اللوبي السوري في أمريكا.. أي دور في قمع الثورة؟
المعتذرون عن الأسد عندما استلم
بشار الأسد في العام 2000 مقاليد الحكم في سوريا خلفا لوالده، وكانت تلك
أولى حادثة توريث في جمهورية عربية، لم يصدر عن جزء كبير من الإعلام الغربي
وبخاصة الأمريكي أي رد فعل مندد بعملية "التنصيب". مجيء بشار لقي ترحيبا
من أقلام ومنابر إعلامية رأت فيه "الأمل" لتغيير محتمل في بلاد حكمها والده
من قبله بالحديد والنار. بعد سنوات من "بحر من الخطب وجبال من الوعود"
وخلف ابتسامة الرئيس الشاب، ذي الثقافة الغربية والمتمكن من تقنيات العصر،
ومع تفجر الثورة، اتضح للعالم أن الولد فاق أباه في البطش والتنكيل بشعبه،
لكن لا أحد من "اللوبي السوري" في واشنطن، حتى اليوم، اعترف بأنه أخطأ
العنوان وساهم "عن قصد أو غير قصد" ولسنوات في دعم ديكتاتور يتخفى في ثياب
"طبيب عيون".
بشار الأسد في حوار تلفزيوني مع باربرا والترز لقناة "آي بي سي" الأميركية
كثيرون هم الصحافيون الذين يؤمنون بأن الاعلام خدمة عامة عليها نقل الحدث بموضوعية وحيادية، يصرون على مواقفهم إذا كانوا على حق، ويعتذرون إذا ما أخطأوا التقدير. غير أن من الصحافيين من لا يرى الحق إلا في ما يؤمن
ويعتقد، ولا يرى في الصحافة إلا أداة ووسيلة لنشر عقيدته. بين هؤلاء
وأولئك، تتيه الحقيقة ويفقد الخبر معناه.. ويبدأ الإعلام المسيّس الذي لا يسعى إلا لتوجيه الرأي العام بدلا من خدمة الراي العام.
في هذا السياق، يبدو ان تعريف مبدأ الموضوعية هو اسهل من ممارستها،
اذ قد يواجه الصحافيون الساعون وراء “عدم الانحياز” بشكل مطلق عددا من
المتاعب، يتصدرها كون الصحافة، كأي مشروع، تحتاج الى تمويل حكومي او خاص،
وهو ما يعطي بعض الممولين الكلمة في تحديد مفهوم غير موضوعي مثل الموضوعية نفسها.
في حالة الصحافيين أصحاب العقيدة، حيث يصر الكتّاب بشكل غير قابل للجدال
على صحة افكارهم وتاليا يعملون على نشرها، يلعب التمويل دورا لا يستهان به
كذلك في تحديد صحة هذه الافكار ونشرها.
اتجاهان متضادان، يواجه الصحافيون معضلات أخرى، مثل قربهم من اهل السلطة،
اذ يفرض ذلك عليهم تحديد مدى ملاطفتهم لصانعي الحدث بهدف تحصيل المعلومات، فاذا تحولت علاقاتهم مع مصادرهم الى علاقات ودية كثيرا، قد يجد الصحافيون انفسهم مجبرين على التخفيف من حدة انتقاداتهم للمصادر. اما اذا حافظ الصحافيون على مسافة بعيدة عن المصادر، فقد يجدون انفسهم منقطعين عنها وتاليا عن المعلومات التي يسعون الى تحصيلها.
كريستوفر مايرز يتحدث عن هذا الانقسام في كتابه “اخلاق الصحافة”، فيكتب عن علاقة صحافي بمصدر حيث تتيح العلاقة للصحافي الوصول الى معلومات تفيد الجمهور بطريقة لم تكن لتكون متاحة في غياب هذه العلاقة. “الا تشكل تلك الصداقة تضاربا في المصالح؟” يتساءل مايرز، ليجيب: “اقول انها كذلك”. ويضيف مايرز انه “في الاطار الاوسع، تشكل هذه العلاقة ضررا وتعاني الكتابة من المحاباة”.
أصوات مساندةباتريك سيل، كاتب سيرة الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد، هو مثال بارز على ما يقوله مايرز،
فمن اجل الحصول على فرصة لدخول بلاط الاسد والكتابة عنه، من غير الممكن
التصور ان الكاتب البريطاني كان سيضع كتابا فيه اي شيء سلبي عن الاسد. ولمن
قرأوا سيرة سيل الشهيرة والتي حملت عنوان “الاسد والصراع من اجل الشرق
الاوسط”، لا بد انهم لاحظوا انه في الوقت الذي اظهر الكتاب حافظ الاسد على انه شخصية محببة، صوّر في الوقت نفسه رفعت، شقيق حافظ، على انه عدواني منذ طفولته.
باتريك سيل
ولكن هناك قطبة مخفية، فسيل نشر كتابه في العام 1990، اي بعد سنوات على خلاف الشقيقين الذي كاد ان يؤدي الى مواجهة دموية بين قواتيهما. فيما بعد، انتصر حافظ وذهب رفعت للعيش في المنفى، وعلى رأي القول المأثور، التاريخ يكتبه المنتصر، مما يعني
انه لو قيض لسيل وضع كتابه في السنوات التي كان فيها الاخوان على علاقة
جيدة، في العام 1982 مثلا، لكان رفعت ظهر في سطور سيل على انه شخص يتمتع
بطيبة تشبه الطيبة المزعومة لدى اخيه الاكبر حافظ.
سيل، الذي مازال ناشطا في مضمار التعليق على الاحداث في سوريا، قد يكون مازال يعاني مما رآه مايرز على انه مشكلة قرب الصحافي من رجل السلطة، مما يعني ان تحليلات سيل تعاني في كثير من الأحيان من محاباة لمصلحة الاسد ونظامه.
نفس التضارب في المصالح لدى الصحافيين، الذي يتحدث عنه مايرز، يطال مراكز الابحاث التي يفترض ان تقدم دراسات موضوعية لفائدة المواطنين كما صانعي القرار. ولكن كما وسائل الاعلام، تعاني مراكز الابحاث من مصالح مموليها وآرائهم، مما يثير الشكوك حول موضوعيتها.
ويعتقد البعض ان مراكز الابحاث تعاني من تأرجحها بين كونها بيوت بحث غير منحازة، وبين كونها مجموعات ضغط “لوبي”، مما يطعن بمصداقية الدراسات التي تصدرها حول عدد من السياسات، خصوصا في مواضيع معقدة مثل شؤون الشرق الاوسط.
في واشنطن، وعلى الرغم من تواجده المتواضع، نجح النظام السوري في تشكيل
“لوبي” ضاغط وفي العثور على اصوات مساندة له، أو على الأقل معتذرة عنه، ولم
تساهم الاحداث المندلعة في سوريا منذ مارس
2011، ولا تشديد العقوبات الاميركية والدولية على هذا النظام، في اسكات اي
من مؤيدي الاسد. وللاضاءة على الاسباب التي سمحت لاستمرار حضور الاسد في
العاصمة الاميركية، قد يكون من المفيد مراجعة كيفية عمل مراكز الابحاث
وتأثير هذا “اللوبي السوري” على السياسة الخارجية الأمريكية والرأي العام
الأمريكي.
في يوليو 2008، عقد “معهد بروكينغز” جلسة حوارية بعنوان
“الانفتاح على سوريا”. جاءت الجلسة قبل خمسة اشهر على نهاية ولاية الرئيس
السابق جورج بوش، الذي كان
قاد “العزلة الدولية” على نظام الاسد، على اثر اغتيال رئيس حكومة لبنان
السابق رفيق الحريري في فبراير 2005. حينذاك، سحب بوش سفيرته مارغريت سكوبي من دمشق، وهدفت الحملة الى “التغيير في تصرفات النظام”، على حد تعبير مسؤولي الادارة الاميركية في ذلك الوقت.
التغيير اتى، ولكن ليس من دمشق. في تلك الايام، كانت عبارة “التغيير الذي يمكن ان نؤمن به” هي شعار المرشح الرئاسي عن الحزب الديمقراطي السناتور باراك اوباما، الذي وعد بالانفتاح على سوريا وايران معا، وحمل وعده حينها الوزن الكبير خصوصا عندما كان يبدو، وبشكل مطرد، ان لا امكانية لفوز مرشح الحزب الجمهوري السناتور جون ماكين بالرئاسة.
فريد زكريا
في “بروكينغز”، قدم مدير المعهد ورئيس الجلسة مارتن
انديك ضيوفه: “سامي مبيض هو محلل سياسي، ومؤرخ، ومؤلف كتب كثيرة عن سوريا
الحديثة، (وهو) نجم صاعد في مشهد المثقفين في دمشق”. بالاضافة الى مبيض،
كان من بين المتحدثين سمير التقي، الاقتصادي ومستشار رئيس حكومة سوريا،
ورجل الاعمال
سمير سيفان، وكان الثلاثة اعضاء في “مجموعة عمل الولايات المتحدة –
سوريا”، التي كانت تعمل تحت اشراف “البحث عن ارضية مشتركة” بإدارة توم
داين.
بدأ اختيار المتكلمين في حينها مصادفة، وبدا وكأنه كان يضم اصحاب وجهات نظر متنوعة، ولكن بنظرة اعمق، بالاضافة الى المعلومات
التي اصبحت متوفرة في وقت لاحق، صار يبدو جليا اليوم ان الجلسة تم ترتيبها
بعناية تشي بأن “معهد بروكينغز” لم يكن يناقش امكانية الانفتاح الاميركي
على سوريا فحسب، بل كان يدعو الى هذا الانفتاح ويعمل من أجله.
الانفتاح على سورياالدليل الاول لهذا الترتيب المخفي جاء من انديك نفسه الذي قدم
داين على انه “رئيسه الاول، والمدير السابق (للوبي الموالي لاسرائيل)
اللجنة الاميركية – الاسرائيلية للعلاقات العامة ايباك”. هكذا، في العام
2008، كان المدير السابق لإيباك ينظم جولات خطابية في واشنطن لسوريين
مؤيدين للاسد. وللمزيد من التوكيد على علاقة داين بالنظام السوري، ظهر فيما بعد انه عمل في الفترة نفسها “مستشارا” لمصلحة تلفزيون “الحرة”، الذي يموله الكونغرس والذي يرأسه اللبناني – الاميركي دانيال ناصيف، وهو سبق ان عمل ممثلا للنائب اللبناني الموالي للنظام السوري ميشال عون.
من الواضح ان داين استخدم علاقاته مع انديك لجعل “بروكينغز” يستضيف جلسة “الانفتاح على سوريا”. وبعد سنوات، كشفت المعلومات ان انديك نفسه كان يرتبط – بشكل مستقل عن داين – بمساعدي الاسد، حسبما ظهر في حزمة “ايميلات” الاسد التي تم اختراقها في العام 2011.
“سيزور بعض اصدقائي المقربين دمشق بين 25 و29 مايو
(2010) للسياحة”، يقول انديك في ايميل ارسله الى مستشارة الرئيس السوري
بثينة شعبان. زوار دمشق الاميركيون، حسب انديك، هم “اشخاص نافذون في واشنطن
واعتقد انك ووليد (الارجح وزير الخارجية السوري وليد المعلم) ستستفيدان من
اللقاء معهما وهم بالتأكيد سيستفيدون من اللقاء معكما”.
وقدم انديك واحدا من الزوار على انه “جيم الذي كان رئيس موظفي نائب الرئيس السابق والتر موندايل في ادارة (الرئيس السابق جيمي) كارتر، كما عمل
كرئيس مجلس ادارة معهد بروكينغز”. وختم بالقول: “لقد ارفقت سيرته الذاتية
ليتسنى لكم رؤية الصورة كاملة، للرجل نفوذ كبير في البيت الابيض (تحت رئاسة
باراك) اوباما وفي الحزب الديمقراطي”.
“ايميل” مخترق آخر اظهر شعبان تعلم الاسد حول لقاء انعقد في بيت السفير التركي في سوريا عمر اونهون في يوليو 2011، عندما كانت قوات الاسد تسحق بدموية السوريين المطالبين بإنهاء حكمه وعندما كان المسؤولون الترك يعربون عن غضبهم ضد الاسد، في العلن، فيما يقول
اونهون لمسؤولي النظام، في السرّ، انه على “سامي (مبيض) الكتابة في
الصحافة التركية لشرح الموقف السوري والحاجة للحفاظ على العلاقات
الاستراتيجية السورية – التركية”.
ولكن ليس كل المدافعين عن سوريا وايران في واشنطن يفعلون ذلك بدافع
العلاقة مع مستشاري الاسد. بعضهم يفعل ذلك من اجل الحصول على مقابلات حصرية
مع حكام هذين البلدين.
فريد زكريا، مقدم البرامج في قناة “سي ان ان”، والمعلق في صحيفة “واشنطن بوست”، سافر الى طهران في اكتوبر الماضي
واجرى لقاء مع الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد. من نافل القول ان
الايرانيين لم يكونوا ليمنحوا هذا السبق الاعلامي لصحافي اجنبي لو كانوا
يعتقدون ان آراءه في غير مصلحة ايران.
وقد يكون ذلك صحيحا، اذ تظهر آراء زكريا انه ينفرد من بين اقرانه في
الدعوة الى عدم توجيه ضربة عسكرية ضد منشآت ايران النووية، مع انه لا يدعو
الى انهاء العقوبات الاقتصادية التي يعتقد انها تأتي مفعولها.
آراء زكريا ليست لمصلحة ايران فحسب، بل هي قد تطرب الاسد كذلك، اذا ما نظرنا
الى المقابلة التي اجراها زميل زكريا في “سي ان ان” دون ليمون، وسأله فيها
عن جدوى تسليح الثوار السوريين، فاجاب زكريا ان تسيلح هؤلاء “خطوة محفوفة
بالمخاطر”، فسوريا “مكان معقد جغرافيا، فهي ليس لديها منفذ بحري، وليس لديك
حرية الوصول كما كان الوضع في ليبيا حيث كان من السهل تزويد الاسلحة عبر البحر في الجزء الشرقي حيث مدينة بنغازي”.
خطأ زكريا هذا ينتقص من رصيده كمثقف، فيصبح السؤال على الشكل التالي: “كيف
يمكن لوسائل اعلامية مرموقة مثل “سي ان ان” و “واشنطن بوست” تمرير معلومات
مغلوطة الى الأميركيين وإعطاء الفرصة لتوجيه الرأي العام لمن يعتقد ان
سوريا، مع خطها الساحلي البالغ 183 كيلومترا (114 ميلا) على البحر المتوسط،
هي بلد مغلق بريا من دون اي منافذ بحرية؟
مدافعون آخرون عن النظام السوري في الولايات المتحدة قد لا يتمتعون بعلاقات مع النظام او بشهرة زكريا. ربما يحاولون فقط الظهور بمظهر مختلف، ولكن ينتهي بهم الامر وقد فشلوا في سعيهم وانتهوا غير مقنعين بطرحهم.
مارتن انديك
اسعد ابوخليل هو احد هؤلاء. ذلك الاستاذ الجامعي اللبناني في
كاليفورنيا هو صاحب مقال اسبوعي في جريدة “الاخبار” اليومية اللبنانية
القريبة من “حزب الله”. كما يكتب ابوخليل في مدونة بعنوان “العربي الغاضب”، ولكن، بالنظر الى مدوناته، يندر ان نجده غاضبا في موضوع يتعلق بإيران، ربما لان
رئيس الجامعة التي يعمل فيها ابوخليل، حامد شرفاني، هو ايراني وعضو في
هيئة ادارة “المجلس الاميركي الايراني”، احدى مجموعات اللوبي التي تعمل
لمصلحة النظام الايراني وحليفها النظام السوري في الولايات المتحدة.
الثورة المصرية وجدت مؤيدا لها في ابوخليل، الذي لم يبد اي مخاوف من امكانية سيطرة المتطرفين الاسلاميين على مصر ما بعد مبارك. لكن حماسة ابوخليل تراجعت عندما وجدت ألسنة النار الثورية طريقها الى سوريا، حليف ايران، اذ صرنا غالبا ما نرى ابوخليل يستشيط غضبا ضد تقارير الاعلام الاميركي حول الثورة السورية، ويكتب في تفنيدها متهما ناشطي المعارضة، الذين يحتقرهم بالجملة، بتضليل كاتبي التقارير.
وينفق ابوخليل وقتا اكثر في التجريح بـ “المجلس الوطني السوري” واطلاق الاسماء عليه من الوقت الذي يستهلكه في مهاجمة الاسد، وغالبا ما ينشر ابوخليل على مدونته ادعاءات النظام السوري بحسم المواجهة ضد الثوار لمصلحته.
كذلك، يهاجم ابوخليل رئيس المجلس برهان غليون ويتهمه على انه دمية بأيدي الغرب ودول الخليج. ربما لم
يخطر في بال الاستاذ المدوّن ان هجومه على غليون هو مغالطة منطقية، اذ ان
كان هناك عيوب في شخص غليون او اي معارض سوري آخر، لا يعني ذلك ان
الانتفاضة السورية فاسدة.
وعلى الرغم من مجهوده وهجماته غير المنقطعة على المعارضة السورية، لا يسدي ابوخليل خدمة الى الاسد كالخدمة التي يسديها نير روزن، مع ان الاثنين يستخدمان خطابا قديما الى حد الكآبة من خطابات “معاداة الامبريالية”. حتى ان روزن لا يلاحظ التناقضات التي يقع فيها في مقابلة واحدة.
الطامة الكبرىفي فبراير، بعد ان امضى اربعة اشهر في سوريا، لا كمتسلل على غرار
باقي الصحافيين بل بتأشيرة “فيزا” من السلطات السورية، قامت الجزيرة
انجليزي بإجراء مقابلة مع روزن قال فيها ان “الاعلام الاجنبي يركز على
ناشطي المعارضة السورية المنفيين والسياسيين، لكن الواقع يظهر ان هناك
قيادة ناضجة ومتمرسة على الارض وهي التي تدير الانتفاضة”، مضيفا ان قياديي
الداخل “غير معروفين خارج مجتمعاتهم”. وبالاجابة عن سؤال آخر، قال روزن:
“في موضوع التدخل (الدولي)، كما في معظم المواضيع الاخرى، من المستحيل التعميم على الناس العاديين في سورية”.
لم يلاحظ روزن انه وضع كل “الاعلام الغربي” في خانة واحدة، ولكنه رفض “التعميم” حول الشعب السوري الذي وصفه بـ “المتنوع والمنقسم”، ولو كان روزن على علم بالنقاشات العربية
حول الانقسام بين “الغرب والشرق”، كان سيكون على دراية لا بنظرية ادوارد
سعيد وحده حول “الاستشراق”، بل لكان على علم بتفنيد الفيلسوف السوري صادق
جلال العظم لهذه النظرية، اذ في ما يعتبر سعيد ان “الغرب” ينظر الى “الشرق” بنظرة تعميمية واحدة، يعتقد العظم ان سعيد ارتكب الخطأ نفسه الذي حذر من الوقوع فيه عندما جمع “الغرب” بأكمله في خانة واحدة وجعل له نظرة نمطية واحدة حول “الشرق”.
روزن كان مخطأ ايضا عندما وصف
القياديين داخل سوريا بالمجهولين في الغرب، اذ يعرف من يسكن في واشنطن،
مثلا، انه تم عقد عشرات المؤتمرات الحوارية في مراكز الابحاث عبر “سكايب”
مع هؤلاء الناشطين السوريين من امثال الشجاعة رزان زيتونة وآخرين.
تصريحات روزن حول جهل الغرب بما يجري
داخل سوريا غير صحيح كذلك. في سوريا، ادت التقارير الدقيقة والمفصلة حول
الاحداث هناك عبر “يوتيوب” او “تويتر” او “فايسبوك” او “سكايب” الى تحويل
مهمة الاسد في قمع الانتفاضة واخبارها الى مهمة صعبة جدا، فيما سمحت التقارير للعالم البقاء على اطلاع دوري ومستمر حول مجريات هذه الاحداث.
مع كل ذلك، ليس الفهم السطحي لسوريا الطامة الكبرى في اسلوب روزن الصحافي، اذ اظهرت “ايميلات” مخترقة نشرتها قناة “العربية” ان مستشارة الاسد هديل العلي قدمت روزن الى الاسد على انه الصحافي الذي “يذكر المجموعات المسلحة” و”يحاول تصوير العلويين بطريقة حسنة”.
ويبدو انه في الاربعة اشهر التي قضاها في سوريا، كان لروزن غطاء من “خالد وجماعته”، وخالد هذا هو خالد الاحمد، الذي يرجح ان يكون احد مستشاري الاسد الامنيين الذي كتب
للأسد فوصف روزن على انه “مصدر موثوق.. استطاع دخول بابا عمرو وقال لي ان
عددا من الوفود الاعلامية الغربية دخلت المنطقة عن طريق عبورها عبر الحدود
اللبنانية بطريقة غير شرعية”. ويصف خالد الوفود الغربية فيقول ان احدها كان
فرنسيا والآخر ألمانيا.
يذكر ان صحافيا فرنسيا وزميلته الاميركية قتلا في حمص في وقت لاحق بقذيفة من قوات الاسد.
خالد وصف روزن كذلك على انه قام بتسريب معلومات من الثوار إليه حول باخرة اسلحة ابحرت من ليبيا وكانت في طريقها الى الثوار في حمص عن طريق مرفأ طرابلس اللبناني.
على اثر انتشار الايميلات المخترقة، أكد روزن مراسلته لكبار النظام السوري،
ولكنه اصر على ان ذلك كان جزءا من اسلوبه في الصحافة، وقال: “انا اخسر
قدرتي على الوصول (الى المصادر) بسرعة حصولي عليها”. واضاف: “ان تقوم بعملك
(الصحافي) يعني انك غالبا ما تحرق الجسور وتخسر المصادر، ولكن هذا جزء من الوصول الى الحقيقة التي لا يريد اصحابها ان تنكشف”.
اذن يعتقد روزن ان لديه فرصة واحدة اثناء تغطيته للاحداث. اولا يقوم
بخداع مستشاري الاسد، ثم بعد ان يكتشف الحقيقة، “يدمّر” الاسد “ويحرق
الجسور” معه.
قد تكون خديعة روزن المزعومة غير مؤذية، ولكن تعريض حياة الصحافيين الاجانب الذين تسللوا الى حمص، من دون موافقة الاستخبارات السورية كما في حالة روزن، تظهر انه اما ان روزن كان يسرب المعلومات الى الطرف الآخر عن عمد، واما انه بسيط اكثر من ان يفهم عواقب افعاله، التي سمحت بدورها لمستشاري الاسد من امثال خالد باستغلال روزن، بعدما نشر الاخير عددا من المقالات برهن فيها عن نفسه على انه احد ابرز المدافعين عن الاسد في “الاعلام الغربي”، الذي يحتقره روزن اصلا.
ان واشنطن والعواصم الغربية مليئة بالمثقفين والصحافيين والاكاديميين
والعاملين في مراكز الابحاث والمدونين والناشطين ممن، ولاسباب مختلفة،
ينتهي المطاف بهم وهم يحملون لواء الدعاية لحكام معادين للغرب مثل الاسد في
سوريا واحمدي نجاد في ايران.
وتتنوع الحالات لتشمل “اللوبي الصريح” أي اولئك ممن ينسقون مباشرة
مع مستشاري الاسد، مثل في حالات سيل وانديك ومبيض وروزن، او من اصحاب
المعلومات المغلوطة مثل زكريا، والمغالطات المنطقية مثل ابوخليل. هؤلاء المثقفون غالبا ما ينتهي الامر بهم كمدافعين عن الاسد، وقبل ان يدركوا ماهية افعالهم، يستغلهم الاسد ومستشاروه المحنكون سياسيا، في مقابل سماحهم للمثقفين، ان من اصدقاء انديك او من امثال روزن، بوصول محدود الى مصادر الاخبار، ويصورونها لهم على انها سبق اعلامي.
وحتى لو احرق المثقفون جسورهم مع الاسد ونظامه فيما بعد، وحتى ان غيروا مواقفهم من التدخل الاجنبي او عدمه، تصبح افعالهم غير ذات قيمة، اذ ان ما سيتذكره العامة هو “التصرفات التآمرية” التي قام بها هؤلاء مع اناس في السلطة، او قيام اهل السلطة باستغلال سذاجة هؤلاء المثقفين.
في الحالتين، تكثر التساؤلات حول كتابات هؤلاء، وحواراتهم واحكامهم على الامور عموما.
أخلاقيات المهنةفي الغرب، يحاول الاعلام ان يحافظ على معايير مهنية معينة، وهذا لا يعني دائما الموضوعية،
اذ ان بعض الوسائل الاعلامية منحازة حزبيا بشكل واضح وتبث بعض وجهات النظر
دون اخرى. في الولايات المتحدة، يمكن للمرء ان يقارن، على سبيل المثال،
بين قناتي “ام اس ان بي سي” اليسارية التوجه و”فوكس نيوز” اليمينية النزعة.
ولا تحاول اي من القناتين اخفاء مشاعرها فيما تنظر إليهما المؤسسة الاعلامية بعين الرضا. ولكن ما لا تقبله المؤسسة الاعلامية، ولا المشاهدين على مايبدو، هو تجاوز اخلاقيات المهنة.
في حالات تجاوز اخلاقيات المهنة، غالبا ما يتم فتح تحقيقات داخلية او خارجية، بيد ان ذلك لا يعني ان التحقيقات تفرض مجموعة كاملة من المعايير على ممارسات
الاعلاميين والمثقفين، اذ بين الحين والآخر، يبرز اعلاميون او اكاديميون
او عاملون في مراكز ابحاث مع اجنداتهم، وعدد كبير من هؤلاء، كما اظهرنا اعلاه، قد لا ينجحون فحسب في ممارساتهم التي هي دون المستوى، بل قد يجدون شعبية لدى مجموعة من القراء او المشاهدين او المستمعين.
بغاية الدفاع عن “قناعة” أو “معتقد” أو حتى “ميل” لشكل حكم معيّن،
لا يرى البعض فضاضة في الدفاع عن نظام يقتل شعبه، أو على الأقل ايجاد
الأعذار له، فقط لأنه “حداثي” أو “علماني” ويتوافق مع “دعوته ونظرته لما يجب
أن يكون عليه العالم”. هذا “الكيل بمكيالين” رأيناه مع بن علي في تونس
وحسني مبارك في مصر، اللذين “تمتعا” بمحاباة “الاعلام الصديق”، حتى يوم
هروب الأول وتنحي الثاني، على الرغم من معرفة الجميع بفساد حكميهما،
والشيء نفسه يحصل اليوم مع بشار الأسد من بعض الأقلام التي غفرت في وقت
سابق لعمر القذافي جميع خطاياه لكنها ترفض الانفتاح على دول محافظة مثل
السعودية وتستغل منابرها لتهاجمها بسبب ومن دون سبب وبمناسبة ومن غير
مناسبة.
ان تضارب المصالح بين مبدأ الخدمة العامة ومصالح مموليها،
والانقسام بين ضرورة مراعاة اخلاقيات المهنة وضرورة مسايرة صانعي الاخبار،
فضلا عن الربيع العربي الذي شهد بعض من يسمون انفسهم بأصحاب الفكر الحر الذين
يناصرون انتفاضة دون اخرى وتحولوا الى “لوبي” يخدم مصالح أنظمة فاسدة، كل
ذلك يلقي بظلاله على “المعرفة المطلقة” التي يدعيها بعض المثقفين.. وحتى
يحترم الصحافي أخلاق المهنة ويفرق بين الخبر والتعليق ويلتزم الحياد
والموضوعية.. سوف يجد الأسد وأمثاله من يجد لهم الأعذار.. إلى حين.
حسين عبد الحسينصحافي
لبناني خريج "الجامعة الاميركية في بيروت" حيث درس فيها التاريخ. يقيم في
الولايات المتحدة الأميركية وهو مراسل جريدة الراي الكويتية في واشنطن. عمل
حسين عبد الحسين منتجا للأخبار والبرامج مع قناة الحرة كما عمل
مراسلا ثم محررا مع صحيفة دايلي ستار اللبنانية وينشر عبد الحسين دوريا في
جريدة النهار اللبنانية. لعبد الحسين مقالات عديدة نشرتها كبرى الصحف
الاميركية مثل نيويورك تايمز، واشنطن بوست، كريسشان ساينس مونيتور، يو اس
اي توداي، هيرالد تريبيون، وبالتيمور صن كما شارك في برامج تلفزيونية على قنوات اميركية مثل سي ان ان، ام اس ان بي سي وبريطانية مثل بي بي سي