حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

  //--**-- ..... البشر معادلة عكسية..

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ساحة الحرية
فريــق العــمـل
فريــق العــمـل
ساحة الحرية


الجنس : انثى
عدد المساهمات : 902
معدل التفوق : 6211
السٌّمعَة : 25
تاريخ التسجيل : 11/12/2011

 //--**-- ..... البشر معادلة عكسية.. Empty
21122012
مُساهمة //--**-- ..... البشر معادلة عكسية..


















2012-12-10

جاك بيرك : شيخ المستشرقين المنحاز لقضايا العرب و المسلمين



يونس بنمورو



 //--**-- ..... البشر معادلة عكسية.. 2010-09-13-14-56-10%285%29








:
إبغرافي البدء " يعتبر جاك بيرك من بين المفكرين البارزين في مجال العلوم
الإجتماعية ، و لعل أساس التفكير في الإهتمام بأعماله راجع إلى أهمية هذا
الإنتاج نظريا و منهجا . تجاوزت أعماله المئات من الكتب و المقالات و
الحوارات : بدءا بالمونوغرافيات ، مرورا بالعمل الإثنولوجي المتميز حول
سكساوة بالأطلس الكبير ، و صولا إلى ترجمة القرآن الكريم و الأحاديث
النبوية ، و خلال ما يزيد على خمسين سنة عايش السلوكات العربية ، و إحتك
بها ، و تفاعل معها من أجل فهمها في ماضيها و حاضرها و كيفية توجهها نحو
المستقبل . فجاك بيرك ما فتئ خلال مشروعه الفكري برمته ، يبلور إشكاليات و
مقاربات و مفاهيم بعيدا عن الطرق المعبدة و عن حدود التخصصات و تقسيم
الأجناس ، مازجا بين النظري و العملي في سعيه للإلمام بالواقع العربي في
غناه و تعدديته ، وفي أبعاده المحلية و الكونية ، و مهما تعددت و تنوعت
موضوعات هذه الإشكاليات يبقى مركزها الإنسان العربي في تعابيره ، في
نجاحاته و إخفاقاته ، في عنفه و ليونته ، في إقدامه و تردده ، و في سعيه
إلى إثبات وجوده مع الأخر و بالرغم منه " حسن المجاهيد .

لم يكن جاك بيرك رجلا عاديا البتة ، و لا مثقفا منمطا مبتذلا ، رخيص
القيمة و لا المعنى ، تستطيع عجلة الزمن الجاحدة أن تلفه بسهولة دونما
مقاومة أو إمتعاض ، كما لم يكن مفكرا مريدا لأمهات الأفكار العابثة
التنقيصية ، أو تبعيا منساقا وراء موضة التحليلات المبتورة الرثة ، أسيرة
الحكم المسبق و التنظير الفاجع المشوه ، و لم يكن متأثرا بنظريات جرداء
يأكلها التقزيب و التقزيم ، كما لم يكن زائفا رخوا تسهل إمكانية طيه و
تهميشه في مهملات التاريخ ، أو تقويضه في مزبلة المعرفة و التفكير ؛ كما
لم يكن ضعيفا هشا يسهل على التاريخ نفسه ، عجنه و سحقه بآليات التجدد أو
النسيان ، كما لم يكن أيضا باهتا هجينا ، تسهل على حتمية التاريخ الساحقة
الإستغناء عنه ، لتلوكه و لتنثره وراءها غبارا زائفا زائدا يتلاشى في
الفضاء ، لتضيع أثاره النيرة في الكون الفسيح ، و يخبوا صوته و صداه بين
ركام الأفكار ، أو يتبدد بين طيات البحث و التحليل ، أو يتحلل نتيجة النقد
و التفكيك ؛ بل هو قامة فكرية زاهرة من طراز راق و رفيع ، رصين و حكيم ،
قوي و متماسك ، مشبع إلى حدود المنتهى بالثقة و الشموخ ، أصر على نحت إسمه
بحزم و تفان في سجل الفكر و السؤال ، و بعناد قاس عاكر لا يقبل أي نقاش أو
جدال ، كاتب ملهوف بالحقيقة و تحليل التحليل ، و مشبع بالتقصي و الإكتشاف
، إلتمع ضيائه المبهور بعد ما إندلق من مضمارات مختلفة للمعرفة و الأفكار
، فبإرادة فولاذية أقر بأن لا يربض إسمه القدير إلا في مدارات التأمل و
التفكير ، و ضمن عوالم التحليل أقر الوفاء و رغب في الإنتماء ، و خارج
الحكمة و نكهة المعنى يمتعض باحثا عن التسرب و الإرتحال ؛ هو باحث
بمواصفات الكبار ، بشأو باذخ مرموق ، لا ينتصر لبراديغم خائر و وحيد ، و
لا يجد لذة الحقيقة في قاموس واحد و يتيم ، بل يكتسي أردية مختلفة المعنى
و المتون ؛ بلقب فاخر يتموج على سواحل الفكر و الإبداع بأقصى الحماسة و
الفهم ، و برغبة في الحفر و الكشف عن الجذور لا تحدها مطبات و لا نوازع ،
و لا يخالطها شيء من الزيف أو النفاق ؛ كاتب جليل بدون منازع ، إنزرع إسمه
على صفحات التاريخ بكامل الأبهة و الإقتدار ، بعد ما زفرته بلدة فرندة
الصغيرة ، الراقدة ببلد المليون شهيد ، ليبصم لقبه فيما بعد على شريط
الشمال الإفريقي بعد طول تجشم و عناء ، منغمرا في تعاريج الحياة مكتدحا
باحثا ، راحلا و مرتحلا أيضا على إمتداد المتوسطي بترتيب محكم لا يستند
على الإعتباط . فجاك بيرك مفكر غير قابل للتصنيف و لا الإختزال ، و غير
خاضع للتعليب الخابي المعنى و الفائدة ، فما فتئ الرجل يؤكد بثقله المعرفي
و بزخمه الفكري إستحالة الإنتهاء ، و لا الإنمحاء لكل ما جادت به سلته
الفكرية و وعائه المعرفي ، فقد خلف تراثا إبستمولوجيا هيهات أن يبلي ، و
من المحال أن يفقد نكهة الصلاحية ، و لا روح الجدوى ، و ليس بالغريب ألا
يتعرض للتلف مطلقا ، و لا للتجاهل أبدا ، أو حتى للتبخيس بطرقة فجة ماقتة
، مبتذلة و جذماء ، أو أخرى ساخرة هرمة و بتراء ؛ فبيرك علامة عليمة نادرة
، قلما جد بها التاريخ الحديث ، شخصية موسوعية فذة مائزة ، أحبت بهمة
العرب و المسلمين ، و عشقت بتصوف ثقافة المغارب و أرض كمونهم ، فكانت من
المخلصين لصداقتهم و أصالتهم ، و تفننت بألق في وصف قصة عشقها لهم ؛
فلطالما طرح هذا الرجل المتوسطي نفسه كصديق للعرب بتفان ذاهل ، و بوفاء
منقطع النظير ، عاضدا قضاياهم بإلتزام دائم و بقناعة لا تخبوا أو تهتز ،
دون أن يجاملهم أو يمارس خطاب الديماغوجية عليهم ، و إذا ما حصل أنه يجامل
، فإن المجاملة يعقبها صدق يبدو قاسيا جافا ، و مؤلما جدا ، ليس بهدف
التحقير أو الإبتزاز ، بل من منطلق الملاحظة الشفافة و التنبيه الصارم ،
لا لشيء سوى لتخرج بلدان الإسلام من قوقعة الجمود و التخلف ، لتأخذ بأسباب
التطور و الرقي . ففي هذه النقطة ينحصر مشروع بيرك الفكري ، فهو الكاتب
الزاخر ، لا يستغرقه التنظير بتاتا ، فليس بالمستشرق المغلق في عتمة برجه
العاجي ، دون إبداء أدنى إهتمام بمشكلات حفدة لغة الضاد ، فلطالما سلخ من
حياته السنين فداءا لأبناء أخر الديانات ، فلم يتحفظ يوما ما في إقتراح
حلول تخص أتباع أخر المرسلين ، لبناء غد عربي مشرق و غناء ، يهفو نحو
التقدم و الإزدهار ، خاصة و أن الإسلام يحمل في أحشائه نكهات العقلانية
الآمرة بإحقاق التطور و النماء ، فرغم صعوبة المهمة و تعقد مسار قاطرتها ،
فلم يكل بتاتا ، و لم يمل مطلقا ، في تقديم إقتراحات قيمة نيرة ، حاولت
مساعدة العرب قدر المستطاع لإثبات ذواتهم في معارك الركب الحضاري ، مبرزا
حقهم في التنازع حول عالم المستقبل الذي ليس ملكا لأي كان . فالرجل ليس
إذن بالإبستمولوجي فقط ، بل رجل موقف و مبادئ تتوكأ على الأمانة و الإخلاص
في كل أسسها و قواعدها ، فلطالما إنحاز لصوت العرب بصفة المستشرق الصادق
النبيل ، و لطالما إنتصر لقضايا المسلمين ، بصبغة الأخ و الجار القريب ؛
فبيرك مدرسة قائمة بذاتها ، نذرت نفسها و قضت عمرها في تدارس الإسلام
و ثقافة المسلمين ؛ تحملت عناء البحث و التنقيب ، كما تجشمت ثقل دراسة
الثقافة العربية و رموز حضارتها ، بل و أيضا العقلية العربية و ما يميزها
، ليس بهدف تغييرها و تشويهها ، أو النيل منها بتحذلق و صلافة ، بل لفهمها
من الداخل و الإستفادة منها ، و محاورتها مع باقي ديانات السماء ، من أجل
بناء بحيرة للمعنى ، تجمع ضفتي المتوسطي ؛ و بغية إحقاق أسطورة العالم
الأندلسي من جديد ، حيث أرض التسامح و السلام ، و التعايش الهادئ بين
الأديان الإبراهيمية ، تفاديا لأنواع شتى من التطاحنات و التناحرات ؛
فبهكذا نوايا إستقامت أراءه و إكتسبت كامل المشروعية و المصداقية ؛ كيف لا
و ما يميزه كمستشرق صدوق إعتنائه الخاص باللغة العربية و إتقانه الرشيق
لها ، فمحاولته لترجمة القرآن إلى اللغة الفرنسة تتويجا لإهتمامه الدفين ،
و دليل جاد على نية التحاور بين العرب و الشرق من أجل متوسطي يسوده
التفاهم و أيضا السلام ؛ فبيرك لم يكن بالباحث الإسترسالي فقط ، بل كان
رجل مبادئ تسطع مواقفه بتلألؤ أخاذ ، فهو من القلائل الذين كانوا ، و
إستمروا يحلمون نظرة إيجابية عن العرب رغم كل النكبات و الإخفقات ، و
بعيدا كل البعد عن النوايا المغرضة الشائهة للتغليط و التجريح ، فلطالما
دعانا بكل إخلاص إلى التشبث بالأصالة ، و تدعيمها بنفحات المعاصرة لمواجهة
تحديات المستقبل ، مؤكدا إمتلاك الإسلام لكامل الصلاحية الذاتية للتقدم و
التجدد ، و دخول العصر دونما الحاجة إلى تسول نماذج التقدم من موائد
الآخرين الشوهاء ، فقد تمكن من البرهنة على هذا الإتجاه بعد سبره أغوار
تخص قافلة العرب و المسلمين ، لم يجرأ أحد من الباحثين على الذهاب نحوها
قبله ، و إستشفاف ما يعتمل في مغاراتها . كيف لا و هو شيخ المستشرقين بفكر
مطاطي يعتمر عدة قبعات علمية ، و يغترف من عدة توجهات معرفية ، كما يتمتع
بقدر كبير من المرونة الزئبقية ، و قوة الإنتقال و التبضع من حقل معرفي
إلى أخر ، و بكامل السلاسة و السهولة ، كما يتميز بإكتنازه لقدرة النهل من
مختلف مصادر المعرفة الإنسانية على مختلف مشاربها و تلويناتها ، ليتمكن من
تطويعها بحرية بيضاء ، نقية و صافية ، و صبها في قوالب أسلوبية خاصة به ،
زاخرة بالمعنى و التفرد . فهذا إذن هو بيرك ، شخصية علمية مدهشة ، تتمتع
بإحساس حاد يبهر العقول ، و بقدرة ذاهلة على إدراك أخف النبضات و التحركات
؛ كاتب ليس في متناول الجميع أبدا ، بأسلوب زاخر بالحكمة و مفتوح جدا على
كل التحليلات و التأويلات ، فبلغته يفضل أحيانا التلميح و الإشارة ، و
أحيانا أخرى يترك المعاني معلقة تائهة ؛ فالحديث عن المتن البيركي ، يفترض
في الدارس القدرة و التمرس على التعيين و التمييز ، ضمن إنتاج مركب متشابك
و كامل التداخل ، متضمن لجملة مستويات تتفاوت في أهميتها ، فلذا لا يفتأ
ينبه هذا المنجز الكبير القارئ ، بأن على العبارة أن تجهد نفسها بأقصى ما
تستطيع لتعكس الواقع ، لأن الواقع ليس بمستو حتى تكون العبارة مستوية ،
فمع الواقع يتعامل و ضمنه أسس منهجه ، رافضا بصرامة و إقتناع مفرط كل
أشكال توزيع الأدوار المتعجرفة السافرة ، سواء من تصنيف منهجي صلد أو حتى
نظري قميء ، فمن المعيش اليومي يستقي الأفكار ، و من خلال الميدان يصر
دائما على التبرم و الإبتعاد ما أمكن عن النصوص الميتة الجاهزة ، فيرفض
التعليل الميكانيكي الفظ ، و يتحفظ من التحليل التبسيطي البليد ، و يفرض
على نفسه مسافة أمن مهمة ، بينه و بين العقليات الإختزالية المتسلطة ،
فبيرك ظل و فيا للفكرة التي ترتكز على المعطى المادي ذو الأساس الميداني ،
فخلاصاته تعتمد على ما كان يلاحظه بأم عينيه ، و ما يتلمسه براحة يديه ؛
فمنذ إنطلاقته البحثية في تربة المغارب و على إمتداد المتوسطي ، و هو يقدم
النموذج المثال للباحث الإجتماعي المغوار ، المتعطش لقطف الأفكار و
تجميعها ، و المؤمن بمبدأ التريث و الحياد الدائم على طول الخط ، كفريضة
مقدسة لا تقبل النقاش و لا الجدال أثناء التعبد داخل محراب علم الإجتماع ؛
فهو المفكر الشامخ الأخاذ ، القاطع بإجحاف مع أفكار التلاعب المسبوقة
الدفع ، و الحازم أيضا مع أشكال التأثر الإعتباطي الساذج و العبودي ؛
فبيرك مفكر مسكون بالبحث و التحليل لأشد الرموز تعقيدا ، و لأبرز الظواهر
إرباكا و تصلبا ، فلم يكن يوما ما ممارسا للراحة و الإرتياح الفكري ، و لم
يكن في وقت من الأوقات مرتهنا على الجاهز للتشفير و التنظير بطرق فجة
ساذجة ، بل كان مهووسا بالإجتماعي إلى حد التخمة و الإمتلاء ، بل أكثر من
ذلك ، فهو مريض بلوثة البحث السوسيولوجي التي لا تجد دواءها إلا في
الميداني ، و لا تنتصر إلا لما يعتمل فقط في حقول هذا الميداني ، و ذلك
حتى تستطيع تقويض أسسها النظرية ، و حتى تتمكن من إستقاء توجهاتها من
التفاصيل الجزئية و الدقيقة لتضاريس المشهد المجتمعي ، لتكتسب نوعا من
الشرعية و المصداقية لخطابها ؛ فتمفصلات الواقع الإجتماعي الحي هدفها و
غايتها ، و الإحتكاك بتذبذبات الميدان نهجها ، و سر بريقها و لمعانها ،
فشريط المغارب رقعة ساحرة داهشة ، غنية أيضا و دسمة ، شكلت مختبرا لأبحاثه
العديدة و المتنوعة ، أما الملاحظة الميدانية الدائمة فقد كانت الأساس
العلمي لإلتقاط تفاصيل المشهد العام لهذه التجمعات ، و إعادة صوغها و
تركيبها و أيضا بنائها ، داخل قداسة العيادة السوسيولوجية ، بكامل
الموضوعية الحارقة ، و دون تفريط في الحياد الصارم ؛ فالنظرية عند بيرك
تولد من رحم الميدان ، و أن أي مشروع نظري لا يستقيم إنكتابه و لا إنوجاده
، دون الإرتهان قصدا لخفقان الميدان ، فالدرس عنده لا يأتي من بوابة
الأبراج العاجية العاتية ، و لا من التنظير المتعجرف ، بل ينكتب في
الميدان و يتأسس على التنزيل الواقعي لمعنى الممارسة و المفهوم . فالمتن
البيركي مجهد شاق ، يستلزم نفسا عميق الأعماق ، و قبلا مزيدا من الصبر ، و
وزنا كبيرا من الأناة ، كما يتطلب حدة عالية من التبصر ، و قوة رفيعة و
سامية من التمعن ، و الكثير أيضا من الثبات ، فالفكرة فيه أولا ، لا تأتي
منسابة ببسالة ، إلا بتوفر قدر عال من الفهم المسبق و قليل من المراس ، و
ثانيا ، لا تأتي منقادة مطواعة بذلالة ، فالمعلومة لا تنبرز إلا قطرة قطرة
، بعد أن تخضع لمصفاة التحليل و لآليات التشذيب ، فأسلوبه لا يقل عصيانا
على الذهاب بعيدا في الحول حول العبارة و أحوازها قصد الإفادة ، لا
الإسترسال أو الحشو ، فلغته صعبة و أسلوبه مانع ؛ يوصف تارة بالغموض ، و
تارة أخرى بطابع الغرابة و الإلتباس ، و ليس هذا بالغريب مطلقا ، فشخصية
بيرك هي نفسها جد معقدة و عامرة التركيب ، و جد متشعبة ، و كاملة الغنى ،
نظرا لتشعب ، و تعقيد ، و غنى ليس فقط الأسس المرجعية التي إنبنت عليها
طروحاته العامة و أفكاره ، بل و أيضا ، لتعقيد و غنى حياته ذاتها ، فقد
كان يحيا متنوعا ، مهاجرا و متعددا في إنتماءاته و أبعاد هوياته ، و تنوع
علاقاته و صداقاته الواسعة ، بدءا بإحتكاكه مع عموم الشعب ، مرورا
بمصاحبته لكبار المثقفين و المناضلين السياسيين ، و إنتهاءا بملاقاته
للرؤساء و الملوك ، فهو أيضا ملتبس في إنتساباته الحدودية ، و مبهم في
إرتباطاته الأصولية . فإننا إذن أمام شخصية فريدة من نوعها ، تمتعض من أي
إختزال عفن أو تصنيف جارح ؛ إنسان هو حقيقي ، ليس بسبب مواقفه النقدية
الذي تبناها في بداية طروحاتها الفكرية ، إتجاه الفكر الغربي أو حتى
العربي ، بل لإعتباره إنسانا أولا ، أقرب للعرب بالمقارنة مع أي مفكر غربي
عامة ، فهناك ، في المغرب الأقصى كما في الجزائر ، داخل المغرب العربي و
خارجه ، و منذ الأربعينيات من القرن الفائت ، و جاك بيرك يعطي للدرس
الأنتروبولوجي و السوسيولوجي كامل معناه و مبناه ، الصادق المختلف بعيدا
عن آليات التزوير و الضبابية ، و ذلك بإلتقاط أدق التفاصيل أولا ، و
تفكيكها ثانيا ، ثم محاولة موضعتها و قراءتها أخيرا ؛ ففي هذا السياق سنجد
بيرك سوسيولوجيا متعدد القراءات و الإنفتاحات ، غير مقتنع بتاتا بجدوى
الحدود المعرفية الشائكة بين العلوم ؛ فقد كان يستثمر التاريخ و القانون ،
و يغرف من الدين و اللسانيات ، و يرتهن على علم الأنتروبولوجيا و
السيكولوجيا ، و غيرها من العلوم في قراءة الواقعة الإنسانية ، كما يسخر
عدتها النظرية و المنهجية في تدبير أبحاثه ، و دراساته التي توزعت على
تيمات شتى و عديدة تنضح بالموضعية الصارمة ، و تفوح منها رائحة الحيادية
القاسية . فهذا هو جاك بيرك ، مفكر يعسر عن التحديد ، و يتعفف عن أي
إختزال تافه مشوه ؛ فإن أي صفة أو أي نعت يمكن إطلاقه عليه سيكون بالضرورة
غير واضح و ليس بالدقيق ؛ فهو المثقف الحاذق و الكبير ، عملاق الحوار
الحضاري الديني ، إنحاز لصوت العرب على إمتداد خفقان قلبه ، و ساند قضايا
المسلمين طيلة دوران رحى حياته ، فضلا عن مناصرته لحقهم في التحرر ، و
ساند مطالبهم في الإستقلال ، إنعتاقا من قسوة الإستعمار و سياسة المستعمر
. فبيرك باحث أيضا رفيع لا يداني و لا يقارع ، كان شغله الشاغل أن يقاسم
الناس جل إكتشافاته و بحوثه ، و أن يقنع أهل الضفة الأخرى ، و آل العالم
الغربي كله ، بواقع و حيوية عالم مجاور لهم يزخر بالمعنى ، يستحق كامل
التقدير و كذلك الإحترام ، دون المماحكات الجدلية و محاولات التهجم عليهم
، تحت يافطة صراع الحضارات و التحضر ؛ فهذا هو جاك بيرك ، شيخ المستشرقين
المنحاز لقضايا العرب و شؤون المسلمين ، حمل لسنوات وراء قلمه المتعطش ذات
إنسانية نادرة الوجود ، نذرت حياتها من أجل أن تنهض مرة أخرى ، حضارة
البحر الأبيض المتوسط من سباتها العميق ، لتقوم بدورها الإشعاعي و
التنويري على ضفاف المتوسطي ؛ ففي سبيل أسطورة الأندلس ، بدل جهدا مضنيا
ليقرب الإسلام للأوربيين ، في أنصع صورة له و أصدقها ، و أقربها أيضا إلى
النفاذ للعقول ؛ خصوصا و أن بيرك فهم العرب و إستوعب ثقافة المسلمين ،
فكان قريبا فكرا ، و أقرب وجدانا للعالم العربي ، و لحضارة الإسلام ، فقد
جاب جل أقطارها ، دولها ، و عاش عن قرب بين أناسها و إحتك بأهلها ، فأنصب
إهتمامه بدءا بعاداتها و عقلياتها و أيضا أنماط سلوكها ، و انتهى في
الأخير ، بمعالجة مظاهر اليقظة فيها و سبل نهضتها ؛ مستخلصا ، بأن العرب
اليوم يتموضعون في قلب إشكالية التاريخ المعاصر ، و يتوفرون على كل
المؤهلات الأفيد و اللازمة ، ليساهموا كغيرهم من المتدخلين ، بإعتبارهم
فاعلين في التاريخ و شركاء في بناء عالم مستقبلي ، الذي ليس في ملك و حساب
أي كان ، و لعل ما يميز سلوكهم الثقافي ، و كذلك الإقتصادي و أيضا السياسي
، من إضطراب حاد ، و تناقض شرس و تذبذب و تطرف أحيانا ، ما هو إلا مؤشر
صحي سليم ، على وعيهم بتاريخهم الحافل و بأهميتهم الوازنة ، و وعيهم
بالموازاة بمقتضيات المستقبل ، لأنهم لا يرغبون في الذوبان في خليط ما ،
أو الإرتماء في حضن ثقافة ما ؛ فهذه هي خلاصة المتن البريكي ، الذي لازالت
شمسه مشرقة على المتوسطي ، بإنتاج فكري صادق صدوق ، نابض بكل عناصر الحياة
المتفائلة بغد غناء ، حيث يسود التلاحم ، و يشيح لينة و تجانسا بين مختلف
أديان السماء .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

//--**-- ..... البشر معادلة عكسية.. :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

//--**-- ..... البشر معادلة عكسية..

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
»  //--**-- ..... البشر معادلة عكسية..
»  مباعدة متشظيّة عن معادلة "حارس التبغ"
»  لو ان أجسام البشر صُممت للبقاء
» تطوّر البشر من قرود مائية
» منطق الإله... وعقل البشر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: