المارد ثـــــــــــــــائر
الجنس : عدد المساهمات : 51 معدل التفوق : 121 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 23/02/2012
| | من الثيولوجي إلى الأنثروبولوجي: قراءة في الترتيب الذي ساد الإسلام للعلاقة بين العقل والنقل | |
كغيرها من الثقافات التي انبثقت حول كتاب مُوحى، كان لابد أن تُجابه ثقافة الإسلام إشكالية ترتيب العلاقة بين النقل/الوحي من جهة، وبين العقل/الوعي من جهة أخرى. ورغم تعدد إمكانيات ترتيب هذه العلاقة على أنحاء شتى تبلغ حد التعارض، وعلى النحو الذي ينعكس في تباين المواقف والفرقاء داخل الثقافة التي تكون ساحة لانبثاق تلك الممكنات أو بعضها، فإنه يلزم التأكيد على أن جوهر العلاقة بين تلك الممكنات إنما يعكس تصارعها وسعى الواحد منها إلى إزاحة غيره تثبيتاً لسيادته وهيمنته. وبالطبع فإن قدرة الواحد من تلك الممكنات على إزاحة غيره وتثبيت هيمنته لا ترتبط أبداً بجدارة معرفية يكون معها الأكثر تعبيراً عن خطاب (الحقيقة)، بقدر ما ترتبط بتجاوبه مع خطاب (السلطة) المهيمنة. وهكذا فإنه إذا كانت السيادة قد استقرت في الإسلام لأحد الأشكال الممكنة في ترتيب العلاقة بين العقل والنقل؛ وعلى النحو الذي راح يجرى معه إزاحة غيره من أشكال أخرى توقف النظر إليها كممكنات تملك بدورها جدارة التحقق في الوجود، بل كهرطقات لا تستأهل إلاَّ الإقصاء والطرد خارج حدود الأمّة والملّة، فإن استقرار تلك السيادة لا يرتبط بكون هذا الممكن -الذي ساد واستقر- هو المعبر -لا سواه- عن (حقيقة) الإسلام، بقدر ما يجد تبريره في ارتباطه بمنطق (السلطة) التي تحققت لها السيادة داخله. وفي كلمة واحدة فإن السيادة لم تتحقق لهذا الشكل الممكن؛ لأنه (الحقيقي)، ولكن لأنه (الأقوى). بل إنه يبدو -وللمفارقة- أن هذا التصور الذي ساد للعلاقة بين العقل والنقل داخل الإسلام يكاد يمثل انحرافاً عن ما يبدو وكأنه الجوهر العميق للعلاقة بينهما، الذي تتكشَّف عنه قراءة المنطق الكامن لفعل الوحي ذاته في التاريخ.
فإذ يكاد ينطبق الإجماع على أن كتاب الوحي هو مركز الدائرة وقطب الوحي في الإسلام، وإلى الحد الذي يمضي معه البعض إلى القطع بأن سائر ما عرفه الإسلام من أبنية حضارية وثقافية ليست إلاَّ محض تعيُّنات لما يطويه هذا الكتاب في جوفه، فإن حقيقة أن هذا المطويَّ في جوف الكتاب لا ينكشف بنفسه، بل من خلال علاقة تفاعلية بين الكتاب من جهة، وبين كلٍ من العقل والواقع من جهة أخرى. وهنا فإن مركزية (العقل) تتجاوز مجرد حدود إثبات التنزيل -التي وقف عندها الخطاب السائد في الإسلام مؤكداً على ضرورة أن يعزل العقل نفسه بعد ذلك(1)- إلى بناء التأويل المحقق لفاعلية الوحي/التنزيل في التاريخ؛ وعلى نحو لا تقف فيه فاعلية العقل عند حدود لحظة بعينها في مسار الوحي، بل تصبح جزءاً من حضوره الخلاَّق الفاعل عبر الزمان.
والحقّ أن مركزية العقل تتجاوز مجرد الدور الحاسم الذي يلعبه في إنتاج الدلالة المتجددة ضمن بناء واحدة من لحظات الوحي (القرآنية أو التوراتية مثلاً) إلى دخوله (أي العقل) في تركيب الوحي كظاهرة كليّة شاملة. إن تحليلاً للمنطق الذي ينتظم تطور الوحي كظاهرة كليّة، تذوب داخلها كل لحظاته الجزئية، يكشف عن وقوع هذا التطور بالكامل في قبضة المنطق الحاكم لتطور العقل؛ حيث تكاد كل واحدة من لحظات تطور الوحي أن تعكس طبيعة بناء الوعي أو العقل الإنساني المساوق لها. وهكذا فإن إمكان التمييز بين صور حسية أو حتى أسطورية، وأخرى مجاوزة للحسي والأسطوري في بناء ظاهرة الوحي فإن منطق ذلك التمييز يقوم في حقيقة تطور الوعي من الحسي إلى ما يجاوزه. إن الأمر الحاسم هنا أن طبيعة بناء الوحي وتحولاته في التاريخ مشروطة بجوهر ما العقل في تطوره، أو أنها تكون حتى تابعة له.
وإذا كان الترتيب الذي استقر في الإسلام للعلاقة بين العقل والنقل على نحو تترسخ فيه تبعية العقل للنقل، يتعارض -على هذا النحو- مع الوضع الذي يفترضه الوحي في جانبيه الكلي والجزئي لنظام العلاقة بينهما، فإن ذلك يدفع إلى افتراض أن الجذر المؤسس لعلاقة تبعية العقل للنقل التي استقرت في الإسلام إنما يقع خارج حدود ما فرضه الدين. وبالفعل فإن تحليلاً يستقصي الأمر يكشف عن ضرورة الارتداد بهذا الجذر المؤسس لتلك العلاقة إلى أصوله الغائرة في قلب الثقافة التي يتسع بناءها لما يجاوز الإسلام ويتعداه. ولأن فاعلية الثقافة تكون -ضمن هذا الإطار- من خلال تحديدها لنظام بناء العقل الذي ينشأ داخلها، فإن ذلك يعنى أن ثمة ثقافة قد بلورت عقلاً سرعان ما قام هو نفسه (أي هذا العقل) بعزل نفسه وترسيخ تبعيته.
فإنه إذا كان العقل -أيُّ عقل- هو بمثابة حدثٍ ينبثق داخل ثقافة ما؛ وعلى نحو يكون فيه تحليل تلك نظام الثقافة هو بمثابة تحليل، في العمق لبناء العقل المتبلور داخلها -وبما يعنيه ذلك من اسحالة أي قول عن العقل بمعزل عن الثقافة التي يتبلور فيها- فإن أي قولٍ عن العقل في الإسلام لا يمكن أن ينبني بمعزل عن القول في الثقافة التي تبلور بحسب نظامها(2). وإذ لابد أن يُصار إلى أن تلك الثقافة التي تبلور العقل في الإسلام داخلها، لا يمكن أن تكون إلاَّ (الثقافة الإسلامية) بالطبع، فإن التمييز، هنا، يبدو لازماً حقاً، بين مفهوم (الثقافة الإسلامية) من جهة، وبين مفهوم (الثقافة التي سادت في الإسلام) من جهة أخرى. فإذ ينصرف مفهوم (الثقافة الإسلامية) إلى ذلك الفضاء الرحب الفسيح الذي توزعت فيه أنساق شتى يعبر كل واحد منها -انطلاقاً من موقعه التاريخي الاجتماعي الخاص- عن رؤية للعالم تختلف عن تلك التي يعبر عنها الآخر؛ ولكن من دون أن يسعى الواحد منها إلى إقصاء الآخر ونفيه، بل يتحاور ويتفاعل مع غيره، وبكيفية يحدد فيها الواحد منها الآخر ويتحدد به في آن معاً، فإن مفهوم (الثقافة التي سادت في الإسلام) ينصرف إلى ما يكاد أن يكون النقيض الكامل لهذا المعنى؛ وأعني من حيث يحيل إلى أن واحداً من هذه الأنساق قد راح يُضيَّق حدود هذا الفضاء الرحب عبر الاستيلاء منفرداً على ساحته الواسعة بالكامل؛ وأعني مُقصياً لغيره، ومُلقياً به إلى خارج حدود الأمة والملة معاً(3).
وإذا كان ما جرى الاصطلاح على أنه العقل الإسلامي قد تبلور داخل فضاء نسق الهيمنة الإقصائي التسلّطي الذي ساد الإسلام وتخفَّى تحت قناعه، فإن ذلك يعنى استحالة اعتباره (العقل الإسلامي)، بقدر ما يصح القول بأنه (العقل الذي تحققت له السيادة العليا في الإسلام). وهنا يلزم التمييز بين كلا المفهومين؛ أعني من حيث إنه فيما يَحصُرُ مفهومُ (العقل الإسلامي) وصفَ (الإسلامي) في عقل بعينه تحققت له السيادة في الإسلام بالفعل، وبحيث يبدو وكأنه لا مجرد (عقل) من بين عقول أخرى تتشارك معه في إظهار ما ينطوي عليه الإسلام -الذي تنتسب إليه جميعاً- من ثراء وتنوع، بل يكون هو وحده (العقل الإسلامي) بألف لام العهد؛ وذلك ابتداءً من كونه العقل الذي صاغه -أو بالأحرى فرضه- الإسلام كأحد تجلياته ولوازمه(4)، وبما يعنيه ذلك من احتكاره وحده لوصف (الإسلامي)، وعلى نحو كان لابد معه أن يُلقى بغيره (منبوذاً وموصوماً برذيلتي الخروج والهرطقة) خارج حدود هذا الوصف المُحتَكَر. والحقّ أن هذا المفهوم يؤول إلى استحالة أن يقدر الوعي على الإحاطة بمآلات العقل في الإسلام؛ وأعني من حيث يرتد بأصل العقل، ابتداءً من مطابقته مع الإسلام، إلى المثالي والمتعالي المفارق، وليس إلى ما جرى في تاريخه بالفعل. والحقّ أن الأمر لا يتعلق أبداً بعقل قد فرضه الإسلام وكأنه أحد أسسه وأركانه؛ حيث لا وجود لمثل هذا العقل أبداً، بقدر ما يتعلق بعقل اتخذ من الإسلام ساحة لاشتغاله.
وهنا بالذات تتبدى الكفاءة التفسيرية لمفهوم (العقل الذي ساد في الإسلام)؛ أي من حيث يتكشَّف عما يبدو وكأنه تاريخ تحقيق: هذا العقل لهيمنته وسيادته. وبحيث يبدو -تبعاً لهذا المفهوم- أن عقلاً من بين عقولٍ أخرى، كانت ممكنة مثله، قد ارتفع إلى مقام السيادة العليا في الإسلام، وذلك بفضل شروط ينبغي التماسها داخل تاريخه، وليس أبداً خارجه. ولأنه قد راح يرتقي إلى ذلك المقام، ليس فقط عبر الإقصاء الدؤوب للعقول المغايرة -عبر وصمها بالابتداع والضلال- بل وأيضاً عبر ترسيخ المخايلة بتطابقه وتماهيه مع مقدس الإسلام الذي كان لابد أن يستحيل -تبعاً لذلك- إلى مجرد ساحة لهيمنته المنفردة، فإنه قد راح يُضيَّق الساحة الرحبة للإسلام، وبحيث لم تعد رقعتها الواسعة تتجاوز الحدود التي يقف عليها ويفرضها هذا العقل الجامد المغلق. وإذن فإنها المطابقة، لا بين العقل والإسلام (بما هو النموذج والمثال)، بل بين العقل وتاريخه، هي ما يرسخه مفهوم (العقل الذي ساد في الإسلام). والحقّ أن الارتداد بذلك العقل -الذي تحققت له السيادة في الإسلام- إلى تاريخه الفعلي وليس إلى هوية مثالية مفترَضة -أو بالأحرى مٌتخيَّلة- ليكشف عن عقل يسعى إلى إخفاء ذلك التاريخ المُثقل بضروب من الصراع والتخفي والمراوغة.
ومن هنا إن نقطة البدء في اكتناه نظام العقل الذي ساد في الإسلام تنطلق من الوعي بما سبق الإلماح إليه من أنه يحمل ملامح عالم ما قبل الإسلام. والغريب حقًّا أن يكون العقل نفسه قد استحال -وابتداءً من مجرد تعريفه في اللغة- إلى ساحة لتصارع بين الإسلام وبين العالم السابق عليه(6). وهنا يُشار إلى ما سربته اللغة -عبر سلطة التسمية (التي هي غير بريئة في معظم الأحايين)- إلى العقل من ملامح العالم السابق على الإسلام؛ والتي يبدو أنها لم تفارق طبيعة بنائه حتى الآن. فإذ العقل -في اللغة- (مأخوذ من عقال البعير؛ (لأنه) يمنع ذوي العقول من العدول عن سواء السبيل)(7)؛ فإن ذلك يكشف عن مركزية الدور الذي لعبته البداوة في تحديد العقل منذ البدء؛ وأعني من حيث جعلت البعير(8) -الذي هو مركز محيطها وأساس وجودها كله- هو أساس التحديد اللغوي للعقل وأصله، ولسوء الحظ فإن الأمر لم يقف عند مجرد تحديد البداوة للعقل (لغوياً)، بل تجاوز إلى الدور الذي لعبته في تحديده (بنيوياً) أيضاً؛ وبما يعنيه ذلك من أن بنية العقل ونظامه الكامن هي انعكاس -في الجوهر- لنظام عالم البداوة. وهنا فإنه إذا كان التحديد اللغوي للعقل قد جعل منه (قيداً) ابتداءً من اشتقاقه من (عقال البعير)، فإنه قد تحدد بنيوياً -وقبل ذلك وظيفياً- كقيد يكبل حامله بسلطة الآباء الأوائل والأسلاف الغابرين. ورغم ما يبدو من تسرب هذا النظام البنيوي للعقل إلى العقل المهيمن في الإسلام، فإن المفارقة تنبثق زاعقة، من حقيقة أن المجال التداولي للفظة العقل في القرآن -الذي هو نص الإسلام التأسيسي الأول- يكاد ينطوي على ما يناقض الدلالة الظاهرة لذات اللفظة في اللغة؛ والتي تطفح بما يربطها بعالم البداوة. فإنه إذا كانت دلالة اللفظة الظاهرة في اللغة تنطوي على ما يدنيها من معنى (القيد أو سلطة الضبط المفروضة من الخارج)؛ وأعني من حيث أن عقال البعير المأخوذة منه اللفظة، هو قيدٌ يتم ربطه من الخارج، وليس قوة تحديد من الداخل، فإن تداول اللفظة في القرآن يحيل إلى تصور العقل، لا بحسبانه (فعل تقييد)، بل بما هو (فاعلية إدراك)(9)؛ وعلى النحو الذي يدنيه -بدلالة فعل الإدراك- من أن يكون -في الجوهر- (فعل تحرير)، وبما يتجاوب مع تصور الدين نفسه كفعل تحرير في الأساس. والحقّ أنه وحتى حين بدا أن ثمة من راح يشتق تسمية العقل من فعله، لأنه إنما قد (سُمّي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك)(10)، فإن دلالة الضبط والتقييد لم تفارق هذا الاشتقاق بدوره؛ وبما يعنيه ذلك من الهيمنة الكاملة لتصور العقل -في اللغة- كقوة (للتقييد السلوكي والأخلاقي)، في حين يغلب تصوره كفاعلية (إدراك -وبالتالي تحرير- معرفي) في القرآن(11). وبالطبع فإن العقل يكون -ضمن هذا السياق- قوة تحرير من (سلطة الآباء الغابرين) التي حمل عليها القرآن بلا هوادة؛ لأنها كانت العائق الأهم أمام الإنصات لوحيه، وهي السلطة التي اقتضت صوغاً للعقل -في عالم البداوة السابق- كقيد لا يسمح لحامله بغير الخضوع لسطوتها(12). وهكذا يكون الإلحاح على التقيُّد بسلطة الأسلاف -في مقابل السعي إلى نقضها والتحرر من سطوتها- هو جوهر التقابل بين عالمين وتصورين للعقل(13)؛ وبما يؤكده ذلك من أن تاريخ الواحد من العقل أو الواقع، يكاد أن يكون تاريخاً للآخر.
وبالرغم مِمَّا يبدو وكأن القرآن -هكذا- قد راح يسعى إلى ترسيخ دلالة للعقل على أنقاض دلالة ترسَّخت على مدى القرون قبل ذلك، فإنه يبدو -وللمفارقة- أن تلك الدلالة التي اتجه القصد إلى إزاحتها قد اخترقت الإسلام، ولعبت دوراً مركزياً في صوغ العقل الذي ساد داخله. ولأنه كان لزاماً أن يتبلور هذا العقل حاملاً- كالوشم الذي لا ينمحي- لثوابت العالم الذي انبثق فيه، فإن وعياً بطبائع عالم البداوة يكون هو السبيل إلى اكتناه نظام هذا العالم وسياق تشكُّله وانبنائه. وإذ تشير طبائع العمران البدوي -بحسب أهم مُنظَّريه على الإطلاق- إلى أن العرب -(بطبيعة التوحش الذي فيهم- أهل انتهاب وعيث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر، ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلاَّ إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم. فكل معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه، ولا يعرضون له. والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم، لأنهم لا يتنسمون إليهم الهضاب، ولا يركبون الصعاب، ولا يحاولون الخطر. وأما البسائط متى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدولة، فهي نهب لهم وطعمة لأكلهم، يرددون عليها الغارة والنهب والزحف لسهولتها عليهم، إلى أن يصبح أهلها مُغَلَّبين لهم...فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه)(14)، فإن ذلك يكشف عن أن البداوة، كأحد أنماط العمران، لم تعرف إلاَّ التعيُّش على (الجاهز) الذي ينتجه الغير، ومن دون أن تتجاوز (الفاعلية) التي يمارسها البدوي، في إطار نمط عمرانه، حدود انتهاب هذا الجاهز واستهلاكه، ليس فقط من دون حد ينتهي إليه في ذلك، بل ومن دون معاناة أي جهد تقريباً. فهو إذ يمارس الانتهاب (من غير مغالبة ولا ركوب خطر، (لأن) كل معقل أو مستصعب عليه فهو تاركه إلى ما يسهل عنه)، فإنه يكون بذلك قد تنزَّل بما يمارسه من الفاعلية إلى الحدود الدنيا؛ أعني إلى مجرد نمط من الاستهلاك المجاني الرخيص وغير المكلِّف. والحقّ أن فاعلية تقوم على مبدأ (اقتصاد الجهد)، و تنعدم إنتاجيتها إلى هذا الحد، لابد أن تكون من قبيل (الفاعلية السلبية)؛ التي تخايل لصاحبها بفاعلية ما، ولكنها فاعلية لا تؤثر في العالم، ولا تؤول إلى تغييره، بل تنتهي بالأحرى -وللمفارقة- إلى تخريبه(15). وإذ يبدو، هكذا، أن فاعلية (الانتهاب) لا تتجاوز حدود استهلاك ما أنتجه الغير بفعله، فإنها تكاد تنعكس كلياً في فاعلية (الكسب) الأشعري؛ بما هي محض اكتساب، أو حتى استهلاك، لفعل الله(16)؛ أعني من حيث يبدو الإنسان في الحالين كمجرد عالة على فعل غيره. ومن هنا يمكننا الذهاب إلى أن فاعلية (البداوة) -المُختَزَلة في انتهاب واستهلاك نتاج الغير- هي الأصل في ما سيرسخه النسق الأشعري المهيمن في الإسلام من فاعلية (اكتساب أو استهلاك) فعل الغير؛ على أن يكون مفهوماً أن (الغير) هنا هو (الله) هذه المرة. لكنه وفيما ترتبط فاعلية (الانتهاب)، -في حال البداوة- بطبائع العمران المحتومة، فإن فاعلية (الاكتساب) سوف تتقنَّع في النسق الأشعري، وراء ما يدَّعيه من القصد إلى إثبات الفاعلية مطلقة وكليِّة لله وحده(17). وأياً ما كان القصد، فإنه يبدو أن النسق لم يفعل -في الحقيقة- إلاَّ أن راح يخفى (الأنثروبولوجي) وراء قداسة (الديني)؛ ومن هنا ما يبدو من أنه كان -عبر هذا الإخفاء الذي تواتر حصوله في أكثر من سياق؛ وخصوصاً فيما يتعلق ببناء نظام كل من (العقل) و(السياسة) بالذات- أداة البداوة في اختراق الإسلام.
وليس من شك في أن عقلاً ينبثق في سياق هذا العمران وثقافته -والتي هي هنا الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الواسع الذي يتعدى ويسبق الشكل المكتوب الذي أخذته بعد ذلك في الإسلام- لا يمكن أن يكون إلاَّ عقل تفكير بالجاهز والمجاني (الذي لا يكون نتاج جهد أو نَصَبْ)، أو بعبارة الشاطبي -السابق ذكرها- (عقل الركون إلى التقليد، لا جواب السؤال). والحقّ أنَّه يبدو جلياً أن نمط المعاش البدوي قد عكس نفسه كاملاً على نمط التفكير ونظام العقل المتبلور داخله. وهكذا فإن نمط العيش على (الجاهز) الذي أنتجه الغير؛ وهو النمط الذي طبع العمران البدوي تماماً، قد اقترن به نمط في التفكير بالجاهز الذي هو مأثور الأسلاف وأخبارهم. وضمن سياق هذا العيش على الجاهز والتفكير به، فإنَّه إذا كان هذا العمران لم يعرف في المعاش -وبحسب ما لاح آنفاً- إلاَّ فاعلية (النهب)، فإنه لن يعرف، في التفكير، إلاَّ فاعلية التقليد و(النقل)؛ وذلك من حيث لا يمكن أن يكون (الجاهز) إلاَّ موضوعاً لمجرد النهب (في المعاش) والتقليد والنقل (في التفكير) فحسب. وهكذا يتجاوب (النهب) كشكل في المعاش، مع (النقل والتقليد) كآلية إنتاج للمعرفة؛ وأعني من حيث لا يعرف المرء بحسبهما إلاَّ استهلاك وتداول ما ينتجه الغير(18)، ومن جهة أخرى فإن (النقل) -كنمطٍ للمعرفة- يتسق تماماً -بل لعله يتوحد بحسب الاشتقاق من نفس الجذر اللغوي- مع (التنقل) كشكل في المعاش البدوي. بل إن ثمة من مضى إلى أن هذا (التنقُّل) ذاته هو خصيصة جوهرية لتفكير البداوة؛ حيث لوحِظ أن (تفكير البدوي يتميز بالتنقل دون أن يهتم بالروابط بين الأشياء، فإذا وصف بعيراً مثلاً، فقد يبدأ بذكر أذنه ثم ذيله، ثم يعود إلى وصف رأسه ورجله وسنامه، وهو يدقق في وصف كل هذه الأشياء تدقيقاً رائعاً، ولكنه لا يتبع طريقاً منطقياً في تسلسل الأجزاء التي يصفها؛ ولو قرأت وصفه للبعير ولم تكن قد رأيته، فإنك قلما تستطيع أن تتصوره من وصفه)(19). إن ذلك يعنى أن الفعل المعرفي المُقارن للبداوة قد انبنى، من جهة، على (النقل عن) وعلى (التنقُّل بين) من جهة أخرى؛ وبما يرتبط بهما من غياب الوعي بالروابط بين الأشياء.
وغنيٌّ عن البيان أن الطبيعة النقلية للفعل المعرفي المُقارن للبداوة كان لابد أن تحدد طبيعة الإنتاج المعرفي الصادر عنها. ومن هنا نجد أن المعارف التي أنتجتها البداوة لا تجاوز حدود (الأخبار ومعرفة السير والأعصار)؛ حيث (علم العرب الذي كانوا يفتخرون به (هو) علم لسانهم ونظم الأشعار، وتأليف الخطب وعلم الأخبار ومعرفة السير والأعصار. قال الهمداني: ليس يوصل إلى أحد خبر من أخبار العرب والعجم إلاَّ بالعرب، وذلك أن من سكن بمكة أحاطوا بعلم العرب العاربة وأخبار أهل الكتاب، وكانوا يدخلون البلاد للتجارات فيعرفون أخبار الناس، وكذلك من سكن الحيرة وجاور الأعاجم علم أخبارهم وأيام حمير ومسيرها في البلاد، وكذلك من سكن الشام خبَّر بأخبار الروم وبني إسرائيل واليونان، ومن وقع في البحرين وعمان فعنه آتت أخبار السند والهند وفارس، ومن سكن اليمن وعلم أخبار الملوك جميعاً لأنه كان في ظل الملوك السيارة)(20). وهكذا فإن جل ما تواتر عن العرب أنهم (نقلة) أخبار، وأنه لا شيء يجري تداوله في إطار عمرانهم إلاَّ (علم الأخبار ومعرفة السير والأعصار). ولأن تداولهم هذا النمط من (المعرفة الإخبارية) كان من قبيل التداول الشفاهي -حيث لم توفر طبائع هذا العمران المترِّحل الشروط اللازمة لظهور الكتابة التي ترتبط بالعمران المستقر- فإنه كان لابد أن يجعل من (العرب أصحاب حفظ ورواية)، بل وحتى (أحفظ الناس بالجملة)(21). وضمن سياق ما جرى التأكيد عليه من الارتباط بين المعرفي والوجودي أو المعاشي، فإنَّه يبدو وكأن (الحفظ) قد تبلور بما هو نمط معاش؛ أعني من حيث أنه كان أداتهم التي (ضبطوا بها أنسابهم وأسماء فرسانهم الذين نزلوا في ميادين حروبهم، وأنهم من أي قبيلة وإلى أي أبٍ ينتهون من الآباء الأولين وأسلافهم السابقين)(22). فلم تكن تلك المعرفة -بحسب ابن خلدون- مقصودة لذاتها، بل لما تؤدي إليه (من النعرة والقَوَد وحمل الديات وسائر الأحوال)(23) التي يستحيل دونها العيش في البوادي والقفار. ولعل ذلك يعنى أن ما تبلور في هذا المهاد الأنثروبولوجي البدئي من (العقل النقلي الإخباري)؛ -الذي تحدد مجال اشتغاله بمأثور الأسلاف، وأخبار الغير- لم يكن مجرد ضرورة معرفية فقط، بقدر ما كان ضرورة وجودية ومعاشية في الأساس.
ولعلَّ تسرب هذا العقل إلى الإسلام لا يرتبط فحسب بما صار إليه عمر بن الخطاب من أن (الأعراب هم أصل العرب ومادة الإسلام)(24)؛ وبحيث يبدو تأثير الأعراب حاضراً بقوة في (العرب) بما أنهم أصلهم، وفي (الإسلام) بما أنهم مادته، بل ويتعلق أيضاً بما يبدو من أن العرب -حين خرجوا من باديتهم ليستقروا في مواطن الحضارة الجديدة التي فتحها الإسلام- قد أخذوا معهم نظام عمرانهم(25)، ومعه -لا محالة- طابعه الأثير؛ أعني به استهلاك الجاهز مجلوباً من الغير، من دون معاناة جهد أو نَصَبْ(26)، (ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة حتى تُجلب من قطر آخر)(27). وإذ تكشف عبارة ابن خلدون عن حقيقة أن نظام وطبائع العمران البدوي قد تعدَّت (أوطان العرب) إلى (ما ملكوه في الإسلام) كذلك؛ وبما يعنيه ذلك من استمرار نفس نمط المعاش، فإنه -وعبر التوسّع بدلالة (الصنائع) عنده لتشمل (المعارف)-، يمكن المصير إلى أن نمط التفكير المُقارن لذلك النمط المعاشي قد استمر أيضاً؛ أعني بما هو تفكير نقلي في الجوهر. وهذا ما لاحظه ابن خلدون -نفسه- من الهيمنة الكاملة لهذا الطابع النقلي، في إنتاج المعرفة، على ما أنتجه العرب من معارف في (أول الملة) التي (لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة البداوة، وإنما أحكام الشريعة -التي هي أوامر الله ونواهيه- كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مآخذها من الكتاب والسنة بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين، ولا دُفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة. وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين، وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله القراء، أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين؛ لأنَّ الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً)(28). وحين بدا أن المعارف قد تشعبت وتضخمت على نحو راح يعجز معه النقل (الشفاهي) عن استيعابها، وبحيث اقتضى الأمر تأسيساً للعلم وتدويناً له، فإن (النقلية) الطابعة لعقل البداوة قد حالت بين العرب وبين الإسهام الفاعل في تلك الحركة التأسيسية (فصارت العلوم لذلك حضرية، وبَعُدَ عنها العرب وعن سوقها)(29). ورغم ما بدا من أن ابن خلدون قد راح يلتمس تفسيراً لذلك في (السياسة)؛ حيث إن العرب -على قوله- قد (شغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دُفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم) فإنه سرعان ما تدارك نفسه، مرتداً بالأمر إلى (ما يلحقهم من الآنفة عن انتحال العلم بما صار من جملة الصنائع)(30)؛ وبما يعنيه ذلك من أن الآنفة المنسربة من عالم البداوة، -من انتحال الصنائع والقيام بها- والاكتفاء -بدلاً من ذلك- بمجرد الاستهلاك -من غير جهد- للجاهز المجلوب من الغير منها، كانت هي الأصل في (ابتعاد العرب عن العلوم وعن سوقها)، وليس مجرد القيام بأعباء المُلك والسياسة.
وإذ يبدو -هكذا- أن نمط المعاش البدوي قد عكس نفسه على بناء العقل، في شكل (تفكير بالجاهز)، فإنه يلوح -بالمثل- إلى أن نظام انبناء القبيلة (وهي الوحدة السوسيوسياسية في العمران البدوي) قد راح -بدوره- ينعكس كاملاً في نظام بنيان العقل. وهنا فإنه إذا كان مفهوم (الأصل الأول) يحتل موقعاً مركزياً في بناء القبيلة؛ أعني ابتداءً من تخلُّقها حول (أبٍ) تنتهي إليه من الآباء الأولين، هو أصل وجودها ومركزه (ومن هنا ما يحتله مفهوم الأصل في النسب من هيمنة، لا تقبل الزحزحة، في الذاكرة العربية)، فإن ذلك يتجاوب، على نحو كامل، مع تصور العقل (لا ينبني على غير أصل على الإطلاق)؛ وبما يعنيه ذلك من أن مركزية (الأصل) في بناء القبيلة، تتجاوب مع -أو حتى تؤول إلى- مركزيته في بناء العقل. وهنا فإنه إذا كان قد تم تديين نمط المعاش البدوي القائم على انتهاب الجاهز من الغير؛ أعني من حيث اعتبار الغصب من قبيل الرزق، فإنه سوف يتم بالمثل إضفاء قداسة الدين على (الأصل في النسب). ويُشار هنا إلى (إن الرسول الكريم الذي نادى في خطبة الوداع: إن مآثر الجاهلية موضوعة، فلتذهب نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء، كان نفسه حريصاً على حفظ الأنساب، ولذلك قال: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. وكان يفخر بقومه فيقول: نحن بنو النضر بن كنانة، ثم يذكر بأن الله جعل العرب بيوتاً (فجعلني في خيرهم بيتاً)، بل كان يخشى أن يلوث نسبه. فقد استأذنه حسَّان في هجاء المشركين، فقال له: كيف بنسبي؟، قال حسَّان: لأسُلَّنك منهم كما يُسلُّ الشعر من العجين. وكان الرسول كثيراً ما يذكر أفخاذ الأنصار ويفاضل بينهم)(31). ورغم ما يبدو من أن الأمر -بحسب النص- يتجاوز مجرد ذكر النسب إلى حفظه والفخر به، فإن ما ينسبه المصدر ذاته إلى الرسول من القول (ليس رجل ادُّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلاَّ كفر، ومن ادّعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار)؛ سوف يؤول، بدلالة اعتبار الكفر بالأب بمثابة كفرٍ بالله، إلى أن الإقرار بالأصل في النسب يوازى الإقرار بالله في المعتقد؛ وبما يعنيه ذلك من أن إنكار الأصل هو في- حقيقته- إنكارٌ للدين، يؤول بصاحبه إلى الخسران المبين(32). وهكذا راح (الأنثروبولوجي) يواصل- عبر هذا الانتقال بمركزية الأصل من (النسب) إلى (المعتقد)- دورة تخفيه وراء (الديني)، وعلى لسان النبي صاحب السلطة العليا في الإسلام هذه المرة. وبالطبع فإن هذا التخفي قد أتاح لمفهوم الأصل أن يتسلل من بناء القبيلة إلى بناء العقل في الإسلام؛ وبكيفية راحت معها (الأبوية)؛ بما هي تمرّكزٌ حول الأب/الأصل؛ كسلطة أولى لا سبيل للانفلات من سطوتها أبداً، تتحول من بناء مجتمعي إلى بناء معرفي عقلي، لم يزل هو الحاكم للآن، رغم غياب القاعدة المادية المجتمعية المؤسِسة والحاملة له.
وهكذا فإنه وحتى فيما يتعلق بالعلوم التي أنتجها الحضر جاهزة ليفيد منها العرب الذين انشغلوا عنها بالملك والسياسة، أو منعتهم عنها أنفة البداوة، فإن ما تحققت له الغلبة والسيادة من بين هذه العلوم -داخل ما عُرف بالثقافة الإسلامية- لم يكن إلاَّ ما يتجاوب منها مع نظام العقل الذي انبنى بحسب بناء القبيلة المتمركز حول سلطة الأب. وأعني بالطبع أن (النموذج المعرفي) الذي غلب على بناء تلك العلوم -وهو نموذج التمركز حول سلطة (نص أو أصل أول) هو أساس كل معرفة(33)-، لا يعدو أن يكون امتداداً -في العمق- لتمحور بناء القبيلة، حول سلطة (أب أول) هو أصل كل وجودها المادي والمعنوي. وبالطبع فإنه كان لابد من طرد وإقصاء كل ما يمثل تحدياً لنظام ذلك النموذج الغالب، لا إلى خارج مجال الثقافة فقط، بل وإلى خارج إطار الأمة والملة أيضاً.
والملاحظ فيما يتعلق بالتحول من البداوة إلى الإسلام، أنه كان تحولاً من مضمون يشتغل عليه العقل إلى مضمون آخر فقط، وأما آليات ونظام اشتغال هذا العقل فإنها قد ظلت هي نفسها من دون تغيير؛ أعني أنه قد ظل يشتغل بآلية نقل الجاهز والتفكير به، وظل نظامه يعكس تقيُّده بسلطة متقدمة ومسلَّم بها تقوم خارجه. وفقط مع تحوير طفيف جرى التحول بمقتضاه من (الجاهز) الخاص بسلف غابرين لم يكونوا صالحين، إلى جاهزٍ آخر بديل يخص سلفاً قريبين صالحين، كما جرى الانتقال من سلطة (العرف) إلى سلطة (النص)(34). وهكذا يكون العقل البدوي قد أحال النص/الوحي إلى سلطة مُقَيدةِ للعقل في الإسلام؛ أعني من حيث جرى تصور هذا (العقل غير مستقل ألبتة، ولا ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلَّم على الإطلاق)(35)، وذلك بمثل ما كان، العقل البدوي نفسه، مُقَيَداً بسلطة السلف/العرف؛ الذي لا يفارق -بدوره- موقع الأصل المتقدم(36). والغريب حقاً أن تكون تلك الإحالة قد أدّت إلى الانحراف بالنص/الوحي عن الموقع الذي أراده لنفسه كنقطة ابتداء لضروب من التفكير الواعي الحر، وليس أبداً كسلطة تقييد، لابد أنها سوف تؤول إلى تقييد -بل وحتى تبديد- النص/الوحي نفسه، وذلك حين تُقيِّد العقل الذي هو الأصل فيما يتمتع به هذا النص/الوحي من خصوبة وحياة، وذلك بما يسمح له من التفتح عن ثراء ما يحويه ويضمره من ممكنات كامنة. وإذ يعنى ذلك أن النص أو الوحي لم يضع نفسه كسلطة أو كمعطى أول مُقيِّد للعقل(37)، بقدر ما أنه قد جرى فرض ذلك الوضع عليه من الثقافة (بالمعنى الأنثروبولوجي) المهيمنة خارجه، فإن ذلك يؤول إلى أن كسر سطوة عقل البداوة، هو بمثابة تحريرٍ للنص (أو الوحي) من وضع يحول دون أن تكون له حياته الحقة، والتي لا يمكن أن تكون إلا، وتلك هي المفارقة، بأن يكون نقطة انطلاق لضروب من التفكير الإبداعي الخلاَّق؛ وليس بما هو سلطة تعوق هذا النوع من التفكير بحسب التصور السائد.
وإذ يبدو -هكذا- أن (العقل الأنثروبولوجي) قد راح -عبر ما جرى من الإبدالات، على صعيد المضمون (انتقالاً من (مأثور) الأسلاف إلى (نص) الوحي) وعلى صعيد النظام (تحولاً من سلطة (الأب) في القبيلة إلى سلطة (الأصل) في التفكير والثقافة)، يحِيل نفسه -من خلال آليات التخفّي والمراوغة- إلى ما يبدو أنه (العقل الديني)، ليكتسب عبر هذا التخفي وراء المتسامي الديني ما له من القداسة والحصانة التي يتحصن وراءها من أي نقد أو مساءلة. وغنيٌّ عن البيان أنه قد راح بذلك يحتل موقع السيادة العليا في الإسلام، وبكيفية راح معها يعيد إنتاج نفسه من دون انقطاع حتى الآن؛ أعني حتى مع غياب قاعدة البداوة المادية الحاملة له في الواقع. والحقّ أن الأمر لم يقف عند مجرد إعادة إنتاج هذا العقل لذاته فحسب، بل وتجاوز إلى إنجاز عملية تأسيسه النظري والمفهومي داخل نصوص الآباء الكبار من بناة الثقافة في الإسلام؛ أعني عند كل من الشافعي والأشعري بالذات اللذين استقرت عبرهما تبعية العقل الكاملة للنقل.
*******************************
الحواشي *) باحث وأكاديمي من مصر.
1- (عند هذا ينقطع كلام المتكلم وينتهي تصرُّف العقل، بل العقل يدل على صدق النبي، ثم يعزل نفسه، ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول). انظر: الغزالي: المستصفى في علم الأصول، ترتيب وضبط: محمد عبد السلام عبد الشافي (دار الكتب العلمية) بيروت، ط1، 1993م، ص6. وبالرغم مِمَّا يبدو من أن الغزالي يجعل هذا العزل للعقل، والاكتفاء بالتلقِّي عن النبي مقصوراً على (ما يقوله في الله واليوم الآخر مِمَّا لا يستقل العقل بدركه، ولا يقضى أيضاً باستحالته)، فإنه يبدو أن (ما لا يستقل العقل بدركه) لم يقف- بحسب الخطاب الأشعري الذي يفكر الغزالي داخله- عند حد القول في الله واليوم الآخر، بل إنه قد تعدى هذا (الغيبي والأُخروي) إلى أمور دنيوية خالصة. ويؤكد ذلك ما صار إليه أحد الكبار من بُناة الخطاب الأشعري الأوائل؛ وأعني به الباقلاني الذي مضى إلى أن الناس (إنما هجموا على العالم بغتة، وليس في دلائل عقولهم ما يعرفون به الأغذية من الأدوية والسموم القاتلة، ولا في مشاهداتهم وسائر حواسهم ما يدل على ذلك أو يُحسُّ به معرفة ما تحتاج إليه من هذا الباب، ولا هو مِمَّا يُعرف باضطرار. فإن قالوا: إنما أدرك الناس ذلك قديماً وعرفوه بالامتحان والتجربة على أجسامهم وأجسام أمثالهم من بني آدم، وعلى أجسام غير الناس من الحيوان من نحو الكلاب والذئاب والدواب وأجناس الطير وغيرهم من الحيوان. قيل لهم: فهذا مُخرج للقديم (الله) سبحانه عن الحكمة، لأنه قد كان قادراً عندنا وعندكم أن يعرّفهم السمومات ويوقفهم على الاغتذاء بما فيه صلاح أجسامهم والأدوية التي عند تناولها تزول أمراضهم وأسقامهم، فيغنيهم ذلك عن إتلاف أنفسهم وأمثالهم (وغيرهم من الحيوان) وذهاب كثير منهم بالامتحان وطول التجربة... (وذلك) يوجب أن يكون العلم بهذا الشأن الجسيم والخطب العظيم غير مُنال ولا مُدرك من جهة العقول (والتجارب)؛ وأن الناس مُحتاجون في ذلك إلى سمع وتوقيف؛ وأن الواجب على أصولهم أن يكون العلم بأصل الطب موقَّفاً عليه ومأخوذاً من جهة الرسل عليهم السلام...وعلى هذا أكثر الأمة). انظر: الباقلاني: كتاب التمهيد، نشرة الأب رتشرد يوسف مكارثي اليسوعي (المكتبة الشرقية) بيروت، 1957م، ص127- 128. وهكذا لا يقبل الخطاب (الذي عليه أكثر الأمة)- بحسب تعبير الباقلانى- إلاَّ تكريس تبعية (العقلي) للنقلي في أمور الآخرة والدنيا معاً؛ وبما يعنيه ذلك من تقلُّص دائرة ما يستقل العقل بإدراكه بحسب هذا الخطاب. فلا مجال لمعرفة مصدرها العقل أو التجربة، بل هو محض التلقّي من مصدر مفارق.
2- وهنا يلزم التمييز بين مستويين للثقافة التي تبلور العقل في الإسلام بحسب نظامها، والتي يجب القول عنها. فثمة الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الواسع الذي يرتد إلى حقبة ما قبل الإسلام، والتي كان لابد أن تترك بصمات لا تنمحي على هذا العقل، نظراً لامتداداتها الغائرة في الزمن الأبعد. وثمة مستوى الثقافة المكتوبة في الإسلام؛ والتي تكاد، بامتداداتها الأقرب نسبياً، أن تمثل فضاءاً لظهور نظام عقل يجد أصوله الأنثروبولوجية الأبعد في ما يقوم قبلها، ولكن من دون أن يؤثر على حقيقة أن الثقافة المكتوبة في الإسلام كانت، وكنتيجة لتحولها إلى فضاء تتفاعل داخله جماعات حضارية مختلفة، ساحة لظهور أنواع أخرى من العقل، لم يُقَدَّر لأي واحد منها أن ينازع سلطة تكاد أن تكون مطلقة لذلك العقل المتجذر أنثروبولوجياً.
3- ولم يكن ذلك إلاَّ النسق الأشعري؛ الذي يظل يمارس، للآن، من خلال ما يقوم من التجاوب بين آليتي التقديس والتدنيس من جهة، والهيمنة والإقصاء من جهة أخرى. وإذ يستحيل التقديس، ضمن هذه الممارسة، إلى قناع لترسيخ هيمنة هذا (النسق) الخاصة، فإن التدنيس لم يكن إلاَّ محض أداته في إقصاء الآخر المخالف. والحقّ أن حديث (الفرقة الناجية) الشهير، قد كان هو ساحة المجابهة بين كلا المفهومين، الاستيعابي والإقصائي، للثقافة في الإسلام. إذ فيما جرت قراءته من جانب النسق المهيمن على أن فرقة واحدة بعينها هي الناجية، وكل ما عداها هالكون في النار، فإن آخرين راحوا يقرأونه على أن فريقاً هو الأكثر براً وتقوى ون غيره، ولكن من دون أن يعنى ذلك أن ما سوى هذا الفريق من الهالكين. وبالطبع فإنه فيما تنطوي القراءة الأولى على ضرب من الإقصاء الصارخ للمغاير، فإن الثانية تحيل إلى استيعاب المغاير على نفس الساحة التي يتنافس عليها الكافة. وبالطبع فإنه فيما ترتبط القراءة الأولى بما يمكن اعتباره (عقلاً إقصائياً)، فإن الأخرى تؤشر على ما يبدو أنه العقل الاستيعابي. وكمثال على القراءتين انظر: البغدادي: الفَرق بين الفِرق، وتمييز الفرقة الناجية من الفرق الهالكة (دار الآفاق الجديدة) بيروت، ط1، 1973م، ص4-5، وكذا: أحمد بن يحي المرتضى: باب ذكر المعتزلة، نشرة توما أرنولد (مطبعة دائرة المعارف النظامية)، حيدر آباد الدكن، ص4.
4- حين راح (محمد أركون) يحدد ما أسماه بالعقل الإسلامي بكيفية اشتغاله على نحو يكون فيه تابعاً ومُقيَّداً (بالوحي)، وذلك ليميزه عن العقل العربي الذي حدده بأنه (العقل الذي يعبر بالعربية)، فإنه -ومن دون أن يدرى- كان يتبنى تصوراً لعقل إسلامي ذي طبيعة محددة، صاغه وفرضه الإسلام. ولعل للمرء أن يتساءل عما إذا كان ثمة -بالمثل- عقلٌ يتحدد باللغة التي يعبر بها.
5- وبالطبع فإن السيادة لو كانت قد تحققت لعقل أكثر انفتاحاً وتسامحاً؛ وبكيفية يكون معها قادراً على التحرر من الطبيعة التسلطية للعقل الذي تحققت له السيادة بالفعل، لأمكن تصور أن يرى هذا العقل نفسه كمجرد عقل -ضمن عقول أخرى- داخل الإسلام، ولا يتميز عن غيره من تلك العقول التي تقف معه على نفس الساحة، إلاَّ بأنه الأكثر قدرة من غيره على التجاوب الخلاَّق مع ما يزخر به واقعه من إشكاليات تفرض نفسها عليه بقوة.
6- بل إن باحثاً كبيراً؛ هو عبد العزيز الدوري، يرى (أن تاريخ الإسلام (بأسره) هو تاريخ صراع بين القبيلة والإسلام). نقلاً عن حليم بركات: المجتمع العربي المعاصر (مركز دراسات الوحدة العربية) بيروت، ط2، 1985م، ص231.
7- الجرجاني، التعريفات (مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر) القاهرة 1938م، ص133.
8- (إن الكلام على الإبل أخذ نحو جزء من أجزاء الكتاب (لسان العرب) السبعة عشر، فأنت إذا قلت: إن ما ورد في كلام العرب مِمَّا يتعلق بالإبل جزء من سبعة عشر جزءاً من مجموع اللغة العربية، لم تكن بعيداً عن الحقيقة، وهي نسبة جد كبيرة، ولكنه الجمل عماد الحياة العربية البدوية). انظر: أحمد أمين: فجر الإسلام (سبق ذكره)، ص77.
9- ومن هنا أن كل ما ورد من مادة (العقل) في القرآن، قد ورد في صيغة (الفعل) (تعقلون 24 مرة، ويعقلون 22 مرة، وعقلوه -نعقل- يعقلها، كل منها مرة واحدة). والعجيب أنها وردت كلها، إلاَّ مرة واحدة، في صيغة الفعل للجمع، وليس للمفرد، وبما يعنيه ذلك من تصوره كفاعلية جمعية؛ وعلى نحو يدنو به من أن يكون العقل بمعناه الثقافي المجاوز للعقل الفردي.
10- ابن منظور المصري، لسان العرب، ج4، (دار المعارف بمصر) القاهرة، بدون تاريخ، ص3046.
11- وإذا كان الجابري قد انتهى، بعد قراءته لمادة (العقل) في اللغة وفي القرآن، إلى (إن معنى العقل في اللغة العربية، وبالتالي في الفكر العربي يرتبط أساساً بالسلوك والأخلاق)، فإنه يبدو أن قراءته لتلك المادة في القرآن قد خضعت تماماً لتوجيه المعنى القاموسي المرتبط بسياق عالم البداوة. انظر: الجابري: تكوين العقل العربي (سبق ذكره) ص30-31. فالسياق الذي يرد فيه فعل (التعقل) هو سياق تحرير في الأغلب؛ وأعني من حيث يتكشف عن السعي إلى فك ارتباط البشر مع تصورات يقيدون أنفسهم بها لوثوقهم في مصدرها (الذين هم الآباء الأوائل)، وليس لكونها موثوقة في ذاتها. ولعله يرتبط بذلك أن الفعل كثيراً ما يرد في سياق نوع من التساؤل الذي يعكس استنكار القرآن الفادح لهذا القيد الآبوي.
12- وإذ راح (الشاطبي) يبرر الخضوع لسطوة تلك السلطة بأن (رسول الله e بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل، وفي جاهلية جهلاء لا تعرف من الحق رسماً، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكماً، بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها، وما استحسنه أسلافها من الآراء المنحرفة، والنحل المُخترعة، والمذاهب المُبتدعة)، فإنه قد راح يلمح ما ارتبط بذلك من رسوخ (آلية التقليد) حيث (أخبر الله -تعالى- عن إبراهيم u في محاجة قومه: ﴿ما تعبدون من دون الله. قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون﴾. فحادوا كما ترى عن الجواب القاطع المورد، فورد السؤال إلى الاستمساك بتقليد الآباء. وقال الله -تعالى-: ﴿أم آتيناهم كتاباً من قبله، فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنَّا على آثارهم مهتدون﴾. فرجعوا عن جواب ما أُلزموا به إلى التقليد، فقال -تعالى-: ﴿قل أولو جئتكم بأهدى مِمَّا وجدتم عليه آباءكم﴾. فأجابوا بمجرد الإنكار ركوناً إلى ما ذكروا من التقليد، لا بجواب السؤال). انظر: الشاطبي: الاعتصام (مطبعة المنار بمصر) ج1، الطبعة الأولى، القاهرة 1913م، ص5-7. وهنا يُصار إلى ما أدركه الشاطبي، لا من قران التقليد بالخضوع فحسب، بل وإلى أن الركون إلى ما يقدمه التقليد من إجابات جاهزة، يرتبط بالنزوع إلى الاستهلاك المجاني غير المكلف للجاهز من الإجابات، وذلك بدلاً من عناء إنتاج إجابات حقة يقتضيها السؤال.
13- والحقّ أن هذا التقابل بين ما قصد الإسلام إلى ترسيخه من أنماط تفكير وممارسة، على أنقاض أنماط مناوئة لم تقبل الإزاحة، لم يقف عند حدود تصور (العقل) فقط، بل وتجاوز إلى تصورات أخرى منها -على سبيل المثال- السياسة؛ التي يكشف تحليلها، ممارسة وتنظيراً، عن الاختراق شبه الكامل للمخيال السياسي البدوي والقبلي، للمجال السياسي في الإسلام؛ وإلى حد ما يبدو من أن بنية المفاهيم السياسية قد استحالت إلى ساحة للاصطدام بين دلالات تنتمي إلى عالمين متصارعين؛ وأعني بالطبع عالم البداوة من جهة، وعالم الإسلام الذي جاء يسعى لرفعه من جهة أخرى.
14- ابن خلدون، المقدمة (سبق ذكره)، 2/513-514.
15- ومن هنا ما لاحظه ابن خلدون من (أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب...(وذلك لأن) غاية الأحوال العادية كلها عندهم (هي) الرحلة والتقلُّب، وذلك مناقض للسكن الذي به العمران ومناف له؛ فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقِدر، فينقلونه من المباني ويخربونها عليه، ويعدونه لذلك. والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليُعَمِدوا به خيامهم، ويتخذوا منه الأوتاد لبيوتهم، فيخرِّبون السقف عليه لذلك. فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران). انظر: ابن خلدون: المقدمة (سبق ذكره) 2/514.
16- ولعله يمكن أن يُصار، هنا، إلى أن الأمر قد آل بالنسق الأشعري إلى تديين أو إضفاء الصبغة الدينية على (الانتهاب البدوي)، وذلك عبر اعتباره من قبيل الأرزاق. ومن هنا ما جرى المصير إليه، داخل النسق، من إن (كل ما غصب غاصب أو أخذه من المال أخذاً غصباً، فهو من الله له بتقدير وعطاء ورزق). وإذ يلزم عن ذلك (أن يكون الغصب رزقاً للغاصب)، وهو ما كان محلاً لاستنكار أظهره البعض بالفعل، فإن (الجوينى)؛ وهو الرائد الأشعري الكبير، لم يتورع عن الإقرار بأن (هذا الذي استنكروه (هو) نص مذهبنا). وهكذا لم يعد الغصب، أو (النهب) في مصطلح (البداوة) ممارسة يأباها الدين، بل أصبح -بتعبير الجويني- (نص المذهب) الأشعري المهيمن. والغريب أنه وحتى حين راح الأشاعرة يربطون اعتبارهم (الغصب رزقاً) بتصور الرزق ليس (هو الملك)، بل هو (الانتفاع من غير رعاية الملك)، فإنهم كانوا يبررون، دينياً، ما تمارسه البداوة من انتهاب (ملك) الغير للانتفاع به. والحقّ أن (الانتفاع من غير رعاية الملك) الذي هو تعريف الأشاعرة للرزق يصلح بنصه أن يكون تعريفاً للنهب. انظر: يحي بن الحسين: الرد والاحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية، منشور ضمن: محمد عمارة: رسائل العدل والتوحيد (دار الهلال) القاهرة 1971م، 2/172. وكذا: الجويني: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق: محمد يوسف موسى (وآخر)، (مكتبة الخانجي) القاهرة، 1950م، ص361-362.
17- وإذ يبدو أن الأشعرية لم تفعل حقاً -من خلال الاختباء وراء هذا القصد النبيل- إلاَّ أن جعلوا من ذات الله موضوعاً للتشويش والارتباك، فإن ذلك يحيل إلى أن الأمر إنما يتجاوز هذا القصد المعلن إلى ما يقوم، متخفياً، وراءه من مقاصد سياسية حاضرة أو مواريث أنثروبولوجية غائرة.
18- وحتى حين بدا وكأن ثمة جهد مبذول في المعرفة؛ وأعني في صورة الاجتهاد، فإنه يُلاحظ أنه لم يتبلور بما هو سعي إلى إنتاج معرفة جديدة تتجاوز المعرفة الجاهزة المُعطاة، بقدر ما انطوى على القصد إلى إلحاق فرع بأصل، أو إدراج ضروب الوقائع المُستجدة تحت المبادئ المُعطاة الجاهزة؛ وبما يعنيه ذلك من أن بذل الجهد يستهدف تثبيت سطوة الجاهز، وليس أبداً تجاوزه. وهكذا فإن حدود الاجتهاد لا تجاوز دائرة المعرفة الاستلحاقية أو الاستتباعية.
19- صالح أحمد العلي، محاضرات في تاريخ العرب (مطبعة المعارف- بغداد) ج1، 1955م، ص107. ولقد مضى البعض إلى أن (هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف لك ما ترى في أدب العرب -حتى في العصور الإسلامية- من نقص تلمحه في كتب الأدب؛ حيث لا تجد موضوعاً واحداً أُلقيت عليه نظرة عامة دفعة واحدة، ثم وُضع في مكان واحد، ولكن | |
|