فكرة العوالم اللانهائية فكرة ساحرة، لكن هل هي فكرة علمية؟ إنها ليست فكرة جديدة تماماً. وقد طرحت مقاربات عديدة لها عبر التاريخ. لكن جميع من قال بهذه الأفكار اتهم بالخروج عن الفكر السائد في عصره! أما اليوم، وعلى الرغم من بقاء الفرضية مثاراً للجدل، فقد وصلت إلى نطاق العلم البحت. بل ويبدو أنها محفزة جداً إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد العلماء ذوي الشهرة الذين يهتمون بها ويعملون عليها.
صورة
الأكوان المتعددة عبر التاريخ
كانت الفكرة الأولى حول الأكوان المتعددة قد طرحت من قبل أناكسيماندر المفكر اليوناني الذي عاش بين عامي 610 و546 قبل الميلاد، وهي تعد أول فكرة عن الكون غير أسطورية، وتقول: إن العوالم تظهر عندما تختفي عوالم أخرى.
وجاء المفكر اليوناني ديمقريطس (460- 370 ق.م) ليقول إن عدد الذرات والعوالم غير محدود. وإن كانت الأفكار الثابتة عن العالم قد سيطرت بعد ذلك قرابة ألفي سنة مع فكرة الكون المركزي حول الأرض وسموات بطلميوس السبع، لكن المفكر الألماني نيكولاس دو **** (1401- 1465) جاء ليقول بتعددية العوالم التي يتميز سكانها بسمات خاصة. وبعده كانت صرخة الفيلسوف الإيطالي الشهير جيوردانو برونو (1548- 1600) الذي أحرق بسبب قوله بوجود عوالم لانهائية متمايزة عن بعضها بعضاً. وكان لغوتفريد ويلهلم ليبنتز الفيلسوف والرياضي الألماني (1646- 1716) مساهمته أيضاً عندما قال بوجود عوالم متعددة كثيرة ممكنة بحيث يكون عالمنا هو الأفضل من بينها. وكانت للفيلسوف الفرنسي في الفترة نفسها برنار لو بوييه دو فونتنيل (1657- 1757) نقاشات شجاعة بالنسبة لذلك العصر حول تعدد العوالم.
عادت فكرة العوالم المتعددة للظهور في القرن العشرين، من خلال بعض المفكرين مثل نلسون غودمان (1906- 1998) الذي قال بعوالم متعددة حقيقية متواجدة في الوقت نفسه وتتخلق باستخدام الرموز! لكن الفكرة الأكثر أصالة كانت للفيلسوف الأمريكي دافيد لويس (1941- 2001) الذي قال إن كل ما أمكن أن يحصل أو ينتج في عالمنا ينتج فعلياً في عالم آخر. أما الذي أدخل فعلياً فكرة العوالم المتعددة أو تحديداً المتوازية إلى حقل العلوم البحتة عن طريق الميكانيك الكمومي فكان الرياضي الأمريكي هيوج إيفريت (1930- 1982). وكان أول إدخال للعوالم المتعددة إلى مجال علم الكونيات مع سيناريو التضخم الكوني المستمر بلا توقف على يد الفيزيائي الأمريكي من أصل روسي أندرييه ليند في عام 1948.
(النموذج الأول) نموذج العوالم المتعددة الأكثر أولية
ينتج النموذج الأول للعوالم المتعددة، وهو أبسط النماذج وأكثرها أولية، مباشرة من تطبيق النظرية النسبية العامة لأينشتين على الكون. أن الكون يشير إلى كل ما يحيط بنا. لكن بما أن سرعة الضوء محدودة فإن قدرتنا على الرصد محدودة أيضاً. أن حجماً معيناً فقط يقع ضمن إطار رصدنا. وفي نموذج الانفجار الكبير، إذا أخذنا بعين الاعتبار المسافة التي يقطعها الضوء منذ 13.7 مليار سنة في الوقت الذي كان الكون يتوسع فيه ويكبر، فإن هذا الحجم يوافق حالياً كرة متمركزة افتراضياً حول الأرض ويصل نصف قطرها إلى نحو 46 مليار سنة ضوئية. غير أن النسبية العامة تقول لنا أيضاً إنه إلى ما وراء هذا الأفق ثمة فضاء لانهائي يمكن أن يكون موجوداً فعلياً. وفي كافة الأحوال، فإن هذا الفراغ يوجد في التصور الذي يعتمد فضاء انحناؤه معدوم، أي ما يمثل الهندسة الأكثر بساطة بالاتفاق مع الأرصاد.
تشير الأكوان المتعددة في هذه الحالة إلى مجمل هذا الفضاء اللامتناهي حيث تشتمل المناطق الواقعة إلى ما وراء الحجم الذي نرصده على أكوان جديدة، مما يشكل أحجاماً أخرى لها الشكل نفسه بحيث تكون متراصفة وتمتد في الفراغ اللانهائي. ووفق هذا المنظور، فإننا نجد نحن البشر أنفسنا ببساطة في جزء من الأكوان المتعددة حيث اجتمعت الشروط الخاصة جداً والضرورية للصيرورة الطويلة التي أدت إلى انبثاق الحياة. وفي نموذج الأكوان المتعددة البسيط هذا تكون قوانين الفيزياء هي نفسها من كرة كونية إلى أخرى، لكن تختلف الشروط فيها وفقاً للآليات التي تم توزع المادة وفقها خلال لحظة الانفجار الكبير في كل من هذه العوالم. ووفقاً لماكس تغمارك، يمكن أن توجد أكوان توائم مطابقة لكوننا، إنما ليس على مسافة أقل من (1010)115 متر من بعضها بعضاً. ولهذا فإن حظوظ مصادفة ولقاء أقراننا معدومة. فالنموذج الأول من الأكوان المتعددة يشتمل بالتالي على تراصف بسيط لأكوان لا تنتهي. أما الفئة الثانية فهي أكثر تعقيداً. وهي تنتج عن النموذج الكوني الأكثر انتشاراً وقبولاً اليوم بين العلماء لوصف الكون الوليد، وهو ما يسمى بالتضخم الكوني.
(النموذج الثاني) التضخم الكوني
في الثمانينيات من القرن الماضي طوّر عالم الكونيات الروسي الأصل أندرييه ليند نموذج الكون المتضخم بشكل مفصل. ووفق هذه النظرية فقد شهد كوننا مرحلة توسع هائلة تماماً بعد الانفجار الكبير: وتحديداً بعد 10-35 ثانية من عمر الكون، حيث تضاعف حجم الكون الوليد والفائق السخونة والكثافة بشكل مفاجئ بمقدار 5010 ضعفاً. ويسمح هذا التسارع الهائل بتفسير لماذا نشهد هذا التجانس في كوننا على مستواه الكبير كما ويفسر ظهور البنى الكبرى فيه مثل الحشود المجرية كما ترصد اليوم. لكن نظرية ليند تذهب إلى أبعد من ذلك، فهي تفترض أن الزمكان هو في حالة تضخم مستمر. إنه التضخم الأبدي. وبشكل أدق، فإن بعض المناطق لا تزال تشهد مرحلة التضخم التي تقود أو تؤدي إلى نشوء الكثير الكثير من الفقاعات المنفصلة والمتمايزة مما يعطي بالتالي لانهاية من الانفجارات الكبيرة. ويولّد كل انفجار كبير منها كوناً. إن الفرضية مغرية جداً، لكن الأمر يتعلق هنا بكون متعدد مختلف تماماً عن الكون المتعدد السابق.
ومنذ بضعة سنوات فقط جاء تطور نظرية الأوتار الفائقة ليدعم هذا الكون المتعدد الفقاعة، وهي نظرية تحاول وصف كافة التفاعلات الأساسية في الفيزياء: الكهرمغنطيسية والقوتين النوويتين الشديدة والضعيفة إضافة إلى الجاذبية. إن هذه النظرية التي تحاول توحيد القوى الأساسية والقوانين الفيزيائية، حيث تظهر كافة الجسيمات فيها كأنماط من اهتزاز وتر أولي، على غرار اهتزاز وتر آلة موسيقية يمكن أن يؤدي إلى إنتاج نغمات السلم الموسيقي، لا تزال بعيدة عن تحقيق هدفها حتى الآن. وهي بدلاً من أن تصل إلى نظرية واحدة للأوتار توصلت إلى 50010، بل إلى 100010 نظرية مختلفة!!
وهكذا، عندما نفكر في التضخم الأبدي في إطار نظرية الأوتار، فإن تنوع الأكوان المتعددة الفقاعات ينفجر إن صح التعبير أو يصل إلى حد لا يمكن تخيله. وهذه هي الصورة التي يدافع عنها ليونارد سوسكيند، أحد آباء نظرية الأوتار، والذي يعمل هو أيضاً مع ليند في جامعة ستانفورد. إن هذا الكون المتعدد هو عبارة عن بنية متدحرجة مؤلفة من لانهاية من الأكوان الفقاعات، حيث كل كون منها له قوانينه الفيزيائية الخاصة به، والذي يحتوي على لانهاية من الأكوان الأولية فيه. وهنا أيضاً، في هذا المشهد الذي لا يمكن سبره أو الإحاطة به، فإننا نحن كبشر نوجَد في إحدى هذه الجزر المتأقلمة ببساطة مع الحياة، أو تحديداً مع أحد أشكال الحياة.
(النموذج الثالث) الجاذبية الكونية ذات العُقد
غير أن لي سمولين ينتقد بشدة هذا النمط من الأكوان المتعددة. فهو معروف بصرامته تجاه سيطرة نظرية الأوتار في الفيزياء النظرية. فهي تفلت من أية تجربة محتملة، طالما أن سوية الطاقات التي تدخل في مثل هذه الظاهرات تقع ببساطة خارج أي إطار قابل للتجربة. ومع ذلك، فإن نظريته الخاصة قادته إلى اقتراح مقاربة أخرى مختلفة تماماً في عام 1992: ألا وهي فرضية "الاصطفاء الطبيعي الكوني" التي تقود أيضاً وأيضاً إلى نمط ثالث من الأكوان المتعددة.
إن لي سمولين هو أحد مخترعي الجاذبية ذات العقد، وهي نظرية كمومية للجاذبية. غير أن هذه النظرية لا تتنبأ بنقطة فرادة مركزية للثقوب السوداء، هذه النقطة أو الموضع حيث تكون الكثافة وانحناء الزمكان لانهائيين. ففي هذه الحالة، وقريباً جداً من مركز الثقب الأسود، تصبح الثقالة دافعة بدلاً من جاذبة. وهكذا تجري الأمور كما لو كانت المادة تنضغط نحو المركز لتعود فتندفع وترتد عند أطرافها في مرحلة جديدة من التوسع. وعندها يولد كون جديد في حالة توسع في قلب الثقب الأسود نفسه. وهكذا فإن كل ثقب أسود يتشكل يولّد هو نفسه كوناً جديداً. وبالتالي، فإن عالمنا الذي نعيش فيه يحتوي أو يكون قد ولّد على الأقل 1810 كوناً وليداً خلقوا عبر ثقوبه السوداء. وفي هذا الكون المتعدد المستلهم إلى حد كبير من نظرية التطور البيولوجية الداروينية، فإن كل كون ينقل إلى خلفائه قوانينه الفيزيائية الخاصة التي تتعدل بشكل طفيف من خلال التخلخلات الكوانتية في لحظة "الارتداد" في الثقب الأسود، مما يجنب الكون الوليد أن يكون مجرد نسخة منقولة. ومثل هذه الآلية التطورية تسهل بقاء القوانين التي توفر أقصى حد من ولادة الثقوب السوداء، أي أنها توفر إمكانية البقاء والتكاثر. إنه كون ساحر بلا شك، لكن هذا النموذج لم يتجاوز حالة الكينونة الجنينية. ويبقى أن نحدد فيه بشكل رئيس آلية انتقال القوانين الفيزيائية. ولكن وفقاً لصاحب هذا الكون المتعدد، فإنه يتميز بأنه يمكن أن يقدم تنبؤات قابلة للتحقق والاختبار. وهو يحدد بين أشياء أخرى الكتلة الحدية العليا لنجم نيوتروني، وهي المرحلة الانتقالية بين انفجار نجم كبير الكتلة (سوبرنوفا) وتشكل ثقب أسود، وهي حوالي 1,6 كتلة شمس.
(النموذج الرابع) كافة العوالم موجودة
وأخيراً تأتينا الفئة الرابعة من العوالم المتعددة المتوازية من أفق مختلف تماماً. فالأكوان السابقة كانت تنتج كلها من نظريات تصف الجاذبية، القوة العاملة على مستويات الكون الكبير. أما الفئة الأخيرة فتأتينا من الميكانيك الكمومي. وهو إطار نظري يفسر العالم اللامتناهي في الصغر. وقد اعتبر الميكانيك الكمومي طويلاً كمجال غريب، لكن الكون المتعدد الناجم عنه هو الكون المتعدد الأول علمياً من وجهة نظر تاريخية. ففي عام 1957، اقترح الفيزيائي هيوج إفريت، وكان في برنستون آنذاك، تفسيراً ثورياً مخالفاً لكافة الأفكار التي كانت سائدة آنذاك في النظرية الكمومية نفسها. فقد مضى إلى أقصى ما يمكن في مبدأ التراكب الكوانتي لحالات المادة التي تقول بها هذه النظرية. ووفق هذا المبدأ، فإن نظاماً كوانتياً يمكن أن يوجد في عدة حالات في آن واحد. وهكذا فإن قياسات هذه المنظومة يمكن أن تعطي نتائج مختلفة. وبالنسبة لإفريت، فإن هذا المبدأ ليس صحيحاً فقط على المستوى الدقيق للجسيمات بل وعلى المستوى الجهاري الكوني. وهكذا فإن النتائج المختلفة للقياسات الممكنة تتواجد في الوقت نفسه كوقائع متوازية: فكافة العوالم موجودة! العالم الذي ندخّن فيه والذي لا ندخّن فيه. وهما يتشعبان باستمرار في عوالم جديدة. فلماذا لا نرصد إذاً سوى كوننا؟ الجواب ببساطة لأننا لا نستطيع أن نرى سوى الكون الذي نوجد فيه.
وعلى الرغم من غرابة تفسير إفريت لكنه يصبح أكثر فأكثر قبولاً اليوم بين العلماء الفيزيائيين الجديين. وبالنسبة لتيبو دامور، "فهو التفسير الذي يفرض نفسه من الآن فصاعداً". وفي التصنيف الذي وضعه عالم الكونيات ماكس تغمارك تأتي الأكوان المتوازية لإفريت على المستوى نفسه مع الأكوان- الفقاعات التضخمية. لكنها تضيف وفقاً له المزيد والمزيد من النسخ التي يستحيل تمييزها. والأمر الذي كان يبدو أقرب إلى الميتافيزياء منذ فترة قريبة إذا به يدخل اليوم أدبيات العلم من أوسع أبوابها.
ردود الفعل على فرضية الأكوان المتعددة
إضافة إلى الأسماء التي ذكرناها ضمن أهم فئات الأكوان المتوازية أو المتعددة، ثمة أسماء علمية أخرى لا تقل أهمية وشهرة كان لها مواقف مختلفة من هذه الفرضية.
ويأتي في مقدمة مؤيدي هذه الفرضية ستيفن واينبرغ، الحائز على جائزة نوبل ومؤسس النموذج المعياري في فيزياء الجسيمات الدقيقة. وهو يعتقد أن هذه الفرضية تشكل تحولاً هاماً في طبيعة العلم نفسه. ويقول: "علينا أن نتعلم كيف نعيش في كون متعدد". كما نشير إلى البريطانيَين مارتن ريس وستيفن هوكنغ، وإلى نظري الأوتار الفائقة في برنستون إدوارد ويتن.
من جهة أخرى، وعلى طرف المعارضة، هناك من يرفض كلياً هذه الفرضية. ومنهم دافيد غروس الحائز على نوبل لعام 2004، الذي يرفض تماماً مشهد الأكوان المتعددة. وهو يعتقد أن علينا العثور على نظرية لكل شيء قادرة على تفسير الكون الذي نعيش فيه وفق قوانين رياضية محددة تماماً. أما بول ستاينهارت أحد نظريي التضخم الكوني في برنستون فيرفض الفكرة من أصلها ويقول: "إنها فكرة خطرة، لا أريد أبداً مواجهتها والتفكير بها"!
يبقى أن بين الفريقين المؤيد والمعارض هناك فريق من المتشككين، ومنهم جورج إلليس من جامعة الكاب في جنوب إفريقيا، الذي يرى أن فرضية الأكوان المتوازية هامة بما تحمله من تفسيرات لبعض الأرصاد، لكن الحجج المقدمة لصالح هذه العوالم لا تزال برأيه ذات طابع فلسفي وليس علمياً. وهو لا يريد الخلط بين الفلسفة والعلم. من جهة أخرى يقول بول ديفيس إنه يعتبر نفسه متشككاً حول هذه الفرضية، خاصة وأنها تتطلب في النهاية القبول بسلسلة من القوانين التأملية دونما تفسير لها.
المبدأ الإنساني
"هل كان لدى الله خيار في خلقه للعالم؟" طرح أينشتين هذا السؤال الشهير الذي يصيغ تساؤلنا عما إذا كان وجودنا يفرض قيوداً على مواصفات كوننا. إن هذه الفكرة التي تنعت بـ "المبدأ الإنساني"، تلاقي ما يدعمها اليوم في نظريات العوالم المتعددة. ووفقاً للنظرة النيوتونية للعالم، فإن الكون يعمل كما لو كان آلة كبرى، غير حساسة لوجود الحياة أو لأي شكل من أشكال الوعي. وبالتالي فإن قوانين الفيزياء وصفات الكون لا تتعلق بأي شكل بوجود أحد يرصدها أو لا.
وقد ظهر مفهوم جديد منذ نحو 50 سنة يرتكز على أن سمات الكون تبدو "منضبطة" ومتوافقة بشكل خاص مع وجودنا. يتعلق هذا التوافق الدقيق جداً بالثوابت الجوهرية في الفيزياء كما وبعوامل عديدة في علم الكونيات. ومن هنا هذه الفكرة التي وفقها يمكن لبعض مواصفات الكون أن تكون مرتبطة بوجود المراقبين. وقد أطلق على هذه الفكرة "المبدأ الإنساني" من قبل الفيزيائي النظري براندون كارتر Brandon Carter الذي يعمل حالياً في مرصد باريس- مودون.
ينحدر هذا المبدأ نفسه بطريقتين. توصف الأولى بـ "المبدأ البشري الضعيف"، وهي تقول إن قوانين الطبيعة والثوابت الفيزيائية ثابتة. وبالتالي فإن وجودنا يفرض قيوداً عندما يتعلق الأمر بالمكان والزمان اللذين نرصد الكون بدءاً منهما.
على سبيل المثال، لماذا للكون عمر يميزه؟ إن المقاربة النيوتونية، أي الآلية التي تحدثنا عنها، لا ترى سبباً خاصاً في ذلك. فقد بدأ كل شيء ببساطة مع الانفجار الكوني الكبير منذ نحو 15 مليار سنة. والصدفة هي التي تجعلنا نرصده الآن في هذه اللحظة بالذات من عمر الكون.
لكن ثمة إجابة أخرى على هذا السؤال طرحت عام 1961 من قبل روبرت ديك Robert Dicke من جامعة برنستون. فهو يذكرنا بأن ثمة شرطاً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه لظهور الحياة وهو وجود الفحم. ويتم إنتاج هذا العنصر داخل النجوم وفق صيرورة تتطلب نحو عشرة مليارات سنة، وهي الفترة التي تنفجر النجوم بعدها بشكل مستعرات فائقة (سوبرنوفا). وهكذا يتحرر الفحم وعناصر كيميائية أخرى في الفضاء، حيث يمكن لها المشاركة في تشكيل كواكب وفي ظهور الحياة.
من المعلوم من جهة أخرى أن عمر الكون لا يمكن أن يكون أكبر بكثير من عشرة مليارات سنة، وإلا لكانت المادة التي تشكله قد تحولت بالكامل تقريباً إلى بقايا النجوم، مثل الثقوب السوداء والأقزام البيضاء أو النجوم النيوترونية. وبما أن كل شكل من أشكال الحياة يتطلب وجود النجوم، فإن الحياة يمكن أن تنبثق فقط في كون عمره عشرة مليارات سنة أو أكثر بقليل. ولا شك أن هذا الكون قد مر بمراحل كثيرة، لكن ما كنا لنكون فيه قبل مضي هذه المدة من عمره.
أما مؤيدو "المبدأ الإنساني القوي"، فيذهبون في تأملاتهم إلى أبعد من ذلك. فهم يؤيدون فكرة أن وجود المراقبين يطرح قيوداً على الثوابت الفيزيائية نفسها. ويتعلق عدد لا بأس به من هذه القيود بـ"ثوابت البنية"، التي تصف كثافة القوى الأساسية الأربع في الفيزياء- الجاذبية والكهرمغنطيسية والضعيفة والشديدة.
ظاهرات محلية
قبل مناقشة وتقييم تفسير المبدأ الإنساني عن طريق وجود الأكوان المتعددة، ثَمّ مسألة أساسية تتعلق بمعرفة ما إذا كانت قيم الثوابت تتعلق بالسمات العشوائية للكون، أو إذا كان يمكن التنبؤ بهذه القيم بواسطة نظرية فيزيائية أساسية. وهذه الظاهرة تتعلق بشكل وثيق بالسؤال الشهير الذي طرحه أينشتين: "هل كان لدى الله الخيار عندما خلق الكون؟"
إذا كانت الإجابة بالنفي فإن المبدأ الإنساني لا يعود قائماً على أي أساس ويكون توافق الثوابت ناجماً عن صدفة بحتة. أما إذا كانت الإجابة بوجود خيار لدى الله عند خلقه للعالم، فإن المبدأ الإنساني يصبح بالمقابل متضمناً وأساسياً. وعندها فإن ما نسميه قوانين الطبيعة يجب أن تعتبر كظاهرات محلية. وهكذا فإن المحاولات التي تسعى إلى التنبؤ بقيم الثوابت ستصبح بلا جدوى بمقدار ما كان حال الفلكي يوهانس كبلر الذي كان يحاول أن يتنبأ بالمسافات بين الكواكب بالارتكاز على الخصائص الهندسية لبعض متعددات السطوح. فلم يكن مكتوباً لهذا المشروع النجاح لأنه كان مبنياً على افتراضات ومسلمات خاطئة. مما لا شك فيه أن بعض العلماء يفضلون أن تكون الثوابت محددة بواسطة فيزياء أكثر جوهرية. لكن ضمن أية أطر ومسلمات يمكن لهذا أن يتحقق؟ حالياً، تعتبر النظرية M هي المرشح الأفضل لتمثل النظرية الجوهرية في الفيزياء، وقد صيغت منذ نحو 15 سنة. وتتضمن هذه النظرية وجود أحد عشر بعداً، حيث تنبثق الأبعاد الأربعة الزمكانية المألوفة بالنسبة لنا من انثناء الأبعاد الإضافية الأخرى على نفسها.
وعلى عكس النموذج المعياري في فيزياء الجسيمات الدقيقة، الذي لا يشتمل على قوة الجاذبية والذي يحتوي على نحو ثلاثين من المعاملات الحرة، فإن النظرية M قد أيقظت الأمل بإمكانية التنبؤ بقيمة الثوابت، مع طرحها للمسلمة الوحيدة بوجود هذه الأبعاد الأحد عشر. لكن أبحاثاً حديثة تفترض أن عدد الحلول لمعادلات النظرية M كبير جداً في الواقع، ويتجاوز رقماً فلكياً من رتبة 10600! وتوافق هذه الحلول حالات طاقية ممكنة للفراغ الكمومي، وهي تشكل وفقاً لليونارد سوسكيند من جامعة ستانفورد "ممراً كونياً" لانهاية لاتّساعه وتنوعه.
التوسع يتسارع
إن إحدى السمات الهامة لهذه الحالات الطاقية هي أنها مرتبطة بمعامل يوصف بأنه "ثابتة كونية". وكانت هذه الثابتة Λ قد أدخلت في عام 1916 من قبل أينشتين في معادلات النظرية النسبية. وكانت تسمح في ذلك الوقت بوصف نموذج كوني ستاتيكي، مستقر، غير متغير، بما يوافق معارف ذلك العصر. لكن أينشتين اضطر إلى التخلي عن هذه الثابتة بعد نحو 15 سنة بسبب اكتشاف توسع الكون الذي يتعارض مع كون مستقر.
وهكذا ظل العلماء يعتبرون طيلة عقود عديدة أن قيمة الثابتة لامدا Λ كانت معدومة، إنما دون أن يفهموا مع ذلك لماذا يجب أن تكون هذه القيمة معدومة. ويبدو أن ظاهرات كوانتية كانت تقود في الواقع إلي قيمة غير معدومة- لا بل وكبيرة جداً- للثابتة Λ، حتى وإن كان الفيزيائيون لا يعرفون كيف يتم حسابها بطريقة صريحة. لكن الاكتشاف الذي تم عام 1998 بأن التسارع الكوني يتسارع غيّر من هذا الواقع. فهذا التسارع يعود إلى تأثير ثابتة كونية قيمتها أصغر بـ 12010 مرة من تلك التي يتنبأ بها الميكانيك الكمومي!
في إطار المشهد الكوني، وبالنسبة لكل كون مختلف، يجب أن تأخذ الثابتة Λ أية قيمة مهما كانت إنما تقع بين حدين، كبيرين جداً إنما أحدهما موجب والآخر سالب. غير أن القيمة الملاحظة في كوننا بعيدة جداً عن القيمة المتوسطة. وهي تبدو في هذه الحالة من وجهة نظر إحصائية فائقة الصغر إلى حد مدهش. وكما لاحظ ستيفن واينبرغ فإن قيمة الثابتة Λ خاضعة لتحديد المبدأ الإنساني، لأن المجرات (وبالتالي الحياة) لا يمكن أن توجد لو لم تكن هذه القيمة صغيرة أو لو كانت أكبر بكثير مما هي عليه. إن تطبيق الاعتبارات الإنسانية على كون متعدّد يملك طيفاً واسعاً من القيم للثابتة Λ يتطلب أن تكون القيمة التي نرصدها في كوننا أصغر بالضرورة من القيمة المتوسطة. وإن كان ذلك يرضينا أو لا، فإن تصور المشهد الكوني يأتي ليدعم على هذا النحو المبدأ الإنساني.
طيف من الأكوان
هل يعني ذلك أن سمات كوننا يجب أن تعتبر كسمات "غير قياسية"؟ إن القائلين بالمبدأ الإنساني يؤيدون الإجابة بنعم، مقدرين أن أشكالاً مشابهة لحياتنا لا يمكن أن تظهر إلا في طيف محدود جداً من الأكوان. إن أشكالاً أخرى من الحياة ستكون ممكنة في طيف أوسع من الأكوان، لكن الحياة لن تستطيع بالتأكيد الظهور كيفما اتفق وأينما كان.
يعتقد لي سمولين Lee Smolin بالارتكاز على مبادئ كوبرني****، عكس ذلك، أي أن غالبية الأكوان تملك خصائص مشابهة لكوننا، الذي يجب أن يعتبر بالتالي كنموذج للكون المتعدد. ووفق هذا النظري الكندي، فإن الثوابت الفيزيائية قد تطورت حتى اتخذت القيم التي نعرفها حالياً، وذلك عبر صيرورة تنتسب إلى التحول والتطور والاصطفاء الطبيعي. وفي إطار هذا السيناريو يلعب وجود الحياة دوراً تابعاً بالكامل وبالتالي لا يكون ثمة قيود ذات طبيعة إنسانية فيه.
وإذا كنا نفضل بالنسبة للمبدأ الإنساني فكرة توافق مرتبط بوجود المراقبين في الكون المتعدد، فإن تفسيره يظل مع ذلك إشكالياً. فبأية آليات تكون التوافقات محددة؟ وبعبارة أخرى، ما الذي يحدد مراقباً ما ويعرّفه؟ أوليس من الضرورة بالتالي وجود عتبة دنيا من الذكاء لتحقيق هذا التعريف؟
مبدأ الحياة
يجب أن نحدد هنا أن الحجج التي تقدم اليوم في إطار الأبحاث حول المبدأ الإنساني لا تتعلق كثيراً بالإنسان نفسه بشكل خاص. وقد قبل براندو كارتر نفسه بأن اختيار هذا المصطلح لم يكن موفقاً تماماً. وبعبارة أخرى، فإن الحجج الإنسانية لا تشدد على ما هو خاص بالإنسان هنا، وهي بالأخص لا تؤكد أبداً الفكرة الدينية القائلة بأن الكون خلق فقط لكي يكون مسخراً للإنسان.
بل سيكون أكثر منطقية أن نجمع القيود الإنسانية الطابع بما سماه الفيزيائي البريطاني بول ديفيس Paul Davies بـ"مبدأ الحياة". كان العلم حتى فترة قريبة ينظر إلى وجود الحياة كأمر ناتج ولاحق، وليس كسمة جوهرية من بنية الكون نفسه. وخلال القرن التاسع عشر، استخدم القانون الثاني من الترموديناميك على سبيل المثال للتأكيد على أن الكون يخضع لموت بطيء وذلك ما أن تبدأ الحياة وكافة أشكال المتعضيات بالتلف بشكل لا يمكن تعويضه. لكن تطورات علم الكونيات قادتنا إلى مقاربة مختلفة بل ومعاكسة. وفي الواقع، وفقاً لنظرية الانفجار الكبير، يكشف تاريخ الكون عن درجة من التنظيم المتنامي، بالأحرى منه متراجعاً، حيث يمكن القول إن الفيزياء الحديثة قادرة تماماً على تفسيره دون كسر القانون الثاني في الترموديناميك.
إن التراتبية الناتجة عن هذا التاريخ الكوني توصف أحياناً بـ "هرم التعقيد". ويرى برنار كار أن هذا الهرم لم يمكن له أن يتكون إلا وفقاً للمبدأ الإنساني، الذي يجب أن يفسر في هذه الحالة أنه مبدأ "التعقيد". وفي هذه الحالة، فإن وجود المراقب يصبح هو نفسه تالياً وتابعاً، حيث يعكس وجود الوعي شكلاً خاصاً فقط من التعقيد في قمة الهرم.
خاتمة
يقول أورليان بارو إن هذه الفرضية تبقى هامة جداً من عدة زوايا، ولعل أهمها اعتبار ظهور الحياة للمرة الأولى كمبدأ كوني. ويشير أيضاً إلى أنها المرة الأولى التي يقود فيها المنطق العلمي كما يعتقد إلى وجود عوالم غير مرئية. وبعبارة أخرى، فإن هذه الفرضية، التي تعتبر برأيه علمية، تقود إلى وجود أجسام أو أكوان تتجاوز الإطار الدقيق للفكر العلمي نفسه. وبهذا فهي تخلق جسوراً مع مناهج أخرى، وتطلق ما يشبه أسطورة جديدة، وتجبرنا بالتالي على إعادة تحديد ما ننتظره من الفيزياء ومن العلم. وهنا تكمن أهمية هذه الفكرة، حيث تفرض التفكر بالعلم بما هو "طريقة لصنع العالم". إنها مراجعة لما وصلنا إليه اليوم، وعملية علينا القيام بها بكل ما أوتينا من انتباه وحذر وتحفظ، لأننا نجتاز مناطق خطرة فكرياً على الأقل ونحن نتجاوز حدود الكون المرصود وحدود العلم الحالي. ومن جهة أخرى يشدد أورليان بارو على ضرورة عدم تحريف تفسيرات هذه الفرضية الجديدة لصالح أنساق فكرية مسبقة كما حصل في كثير من الأحيان عبر تاريخ العلم.
___________
موسى ديب الخوري
0
يستطيع أي أحمق جعل الأشياء تبدو أكبر وأعقد, لكنك تحتاج إلى عبقري شجاع لجعلها تبدو عكس ذلك.