2012-01-13 غيّر مفهوم الفلسفة وبلور صورة مختلفة لعلاقة المثقف بعصره
جان بول سارتر |
| |
القاهرة
ـ 'القدس العربي' ـ من محمود قرني: اصدر المجلس الاعلى للثقافة كتابا هو
مجموع الابحاث التي القيت في الجلسة النقدية الموسعة التي اقامها المجلس
تحت عنوان 'جان بول سارتر .. رؤى وقرارت'، بمناسبة مرور مئة عام على مولد
سارتر.
وقد ضم الكتاب معظم الابحاث المشاركة لباحثين عرب واجانب بينهم بونو
ادوني، حمادي بن جارالله، اور مغيث، صبري حافظ، سامية عبد الرحمن، حسن
يوسف، منى طلبة، محمد الجمل، ادوارد الخراط، ماهر شفيق فريد، نفيسة شاش،
عبد الحي الديوري، محمد علي الكردي، حسن طلب، هاني دانيال، عبد الحي
ازرقان، الزواوي بغورة، ابراهيم فتحي، محمد برادة، عبد السلام بنعبد
العالي.
وكان المؤتمر قد شهد العديد من الاوراق البحثية التي حملت عناوين لافتة
تدور حول المشروع الكبير الذي قدمه سارتر. وسنحاول هنا التوقف امام بعض
الاوراق التي شهدتها الندوة والتي ضمها الكتاب في ما بعد.
من بين الاوراق، البحث المقدم من الناقد ابراهيم فتحي تحت عنوان 'مغامرة
الذات الفردية مع البنية التاريخية في مسار سارتر' ويتناول فيه موضوع
الذات الانسانية في هويتها الشخصية الباطنية باعتبارها نقطة البدء في
كتابات سارتر الفلسفية، ولذلك فهو يراها المرجع الاصلي للحركات والاحداث
التاريخية والاجتماعية الاكثر شمولا. ويقول انه في كتابه 'الوجود والعدم'
1943، يقدم تساؤلات عن تفسير الماركسية الستالينية التي تخضع دور الفرد
لقوى خارجية من قبيل علاقات الانتاج او صراع الطبقات وتظل الذات حية فاعلة
والقوى ميتة خامدة، ويضيف ان سارتر يكرر كثيرا، في فترة امتدت من 'الوجود
والعدم' الى 'الوجودية فلسفة انسانية' 1945، أن الذات الفردية مركز للوجود
في العالم يجعل الاشياء تحدث، كما انها اولية موحدة رغم الشقاق. وفي
'الوجود والعدم' يرسم صورة فردية اساسية للوجود الانساني، او الوجود لذاته
من جانب آخر.
ويقول ابراهيم فتحي ان سارتر في 'نقد العقل الجدلي' 1960، يتبنى مدخلا شبه
جمعي للتاريخ والسياسة يقع في 600 صفحة، قدم فيه متاهة من المداخلات بين
الممارسة الفردية والصيرورة الاجتماعية، أي بين الافراد والمجموعات.
وينتهي ابراهيم فتحي بعد استعراض الانتقالات الفكرية لسارتر الى انه في
السنوات الاخيرة ومع استمرار الحرب الباردة وجمود اليسار الفرنسي وحركة
الطلبة والعمال عام 1968، استنكر الشيوعية المؤسسية ورفضها، ووقف مؤقتا مع
حركات اليسار الجديد، ولكن ابراهيم فتحي يعود ليؤكد ان لقاءات سارتر مع
مجلات مثل 'النضال المستمر' الايطالية عام 1977، و'نوفيل اوبزرفاتير'
الفرنسية 1980، تؤكد تغيير اتجاهه في سنواته الاخيرة باعلانه تخليه المصرح
به عن الماركسية باسم فوضوية جديدة راديكالية.
اما الورقة المقدمة من الروائي والناقد ادوارد الخراط فقد جاءت تحت عنوان
'سارتر من العبث الى الالتزام' يبدأها بقوله، العمل هو رد سارتر عن العبث،
فليس العبث مفضيا عنده الى الشكل، والقعود عن العمل، وهو يؤكد انه لا يدعو
الى فلسفة هدوء واستكانة، وهو ينكر في عنف كل اتجاه الى الاستسلام او
التسليم، وهو في ذلك انما يعود الى قضية اساسية من قضايا الوجودية.
ويختتم الخراط ورقته بالقول 'ان الاختيار مسؤولية بالقطع، وانا اذ اختار
نفسي ـ عند سارتر - فانما اشرع للانسانية جمعاء، فاختياري اذا يقع في داخل
الناس، وهو يقع لهم، وبارادتهم، وليس ابعد عن الوجودية من الفردية
المطلقة، وان كانت الوجودية تبرز ما يسميه سارتر بكرامة الانسان لانها
تعيد له حقه المطلق في الاختيار ما دام ملتزما، ذلك الاخلاص الكلي وذلك
الوضوح الكلي، ما دام ملتزما حسن النية من دون اجبار يأتيه من عل ومن دون
تقييد. ويختتم ادوارد كلامه بالقول: البؤرة التي توجد فيها فكرة الالتزام
عند سارتر ـ على ما قد يبدو في ذلك من غرابة ـ هي الحرية.
اما الورقة المقدمة من الزواوي بغورة فقد جاءت تحت عنوان 'اللغة والوجود
والحرية .. قراءة في المسار الفلسفي لجان بول سارتر'. ويبدأ بغورة من قول
سارتر عن موقفه من اللغة 'منزلتنا من اللغة كمنزلتنا من جسدنا: نشعر بها
ذاتا على حين نتجاوزها الى ما ورائها وغايات اخرى، على نحو ما نشعر
بأيدينا واقدامنا وندرك اللغة حين يستخدمها متكلم آخر.
هنالك كلمة يحياها المرء وكلمة اخرى يصادفها، وفي الحالين رهن بمشروع اقوم
به قولا، بغية التأثير في الاخرين او يقوم به الاخرون بغية التأثير فيّ،
فالكلام لحظة خاصة من لحظات العمل، ولا معنى له خارج ذلك النطاق..'.
ويرى بغورة ان هذا الموقف يحتاج الى بحث لم يقف امامه الدارسون الا لماما
حسب تعبيره، ليس باعتبار سارتر ينتمي الى فلاسفة اللغة أو الى التحليل
اللغوي او من مؤسس فلسفة اللغة، ولكن باعتبار ان للغة مكانة مهمة في
تفكيره الفلسفي، وان هذه المكانة لا يمكن دراستها بمعزل عما اسسه الفيلسوف
على صعيد الوجود والحرية، وان تأسيس الفلسفة الوجودية لا يتأتى من دون
موقف فلسفي من اللغة، ومن هنا حسب بغورة، يأتي تشابك وتداخل العلاقة بين
اللغة والوجود والحرية، وهو ما تعكسه اثار الفيلسوف المختلفة.
ويتناول بغورة في بحثه ـ على هذه المرجعية ـ محاور اللغة والوجود، بين الوجود والحرية، بين الحرية والتحرر.
اما الورقة المقدمة من العفيف الاخضر فقد جاءت تحت عنوان 'سارتر من الذين
علموني'، يبدأها بقوله، لن اخوض في فلسفة سارتر الوجودية لأن خطابي عنها
تكون له شرعية اهل الاختصاص، حسبي تقديم شهادة عن تأثير سارتر في، بل ربما
كان بين اوائل من علموني ابجدية التفكير الحديث، أنا الآتي من ثقافة
تقليدية تعد النقل مرجعها الاعلى وتعد العقل رأس الشرور.
ويضيف الاخضر: كان عمري 15 سنة عندما قرأت اول كتاب لسارتر، التقيت خلال
الاجازة الصيفية، في قريتنا باحد زملائي في المدرسة، اعارني كتابا كان
يحمله وقال لي، انه لم يفهمه. عنوان الكتاب كان 'البغي الفاضلة '، لم يسبق
لي ان قرأت مسرحية، بل لم اسمع بهذه الكلمة
اعتقدت وانا اقرأها انها تروي احداثا وقعت فعلا. فلم اكن قد قرأت شيئا عن
دور الخيال والتخييل في الكتابة الادبية، وعندما اعدت المسرحية لزميلي في
الموعد التالي لسوق القرية حاولت افهامه ان مغزاها هو ان امريكا سجن عنصري
للسود الذين لا حليف لهم الا البغايا الفاضلات. ويضيف العفيف الاخضر: بدا
لي انه اقتنع بفهمي السابق لمسرحية سارتر.
وبعد حوالي اربع سنوات من قراءة 'البغي الفاضلة' تعرفت على الوجودية خاصة
من خلال ما كانت تنشره دار 'الآداب' ومجلة 'الآداب' البيروتية . وهكذا
بدأت اتأثر بوجودية سارتر، ومن خلالها اكتشفت ان الحياة كواقعة بيولوجية
تفتقد المعنى الحي، الفرد البشري هو الذي يعطيها المعنى هنا والان. وحياة
بلا معنى غير جديرة بأن تعاش. ويقول الاخضر، 'ماتيو' بطل 'دروب الحرية'
يقول لا يكون الانسان انسانا ما لم يعثر على شيء يقبل ان يموت من اجله، او
يحيا من اجله. واعطاء الفرد لحياته معنى لم اتعلمه الا من سارتر، وهي
الفكرة التي سكنتني ولا تزال، ووجهت مسيرتي شابا وشيخا، وكم كانت تسحرني
كلمة سارتر 'حتى تعرف قيمة حياتك عرضها للخطر بين حين وحين'.
ويقول العفيف: تعلمت من سارتر ان لا اخاف من قراءة ماركس الذي كان الاقتراب منه في ذروة الهذيان القومي العربي خطيئة مميتة.
ويضيف انه مدين لسارتر بمفهوم المثقف، بما هو منخرط في صراعات عصره للدفاع
عن مصالح المحرومين من حقوقهم الانسانية والمدنية والاجتماعية ـ
الاقتصادية والثقافية والنساء، غير المسلمين والفقراء والعمال . لكن من
الديماغوجية السارترية الدفاع غير المشروط عن مصالح المحرومين، وهو في
نظري لا يغني عن اضافة المصالح الحقيقية كما يفهمها المثقف الذي يجازف
بحريته او حياته دفاعا عنها.
ويضيف العفيف: ان الدفاع عن المحرومين لا يعني التطابق مع درجة وعيهم
الراهن، الذي هو غالبا مغترب سادي مازوخي، خاصة في مجتمعاتنا التقليدية
التي يسودها العنف الرمزي، أي استبطان شرائح اجتماعية بكاملها لأفكار
جلاديها.
اما الدكتور حسن طلب فقدم ورقة تحت عنوان 'سارتر ـ الظاهرة الجمالية من
منطلق فينومينولوجي' وحسبما يقول طلب فان بحثه يطمح الى معالجة الاساس
الفينومينولوجي الذي انطلق منه سارتر في رؤيته للظاهرة الجمالية، سواء على
نحو ما بدت تلك المعالجة في عمله المهم 'الخيالي' الى جانب كونه تمهيدا او
مدخلا اساسيا لدراسات سارتر الانطولوجية اللاحقة على المستوى الفلسفي
النظري، ولتأملاته وتحليلاته المتنوعة حول قضايا الفن المعاصر على المستوى
التطبيقي.
ويضيف حسن طلب قائلا: ان الدراسات والمقالات الكثيرة التي كتبها سارتر حول
بعض الاعمال الادبية والفنية، يمكن ان تمتحن في هذا السياق على ضوء رؤيته
الفينومينولوجية للظاهرة الجمالية .
اما الباحثة زينات احمد عبد الفتاح شمس فقدمت ورقة بعنوان 'اللحظات
الاخيرة.. مفهوم المقاومة في مسرحيات سارتر وردبلس وعلي سالم '، وتشير الى
انها تهدف بدراستها المقارنة بين ثلاثة كتاب معاصرين ينتمون الى ثلاث
ثقافات مختلفة، الى مقارنة مفهوم المقاومة وردود الافعال المختلفة
للمقاومين عند مواجهة الموت، وذلك في الاعمال المسرحية: 'موتى بلا قبور'
لسارتر، و'مونسرات' لعمانوئيل ردبلس الجزائري المولد الفرنسي الثقافة،
وتقول زينات ان الدراسة تقوم على محورين..
الاول: هو ابراز الصراع الداخلي الذي يمزق المناضلين، وهم على وشك ان
يلقوا حتفهم، حيث تعتبر اللحظات الاخيرة في حياة المقاومين حجر المحك الذي
يظهر الفرق بين المناضل الحقيقي والمقاوم الذي لا يستطيع الصمود للنهاية،
فتلك الاعمال المسرحية الثلاثة تقوم على وضع ابطال المقاومة في موقف
اختبار صعب، حيث يكون عليهم الاختيار بين التضحية بحياتهم والتخلي عن
مبادئهم. فتكون تلك الاوقات العصيبة تتويجا لانتصار المقاوم الحقيقي، حتى
لو كان ثمن الانتصار هو حياته نفسها، اما بالنسبة لمن يرتد عن موقفه فان
القناع يسقط عنه في لحظة صدق مع النفس قبل ان يلقى حتفه مهزوما منخذلا
ويكون رد فعل شخصيات المسرحية في هذا الموقف الصعب مرتبطا ارتباطا وثيقا
بنظرتهم للموت خاصة وللايمان بالله عامة. وتضيف زينات: هنا يظهر الفرق
الشاسع بين فلسفة سارتر بشقها الالحادي واثرها على ابطال مسرحيته الذين
يعانون من فراغ نفسي شديد، وبين النظرة المتزنة للدين عند ردبلس وعلي
سالم، تلك النظرة التي تجعل شخصياتهم تتمسك بالامل حتى في احلك الظروف.
اما الباحثة صفاء عبد السلام فقدمت ورقة بعنوان 'موت الامكانية وامكانية
الموت' دراسة مقارنة في انطولوجيا الموت بين سارتر وهايدجر .
تقول صفاء عبد السلام ان التفسير الانطولوجي لظاهرة الموت عند سارتر يختلف
عن مثيله عند اهم فلاسفة الوجود الالمان مارتن هايدجر اختلافا شاسعا،
وينصب هذا الاختلاف بصورة اساسية حول مفهوم 'امكانية الموت' بحيث يتحول
هذا المفهوم الى نوع من 'الموت للانطولوجيا' عند سارتر، حيث يرى ان الموت
هو تلاش لجميع امكانيات الوعي، بينما يتحول هذا المفهوم عند هايدجر الى
'انطولوجيا عن الموت'، حيث يرى ان الوجود للموت امكانية تخص الموجود
الانساني او هو وجود للامكانية.
وتضيف صفاء عبد السلام قائلة: ان سارتر يرى ان الموت لا يمكن ان تكون له
امكانيته الخاصة ولا يمكن ان يكون واحدا من امكانياتي لأن الموت يعني
الشروع في استحالة كل مشروع بما في ذلك نفس الشروع نحو الموت، فهو تلاش
لجميع امكانيات الوعي، وهو بذلك شيء سلبي منتفي المعنى.
اما ورقة الباحث عبدالحي الديوري فكانت بعنوان 'سارترعلى مشارف ما بعد الحداثة'.
ويقول الباحث ان بعض المتخصصين يرى في تطور فكر سارتر انه وضع الانظومات
النظرية الواحدة تلو الاخرى بدون ان يضع لها خلاصات، في حين كان يعد
القارئ بها في اعمال لاحقة لم تأت ابدا، هذا فضلا عن كون معظم لاحقات هذه
الانظومات تناقض سابقاتها وكأنها مشدودة كلها تحت طموح جامح الى عقلنة
المتجدد والمتغير بعد الحرب العالمية الثانية في حقول الفكر والثقافة
والسياسة وضبطها في انظومة 'الكلي' الثابت، على غرار 'الكلي' الذي ركد
وراءه امثال بريك، ولهثوا في تلك الحقبة لكن بدون جدوى.
اما الدكتور عبد السلام بنعبد العالي فقدم ورقة تحت عنوان 'نحن وسارتر'
ويبدأها بالقول: ان لم يكن لسارتر مفعول على تكويننا الفلسفي، فقد كان له
اكبر الاثر على مفهومنا عن الفلسفة وممارستنا لها. فمعه ادركنا ان الفلسفة
ليست بالضرورة تاريخا للفلسفة، وانها ليست بالاولى عملا اكاديميا، ومعرفة
فلسفية، وان فضاءاتها ليست بالضرورة هي رحاب الجامعة.
ويضيف بنعبد العالي: لقد امدنا سارتر بمفهوم جديد عن الفلسفة، وساهم في
بلورة رؤية مغايرة الى المثقف والتزامه، وابرز لنا ما ينطوي عليه الادب من
'طاقة'، وما تتمخض عنه الكتابة من بعد سياسي، ويقول مردفا: صحيح انه حال
بيننا وبين مفاتيح الحداثة الفكرية، وجعلنا نجهل ما كان يجهله، ولا نهتم
بما لم يكن ليهتم به، ولا نعرف الا ما كان يعرفه، وصحيح انه لم يفتح
اعيننا على الحداثة الفكرية الا انه رغم ذلك قد حال بيننا وبين التقليد،
وصاننا ضد التوتالتيارية الفكرية، وعقمنا ضد كل ماركسية وثوقية، فمكننا من
ان نزاوج بين الضرورة والحرية، بين الالتزام والابداع، بين لا معقولية
وضرورة العمل، بين عبث الوجود والمسؤولية الاخلاقية وبين قوة الاشياء وقوة
الكلمات فمكن جيل القدر والمهزومين من البحث عن مخرج من ورطة التاريخ