المفكر هشام جعيط والثورة التونسية حسونة المصباحيمنذ
بروزه في المشهد الفكري العربي في السبعينات من القرن الماضي٬ لم يتخل
المفكر الكبير هشام جعيط عن مواقفه النقدية تجاه مجمل القضايا الكبيرة٬
سياسية كانت أم فلسفية٬ ام ثقافية٬ ام غير ذلك.وليس
ذلك بالامر الغريب. فهو ابن المدرسة الفلسفية النقدية التي يرفض انصارها
واتباعها الوقوف صامتين امام الاحداث والمتغيرات٬ او الانسحاب الی مواقع
تعفيهم من المسؤولية٬ او تقطعهم عن مجتمعاتهم٬ وعن حركة التاريخ٬ وبعدما
استقلت بلادنا عام 1956 واخذ الزعيم بورقيبة يعد لبناء الدولة الجديدة٬
اخذ جل المثقفين التونسيين يتدافعون بالمناكب للحصول علی ود النظام
الجديد٬ واحتلال المناصب.غير
ان هشام جعيط حافظ علی نبل المثقف٬ وكتب سلسلة من المقالات حذر فيها من
مخاطر الانفراد بالحكم٬ ومن الاستبداد بالرأي. ومن استغلال الزعامة
الوطنية التي يتمتع بها بورقيبة للقضاء علی قوی سياسية معارضة له٬ وقد
اغضبت تلك المقالات “المجاهد الاكبر” غير ان ذلك لم يمنعه في ما بعد من
استقبال المفكر الشاب هشام جعيط.
ولعله حاول من خلال ذلك
“ترويضه” واستغلال موهبته الفكرية العالية لصالحه. غير ان هشام جعيط ظل
متشبثا بافكاره ومواقفه وآرائه رافضا ان يكون في خدمة٬ أي كان٬ مهما علا
شأنه.
وعوض ان يركض وراء المناصب
والامتيازات التي كان يتمتع بها العديد من المثقفين التونسيين والذين
كانوا في اغلبهم دون مستواه٬ انكبّ علی العمل واصدر العديد من الاعمال
الفكرية التي كان لها صدی كبير لا في العالم العربي فحسب وانما في فرنسا
وفي العديد من البلدان الاوروبية الاخری٬ وقد اصبحت تلك الاعمال مراجع
الساسة لفهم اهم القضايا الفكرية في العالم العربي قديما وحديثا٬ وفيها
اظهر هشام جعيط إلمامه الواسع بالتاريخ وبالفلسفة وبالادب٬ وبالعلوم
الانسانية بصفة عامة.
وعندما شنت قوات التحالف
بقيادة الولايات المتحدة الامريكية حربا ضد النظام العراقي عقب احتلاله
للكويت٬ تحرك هشام جعيط للتنديد بتلك الحرب ليس بهدف مناصرة صدام حسين كما
ظن البعض٬ وانما لان تلك الحرب سوف تؤدي بحسب رأيه الی المزيد من الفواجع
والمآسي التي يعاني منها العالم العربي٬ وقد دلت الاحداث التي عاشها
ويعيشها العراق علی نباهة موقفه.
وبعد ان ازيح بورقيبة عن
السلطة عام 1987 لم يهلل هشام جعيط لذلك الحدث٬ بل طالب النظام الجديد
باحترام الدستور٬ وبضرورة اجراء اصلاحات جذرية تساعد التونسيين علی تحقيق
الديمقراطية والعدالة الاجتماعية٬ وقد اثارت مواقفه تلك استنكار رموز
النظام الجديد فسارع يحث بعض الإعلاميين علی “اسكاته” وامام التهجمات
الشرسة التي تعرض لها٬ فضل هشام جعيط العودة الی العمل والتأليف. ومن جديد
اثری المكتبة العربية والعالمية باعمال فكرية رصينة ومرموقة.
ورغم ان العديد من البلدان
احتفلت به وبمؤلفاته ومنحته جوائز مهمة فان هشام جعيط ظل يعامل في بلاده
وكأنه مثقف من الدرجة الثانية٬ وكانت السلطات السياسية والثقافية تتجاهل
وجوده وتتعمد التغافل عن ذكر اسمه في وسائل الاعلام الرسمية.
وبعد الاطاحة بنظام بن علي
يوم 14كانون الثاني 2011 ظهر هشام جعيط من جديد ليدلي بارائه في الثورة
وفي نتائجها القريبة والبعيدة٬ وفي الاوضاع السياسية والاجتماعية
والثقافية وغيرها. وقد استمع اليه التونسيون باهتمام كبير محاولين
الاستفادة من كل فكرة يقولها للخروج من الازمات المتتاليةالتي اصبحوا
يتخبطون فيها٬ ومؤخرا قرأت لهشام جعيط حوارا في احدی الجرائد التونسية
اثبت لي من جديد العمق الفكري الذي يتمتع به والنظرة البعيدة التي يتميز
بها.
وفي هذا الحوار الصريح قدم
صاحب “الفتنة الكبری” قراءة فكرية هامة للواقع السياسي الراهن في بلادنا
متطرقا الی المواضيع الحساسة في هذا الواقع والی دور الاحزاب والمنظمات
التي ظهرت مؤخرا علی المشهد السياسي. ويمكنني القول انني لم أقرأ الی حد
الان ما يضاهي هذا الحوار بخصوص قضايانا ومشاكلنا الراهنة.
فقد انتقد هشام جعيط عمل
الهيئة العليا لحماية اهداف الثورة التي تبطئ في اعمالها بسبب كثرة
النقاشات الايديولوجية بين اعضائها٬ كما انه اشار الی ان بعث لجنة مشرفة
علی الانتخابات امر “غير مجد” لان الحكومة الحالية قادرة علی القيام بذلك٬
بحسب رأيه وتساءل هشام جعيط عن سبب او عن اسباب كثرة المختصين في القانون
بعد ثورة 14 كانون الثاني منتقدا تشبث هؤلاء بما سماه بـ “نقاط تفصيلية
يرجع عهدها الی قوانين قديمة جدا” فالمشروعية اليوم هي بالنسبة اليه
“مشروعية الثورة وليست مشروعية قوانين ادارية قديمة”.
وحذر هشام جعيط من تعطل
الحياة الاقتصادية في البلاد بسبب كثرة المطالب والاضرابات والاعتصامات٬
غير ان الاحزاب الجديدة لم تعمل الی حد الان علی تنبيه التونسيين الی هذه
المخاطر٬ وقد يعود هذا بحسب رأيه الی “قصور الحس الوطني” لدی المصرين علی
تعطيل الحياة الاقتصادية في البلاد٬ ونظرا لغياب زعامة سياسية قادرة علی
لم شمل التونسيين حولها٬ قال هشام جعيط باننا قد نحتاج راهناً الی زعيم
“مثل بورقيبة في فترة شبابه لكنه ديمقراطي يجوب البلاد ويفهم الناس
واقعهم”.
وحذر هشام جعيط من النزاعات
والنعرات الايديولوجية والمذهبية التي قد تندلع بسبب كثرة الاحزاب في
بلادنا٬ وتباين وجهات نظرها ومواقفها تجاه العديد من المسائل والقضايا
الخطيرة.
وبخصوص حزب “النهضة” قال
هشام جعيط بان “اللغط الحاصل حول العودة الی الشريعة وحذف مجلة الاحوال
الشخصية قد يؤدي الی حرب اهلية” ثم ان ما يشغل التونسيين بحسب رأيه هو
“الخبز والكرامة”. اما المشاكل الايديولوجية والدينية فلم يعد لها معنی.
وسط الضجيج والصخب الذي
نعيشه راهنا علی المستوی السياسي والايديولوجي يأتي كلام المفكر المرموق
هشام جعيط داعيا التونسيين الی ضرورة معالجة قضاياهم ومشاكلهم بعيدا عن
الحسابات الضيقة وعن الفزاعات العقائدية والايديولوجية٬ وعن كل ما يمكن ان
يعطل حياتهم الاقتصادية او يبث الفرقة والفتن القاتلة بينهم.