شمال العراق- قبل أكثر من 120 ألف سنة حسب الاكتشافات التاريخية المدنية، وانتقل إلى المناطق المكشوفة لإنتاج القوت بعد أن كانت وظيفته جمعه، وبعد أن عرف الزراعة والاستيطان عندما بدأت في جنوب العراق بحدود 6000-5000 قبل الميلاد، ووصلت أوروبا بعد 3500 سنة. العراق أو ” بلاد الشمس” Sun Land” وهو اسمه السومري، أو كما يطلق عليه “بلاد ما بين النهرين” أو بلاد الرافدين “ميزوبوتوميا”، و”بحر دجلة والفرات”، كما كنّاه مؤسس بحور الشعر العربي وأوزانه الخليل بن أحمد الفراهيدي. هو عراق أول حضارة بشرية أنجبها الإنسان: الحضارة السومرية والآشورية والبابلية، ومركز الإشعاع الفكري في الحضارة العربية – الإسلامية، يوم كانت بغداد منارة المجد وقبلة العلم والفكر والثقافة، وهي التي صانت تراث الفكر اليوناني من الضياع وواصلت آفاق الدنيا بخير ما أنجبته البشرية. لا عجب أن يحتضن العراق أول مؤسسة تمثيلية (برلمان) قبل ما يزيد عن أربعة آلاف عام، فهو الذي بنى أول مجتمع سياسي منظم (دولة المدينة السومرية) وأقام أول نظام ملكي، مؤسساً لتقاليد ملكية وعلاقة الحاكم بالمحكوم، استناداً إلى نظرية الحق الإلهي، وذلك قبل نظرية توماس هوبز الانكليزي بأكثر من 4500 سنة. إذا أردنا الحديث عن “الدولة الوطنية الموحدة” فنموذجها سرجون الأكدي وحمورابي البابلي اللذان حاولا بناء دولة المدينة أو المدن المتقاربة، وسنّا أول القوانين، مثلما كُتبت في العراق أولى الملاحم البطولية كما هي ملحمة كلكامش. والعراق هو بلد الأبجدية الأول، الذي فك رموز الحرف وعرف نظام الكتابة، حيث أصبح الانسان بفضله ولأول مرّة في التاريخ قادراً على حفظ ذاكرة أجيال وتاريخ أمم ومعتقدات شعب وتراث وثقافة وأدب الإنسان. وفي العراق ولد أول مجمّع سكني في العالم، مثلما تم وضع أسس علوم الرياضيات والفلك والطب والكيمياء، تلك التي ظلّت تطعم أوروبا على مدى قرون. وفي العراق وضعت أسس النظم الدينية التي تشكّلت منها الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والاسلام، وقبل ذلك كان الكتاب المقدس يمثل “ملحمة الخليقة البابلية”. ويعتبر السومريون أصل العراقيين وهم أجداد ابراهيم الخليل الأب الأكبر لليهود والمسيحيين والعرب. فالعراقيون الأوائل اكتشفوا الزراعة وصنعوا آلات الحياكة والخياطة وابتكروا إنتاج الفخار والعجلة والمراكب الشراعية واستخدموا معدن النحاس والقصدير، مثلما أبدعوا في الفنون والعمران . على مدى 17 فصلاً يقدّم المؤلف صورة العراق التاريخية هذه، ابتداءً من بيئته الطبيعية وعصور ما قبل التاريخ وعصور التاريخ والكتابة والتدوين ونشوء أولى المجتمعات السياسية المنظمة (عصر فجر السلالات) والإمبراطوريات السومرية والآشورية والبابلية، ويعرض نظمها القانونية المتطورة وعلومها ومعارفها وحياتها اليومية والعائلية ومعتقداتها الدينية وأفكارها الفلسفية ومناهجها التحليلية. ومع كل ذلك فثمة مفارقة سبق أن أوردتها في كتابي “عاصفة على بلاد الشمس” الصادر عن دار الكنوز الأدبية في العام 1994 بالقول: “من يستطيع اليوم أن يتخيّل أن بلداً بمثل هذه الصفات العصية وبمثل هذا العمق البعيد الغور في التاريخ والمعرفة والتمدّن، سيقترن اسمه في عالم اليوم بأبعد ما يمكن من مسافة عن جذوره، حيث يبلغ الاستبداد والقسوة حداً لا نظير لهما…” ولعله قدر غاشم أن يخيّم على العراق اليوم عنف لا حدود له وانقسام وتشتت مذهبي وطائفي وإثني، لاسيما بعد وقوعه تحت الاحتلال. أهي مفارقة أخرى حين تجتمع في العراق كل هذه المزايا التي لا تجتمع في بلد؟ دولة شاسعة نسبياً، وخيرات مادية وفيرة بما فيها الموارد الطبيعية، لاسيما النفط والغاز، وأنهار وزراعة، وبشر مبدعون، هم أساس الحضارات على مرّ التاريخ، وفي الوقت نفسه احتراب وطغيان ومحاولات إذلال واجتياح وعدوان، أهي نقمة السماء أم تناقض الأشياء!! وقد انفتح جرح الدولة العراقية الحديثة التي تأسست في العام 1921 منذ أن تدفق النفط في أرض العراق، وأصبح شلالاً للدم هادراً. كما شهد العراق في العقود الثلاثة ونيّف الماضية ثلاث حروب كبرى وحصار دولي جائر دام نحو 13 عاماً واحتلال دخل عامه الثامن، وما زال العراق يئن ويعاني وإن تبدّلت الوجوه والأقنعة والمبررات، سواءً كان في مسرح اللامعقول أو حفل تنكري أو مهرجان للفرح الزائف إن ذلك شكل من أشكال الكوميديا السوداء!. قيمة الكتاب أنه يحاول تقديم قراءة غير تقليدية للحضارة التي بناها الأجداد وأخذت تشرق نورها منذ حوالي 3000 سنة قبل الميلاد، وهي ما تزال تعيش معنا بهذا القدر أو ذاك، في الأفكار والفلسفات والمعتقدات والعادات والتقاليد والممارسات. يتابع المؤلف من خلال معطيات ومقارنات ومقاربات بين الماضي والحاضر، فيتوصل إلى أن السومريين الذين أسسوا هذه الحضارات يستمرون في رسم بعض ملاحم الأفكار والمعتقدات والإنجازات، في المراحل التالية لحضارة وادي الرافدين. وإذا كانت حضارة وادي الرافدين الأولى في تنظيم المجتمع السياسي، لاسيما الحقوق والواجبات في مجالات العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبخاصة تنظيم العلاقات بين النخب الحاكمة وعموم الناس، فإن ذلك تجسّد في قوانين أصيلة، متجسّدة في حضارة تقوم على الكتابة والعلم والقانون والنظام، وبذلك تعتبر المعلّم الأول للحضارة البشرية المعاصرة. لقد نظّمت قوانين حضارة وادي الرافدين إضافة إلى شؤون الحكم، قضايا الزراعة والأحوال الشخصية والزواج والعقود وتسجيلها، ولعل “مبدأ القوة القاهرة” و”مبدأ عدم جواز التعسف في استخدام الحق الفردي”، و”مبدأ القصد الجرمي”، هي من المبادئ القانونية التي ما تزال معمولاً بها حتى الآن. واتّبعت قوانين حضارة وادي الرافدين تقاليد كتابية متشابهة، في المقدمة والخاتمة وغلبت على القوانين السومرية “مبدأ الإصلاح والتعويض” في معاقبة المذنبين، بدلاً من “الانتقام والقصاص”، المستند إلى قاعدة ” العين بالعين والسن بالسن”، وهو ما ورد في شريعة حمورابي، إضافة إلى أساليب التعذيب بما فيها بتر أجزاء من الجسم، وهو المبدأ الذي نقلته الشريعة العبرانية ثم أخذت به الشريعة الإسلامية . لقد أنجبت حضارة وادي الرافدين بدءً من العهد السومري ووصولاً إلى شريعة حمورابي البابلية، وقبلها أولى المحاولات الإصلاحية في التاريخ البشري، وأقصد بذلك إصلاحات أوروكاجينا- أورونيمجينا (2400 ق.م.) فكراً قانونياً متقدماً، لاسيما إصلاح نظام الضرائب، كما أرست هذه القواعد مبادئ “الحرية في حدود القانون” و”أن الوظيفة مهما علت لا تعفي صاحبها من المسؤولية”، خصوصاً بعد اندلاع تمرد، على حكام لكش (تلو– منطقة الفرات) فقام بإصلاحاته المعروفة بـ أوروكاجينا/ أورونيمجينا، التي تكاد ترتقي إلى مستوى القانون لولا خلّوها من المقدمة والخاتمة المعروفة، التي كانت من تقاليد القوانين السومرية. ويعتبر قانون أورونمو 2113- 2096 ق.م أقدم قانون مدّون في تاريخ وادي الرافدين وفي تاريخ البشرية جمعاء. أما قانون حمورابي فهو أحدث وأكمل وأنضج قانون مكتشف في وادي الرافدين، ويمثل الإنجازات القانونية الرائعة في الحضارة البشرية، وهو سابق على قانون الإمبراطور الروماني جستنيان بنحو ألفي عام. لقد صدر قانون حمورابي في العام 1770 ق.م، وهو أول قانون موحّد تطبقه سلطة مدنية، وتعتبر شريعة حمورابي قطعة فريدة بطولها وعرضها ورشاقتها ودقة أسلوبها والضوء الساطع الذي يضفي على المجتمع تلك القبة المتطورة جداً على حد تعبير المؤلف. وإذا كان القانون الحديث هو مجموعة من القواعد التي تصدرها سلطة عليا تشريعية (ملك أو برلمان) وتطبقه سلطة تنفيذية (حكومة) بفرض العقاب في حال الإخلال بقواعد القانون أو الامتناع عن تنفيذها، فإن سلطة قضائية هي التي تصدر مثل هذا الحكم، ولعل هذه الرؤية تقترب من قوانين حمورابي. وإذا كان مثل هذا القانون المتطور قد وجد، فحسبي القول أن هناك مجتمعاً متطوراً قد نشأ، وقد عكس المؤلف الحياة الاجتماعية للطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية لمجتمع وادي الرافدين الذي يقوم على طبقتين أساسيتين هما: الأحرار والعبيد، إضافة الى نظام أسري، حيث كانت الأسرة الوحدة المحمورية الأساسية للنظام الاجتماعي لمجتمع وادي الرافدين، وهو نظام أبوي حاله حال النظام السياسي، وتميّزت الأسرة في العهد السومري بقوة روابطها وفقاً للمبدأ القائل “الصداقة تدوم يوماً والقرابة تدوم إلى الأبد”. ولعلّ العائلة العراقية الحالية تتشابه مع العائلة البابلية القديمة، فالأب هو رب الأسرة وبيده جميع السلطات والصلاحيات الخاصة بإدارة وإعالة أسرته، شأنه شأن الملك في إدارة مملكته، واحترامه واجب مقدس. واشتهرت العائلة بكثرة إنجاب الأطفال ويعتبر ذلك فضيلة وواجباً دينياً مقدساً، ولعل محاولات تنظيم الإنجاب ما تزال تصطدم بالكثير من المعوّقات في الوقت الحاضر سواءً على المستوى العراقي أو العربي، استناداً إلى هذه الاعتبارات، إضافة إلى اعتبارات عشائرية واجتماعية أخرى. يقول جورج رو في كتابه ” العراق القديم ” ترجمة وتعليق د. حسين علوان حسين، الصادر في بغداد، عن دار الشؤون الثقافية، العام 1986 “بالنسبة لنا نحن أبناء القرن العشرين يجدر بنا أن نعترف بديننا لسكان وادي الرافدين القدماء. وفي الوقت الذي نقدم فيه على كبح جماح الذرة ونعدُّ أنفسنا لاكتشاف النجوم فإن من العدل أن نتذكّر بأننا ندين للبابليين بالمبادئ الأساسية لرياضياتنا وفلكنا بضمنها نظامنا في الأرقام ذات القيمة المرتبية والنظام الستيني الذي ما نزال نقسّم بواسطته دائراتنا وساعاتنا.” ويذكر الباحث السويدي زيتر هولم: ليست حضارات وادي الرافدين السومرية والبابلية أقدم الحضارات في التاريخ حسب، بل أننا نجد أنفسنا في هذه الحضارات، أساطيرنا وملاحمنا وحتى ديننا، نعم أن الكثير مما تعلمناه ناظرين إليه كإرث للإغريق واليهود يعود إلى هذه الحضارات (المقصودة حضارات وادي الرافدين). والأمر له علاقة أيضاً بمجال الكيمياء والمعادن وبحقل الجغرافيا حيث تركت حضارة وادي الرافدين أول خارطة للعالم ( 600 ق.ب) إضافة إلى مجال الفنون والعمارة وغيرها. وتشكل الكتابة الصورية (من الصور) والكتابة المسمارية مسألة مهمة وأساسية في الثقافة والتاريخ والفكر العالمي، خصوصاً مع بداية ظهور المدارس الرسمية خارج المعابد، حيث احتلّ الكاتب منزلة اجتماعية رفيعة في حضارة وادي الرافدين، ويذكر نص سومري “الكتابة هي أم الخطباء وأبو التلاميذ” والكاتب الجيد هو من أتقن مهنته جيداً. ولعل من أبرز خصائص حضارة وادي الرافدين هو الإرث الأدبي والملحمي اللذان يتسمان بالأصالة والتنوّع، وهما مع حضارة وادي النيل يشكلان أساس الملاحم والقصص الأسطورية القديمة، خصوصأ تلك التي تتناول الحياة والموت والخلود والخير والشر وقضايا الحب والقصص الروحية والعاطفية وأساطير خلق الكون والإنسان وغيرها، وهو ما يغطيه المؤلف على نحو ممتع وشيّق وجميل. إن كتاب الدكتور عبد الوهاب رشيد هو كتبُ في كتاب واحد، ولعل ثقافته الموسوعية هي التي كانت وراء هذه الغزارة في المعلومات والدأب في التنقيب في المصادر والمراجع المهمة العربية والأجنبية، التي زادها عمقاً الهوامش والشروحات والمقارنات والتدقيقات التي جاءت لتؤلف وحدة موضوع متجاورة فصولاً أو فروعاً ومتممة ومكمّلة ومضيفة. إن الكتاب بعد أن يسلط الضوء على تاريخ حضارة وادي الرافدين وفلسفتها وقوانينها وحياتها الاجتماعية، يطرح أسئلة تتعلق بكيفية قراءة التراث والنظر إلى الماضي وتأثيره على الفكر الإنساني بما فيه حياتنا الراهنة، وهو لا يسعى لتقديم إجابات نهائية أو كاملة، شأنه شأن أي عمل فكري، لكنه يسعى إلى نقد ما هو سائد باجتهاد ودون محاكاة استشراقية، وفي الوقت نفسه دون إدعاء بالفخر أو الأفضلية المنحازة سلفاً، لكنه يقدم ذلك ممزوجاً باعتزاز بمشاركة فاعلة في الحضارة الإنسانية، لاسيما من حضارة وادي الرافدين الاولى، والتي لا يمكن الحديث عن الحضارة الكونية، دون دراسة الحضارة الأولى- حضارة بلاد وادي الرافدين . الكتاب إضاءة جديدة لتاريخ حضارة وادي الرافدين ببعدها الثقافي والسسيولوجي والتاريخي والقانوني والعلمي- المعرفي، وهو مساهمة جادة وعلمية لباحث متمرس، استطاع أن يطوّع وسيلته الإبداعية بحثاً عن الحقيقة والدفاع عنها، وقناعتي أن هذا الكتاب يعتبر رفداً معرفياً متميّزاً للمكتبة العربية لكاتب متميّز. 9/9/2010 ممممممممممممممـ * أكاديمي ومفكر عراقي له مؤلفات عديدة.
الحوار المتمدن
الحياة بدون مبدأ لا م