التاريخ المعرفي لللمخ البشري
كل العلوم المرتبطة بالجسد، مند ظهورها تم التعامل معها بحذر واحتياط شديدين، ليس فقط من طرف العامة بل كذلك حتى من طرف العلماء وهذا في حقيقة الأمر هوما عمل على تعطيل معرفة الكائن لأطرافه وجسده وهذا ما تؤكده كتابات Jean Pierre Changeuxالعالم البيولوجي الفرنسي مستكشف الموصلات العصبية ورئيس لجنة الأخلاقيات العلمية بداخل الجمهورية الفرنسية هذا ما يلمح اليه حينما يقول:
« في الظروف الحالية يفضل البعض عدم الأخذ والرد في مجال الوظائف البيولوجية للدماغ وفي علاقات هذه الوظائف بما هو مجتمعي. لقد انتشرت علوم الإنسان لدرجة أنها أصبحت موضة.وانتشرت معها العلوم المرتبطة بالدماغ البشري لدرجة خلقت هذه العلوم نوعا من الهلع وسط العلوم الإنسانية. أصبح البعض يخاف من الأسس البيولوجية لعملية التفكير لأن هذه الأسس اذا ما وضعت بين أيادي غير نبيلة فأنها ستتحول إلى علم للسيطرة، كما هنالك كذلك من يخاف من تناوله لهذه العلوم عن طريق القيام بنوع من التبسيط فيوقظ بذلك نقاشا قديما حول المادة والروح. لكن من بين كل ها ته التخوفات هي النزعة التي تعتبر أي بحث في هذا المجال يمس بالعقيدة و يصبح صاحبها من أهل الجحيم »
هذه الملاحظة من طرف أخصائي في علوم الأعصاب يحتل مكانة مرموقة داخل الأوساط العلمية لديها مبرراتها التاريخية لأن الذي حال دون تقدم عملية استكشاف الانسان لدماغه هي الكنيسة التي كانت تعتقد في قداسة الجسد، هذا حينما يتعلق الأمر فقط بعلاج الجسد أو استكشاف مكوناته، أما حينما يتعلق الأمر بمعاقبته فانهم يعتبرونه مملوكا من طرف الجن والعفاريت ويجوز حرقه أو تمزيقه؛ خلال مآت السنين تم اعتبار تشريح الأجساد حتى وهي جثث محرما على العلماء التشريحيين، لكن ليس هذا هو وحده السبب الوحيد الذي حال دون معرفة الدماغ البشري أو حتى ادمغة الحيوانات، بل السبب الرئيسي في ذلك كان هو عدم استطاعة العلماء تطوير أدوات الاستكشاف من الات ومواد مخبرية.
الى حدود العصر اليوناني، لازالت التمثلات الفلسفية والتأويلات الخاطئة لوظائف الدماغ البشري تحتل مكانة مهمة بداخل الأهتمام العلمي، هكذا اعتقد أرسطو وقبله المصريون القدامى بأن الدماغ مكون من الماء والتراب ووظيفته هو القيام بتبريد الجسم للحفاظ على درجة الحرارة. عكس أرسطو، أفلاطون ومعه أبيقور تعاملا مع الدماغ على أنه مركز التفكير ومعهم ظهرت نظرية ما يسمى المركزية العصبية التي تم الاعتقاد بها وقد ساهمت في التعرف أكثر على المخ البشري. بعد قرون عدة من الاعتقاد في هذه النظرية، بدأت إلى الظهور نظرية مغايرة هي نظرية ما يسمى بنظرية لا مادية الروح L’immatérialité de l’âme المبنية على قدسية الجسد وقد عملت هذه النظرية على تعطيل عملية استكشاف الإنسان لدماغه، وهذا على مدى قرون الى حدود القرن التاسع عشر حيث بدأ هذا المجال المعرفي يعرف ازدهار ومع التطور العلمي للقرن العشرين تم تأكيد النظرة الأفلاطونية للدماغ البشري.
رغم أن تقنيات الاستكشاف بدأت مع القرن السابع عشر حينما قام الإنجليزي Willis d’oxford باستكشاف الثنايا الدماغية الموجودة تحت القشرة الدماغية، الا أنه خلال القرن السادس عشر كان هنالك تشريحيون مرموقون لم يكن الفيلسوف الفرنسي ديكارت على علم بانجازاتهم العلمية، وهذا سوف يسقطه في تأويلات فلسفية بعيدة كل البعد عن حقيقة الدماغ البشري كما كان يتمثلها أولك التشريحيون.
مع بداية القرن التاسع عشر، بدأ الحديث من جديد عن المناطق الدماغية كمراكز عصبية متخصصة، بدأ هذا مع ما يسمى la phrénologie لصاحبها Gall الذي اعتبر هذا علما لدراسة القدرات الذهنية والخصائص الفكرية انطلاقا من شكل الجمجمة.قام كال بتحديد35 وظيفة ذهنية كالذكاء، العنف، الأمل، الثقة، الشجاعة، الميول الى السرقة الخ.في حين العالم Flourenceقام بصياغة نظرية تشجب نظرية الاختصاص الوظيفي للخلايا العصبية كما يعتقد فيها كال Gallلقد اعتمد Flourenceالشمولية والكلية في تناول الوظائف العصبية.حوالي سنة 1850أكد الإنجليزي جاكسون بأن إصابة أحد المناطق الدماغية المتخصصة لا يؤدي بالضرورة إلى الفقدان التام للوظيفة الدماغية. بالنسبة لهذا العالم كلما كانت الصيرورة معقدة وإرادية كلما كانت المناطق الدماغية التي يتم توظيفها متعددة. هذه الملاحظة كانت ضربة قوية للعلماء الذين كانوا يعتقدون باختصاص المناطق الدماغية وانفرادها بوظائف.بالنسبة لجاكسون كل خلل عصبي سوف يؤدي بالضرورة إلى اختلال في سلسلة من الخلايا المترابطة وليس إلى تدمير أحد المراكز العصبية. المراكز العصبية تشتعل كمناطق متعددة لدمج وظيفة محددة. الجديد بالنسبة لهؤلاء العلماء لا يتعلق برفض تحديد المناطق الدماغية المتخصصة ولكن برفض القبول بسهولة التحديد مع العالم بروكاBroca وبالتحديد سنة 1861سوف يؤكد ولو بشكل جزئي نظرية Gall حينما قام بمعالجة أحد مرضاه الذي لم يكن ينطق الا بكلمة واحدة هي "طان" مما دفع ببروكا الى تسمية هذا المريض بطان. ومن الصدف أن وفاة هذا المريض سمحت لكال بتشريح دماغه والتعرف بشكل دقيق على المنطقة الدماغية المتضررة. لقد حددها كال في جهة الناظر الايسر بين الحاجب والاذن تقريبا. هذه المنطقة يقول كال تتواجد بها الباحة المختصة في الكلام و أصبحت هذه الباحة منذ اكتشافها من طرف بروكا تحمل اسمه مما سمح بوضع حد نهائي للسجالات المعرفية التي كانت تدور بين من يؤيد الاختصاص الوظيفي للمراكز العصبية وبين من يؤيد الشمولية الوظيفية للدماغ البشري.
بعد اكتشاف وتحديد باحة بروكا المختصة في انتاج الكلام جاء الدور على عالم آخر هو Wernick الذي سينجح هو الآخر في تحديد بشكل دقيق الباحة العصبية التي تستطيع القيام بتحليل ما تلتقطه الأذن من ذبذبات صوتية. هكذا شيئا فشيئا أصبحت خريطة الدماغ البشري تتضح على شكل جغرافيا وظيفية وأصبحت بعض أسراره تنكشف للعموم.
نهاية القرن التاسع عشر كانت نهاية سعيدة لعلوم الأعصاب لأنه خلال هذه الفترة ظهر إلى الوجود مصطلحين هما مصطلح Les neuronesومصطلح Synapses. المصطلح الأول تم استعماله من طرف الألماني Waldeyer والمصطلح الثاني من طرف الإنجليزي Sherrington يعتبر فرانسوا جاكوبFrancois Jaco بأن اكتشاف La synapse ومعرفة وظائفها تساوي على مستوى ما حققته من نتائج معرفية اكتشاف الذرة أو الحامضDesoxyribonucleique
________