يتابع المؤلف الدكتور
محمد جابر الأنصاري في كتابه " مساءلة الهزيمة " مسيرته الفكرية في رصد
الواقع العربي وتحليله ونقده، هذا الواقع المأزوم منذ
فترة ليست بالقصيرة. وكان قد ألّف عديد الكتب التي تتناول بنية التخلّف
العربي بشتّى جوانبه السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومن هذه
الكتب: العالم والعرب سنة 2000 ( وقد شمل أبكر دراسات عربية عن القوى
الآسيوية والمتغيرات في أوربا الشرقية)، تحوّلات الفكر والسياسة في الشرق
العربي، تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية، الفكر العربي وصراع
الأضداد، تشخيص اللاحسم في الحياة العربية… كما أنّ الدكتور الأنصاري ينطلق من الفكر
إلى الواقع لتشخيص الانفجار السكاني والأصولي، ومستقبل " الظاهرة
الإسلامية"، ويتميّز هذا الكتاب بالقدرة على تشخيص الظواهر المرضية في
المشهد الفكري العربي بعقلية استشرافية تحليلية تنبّؤية تستبق الحدث قبل
وقوعه، والانطلاق من أسس فكرية سليمة نابعة من صدق الإحساس بواقع مؤلم وقدرة عقلية إدراكية ونشطة ومتميزة .
الهزيمة الأمّ :يرى المؤلف أنه بين كل الهزائم التي تعرض لها العرب في القرن
العشرين، تبدو هزيمة يونيو حزيران 1967 " الهزيمة الأمّ " التي مازالت
جراحاتها مفتوحة وغائرة في الأعماق، ويبدو أنّ العرب سيدخلون القرن الحادي
والعشرين وهم يحملون أعبائها الثقال، ولم يتخلصوا بعد من آثارها
المضنية، وكم تبدو عبارة "إزالة آثار العدوان"، التي رفعها عبد الناصر
غداة الهزيمة، عبارة حبلى ومثقلة بمختلف المعاني والآلام والظلال.. بل
إنّها تبدو الآن، بعد ثلث قرن عبارة ملتبسة ومواربة لتكاثر تلك " الآثار"
المثقلة وتشابكها.. فأية " آثار " هي حقاً؟ بالتأكيد ليست فحسب الآثار
العسكرية المتمثلة في احتلال سيناء والجولان والضفة، إنها أيضاً وأيضاً
الآثار الحضارية / النفسية / الفكرية.. الكيانية قبل كل شيء، فهزيمة حزيران
هي ـ بامتياز " أمّ الهزائم " ص 21.
التخلّف.. قضية العرب الأولى :يرى المؤلف أن "التخلّف".. التخلّف الحضاري عن مقتضيات العصر
بجميع متطلباته الأساسية، حرية وتنظيماً وتفكيراً وإنتاجاً وقوة، " قضية
العرب الأولى ". ويرى ضرورة الابتعاد عن فكرة التذرع بمحاججة نظرية
المركزية الأوربية التي يتصدى لها بعض المثقفين العرب كلاميا ليتهربوا من مقولة
التخلف، بحجة أن التخلف مجرد " إسقاط أوربي على المجتمعات الأخرى، ثمة
تقدم وثمة تخلف في العالم كله، والفيصل في ذلك معايير موضوعية في العلم
والإنتاج ومستوى التحضير والتحرر الفكري والسياسي، فالتخلف إذاً هو نكبة
العرب الكبرى، وما ضياع فلسطين والاستهتار الإسرائيلي الراهن بالحقوق
والمشاعر العربية إلا عرض من أعراض
هذه النكبة، لكنه ليس العرض الوحيد إذا أخذنا في الاعتبار المعاناة
الشديدة التي تمرّ بها اليوم عدة مجتمعات عربية، وهي معاناة تتراوح بين
الخضوع لأشد النظم دكتاتورية وشمولية في حالات، إلى التعرض لأبشع المجازر من جهات " معارضة " في حالات أخرى، إلى البقاء في ممارسات العصور الوسطى في كثير من الممارسات حيال المرأة والمواطن و"الآخر"، وحيال قيم العمل والتنظيم والوقت في أغلب الأحوال من المحيط إلى الخليج!
وبرأي المؤلف لا يوجد حل سحري للخروج من هذا
المأزق التاريخي إلا بالعودة إلى استئناف مسيرة التطور الحضاري الشامل،
بمشروع نهوضي متكامل، وبنفس طويل، لا يحرق المراحل، ولا يحرق نفسه بالطفرات
والمغامرات والحلول المرتجلة والآنية.. سلماً أو حرباً. ولن يحدث هذا إلا
بتحرير الوعي العربي الإسلامي العامّ من كثير من الأوهام والتصورات المغلوطة، وإعادة تأسيسه على التفكير المستقل الناقد الحر المنفتح لكل معطيات الحقيقة، أياً كانت، حيث لا يصح إلا الصحيح. ص 36 .
الإشكالية النفطية أو.. نقد النفط :يرى المؤلف أن المدخل الفكري والمنهجي الأولي الذي لا بدّ منه
لمقاربة " الإشكالية النفطية " في الحياة العربية، بما يتجاوز الجدل
الأيديولوجي والإقليمي، التنبه إلى أن النفط طاقة وثروة مادية محايدة تعتمد
في حسن استخدامها واستثمارها ـ أو سوئه ـ على نوعية البنية البشرية ـ
المجتمعية التي يسري في عروقها دخل السائل النفطي، وإذا كانت هذه البنية
البشرية المجتمعية العامة ـ بأبنيتها السياسية والاقتصادية والثقافية ـ غير
مهيّأة حضارياً لحسن استخدام تلك الثروة، فإنها ستبقى ثروة مهدورة
ومضيّعة، سواء في الترف والاستهلاك العبثي أو في الحروب والصراعات العبثية،
وسواء تولّتها حسب المصطلح الأيديولوجي السائد ـ قوة " ثورية " أو قوة "
رجعية " طالما أنّ القوتين تنتميان إلى البنية المجتمعية ـ البشرية ذاتها،
وذلك غالباً هو واقع الحال في المنطقة
العربية بدرجة أو بأخرى وسيبقى كذلك إلى أن تبدأ تلك البنية المجتمعية
العامة بالتحرك والتقدم حسب قوانين ومستلزمات التطور والتحضر والتحديث في
هذا العصر. ولا يوجد أيّ حلّ سحري آخر لهذه المعضلة العربية التي صارت تتخذ
شكل الطريق المسدود، لأنّ الوعي العربي، على مختلف مستوياته وصعده، لم
يستوعب بدرجة كافية بعد، حقيقة التخلف الذي يواجهه في واقع تلك البنية
التاريخية / المجتمعية العامة. ص 69 .
كما أن " نقد النفط " ـ حسب تعبير الأنصاري ـ إن كان حساباً منصفاً لتبديد الثروات العربية في جميع البلدان العربية ـ نفطاً وماء وغيرهما ـ فمرحباً به من حساب، أما إن كان رغبة مكبوتة في تدمير النجاح من جانب ضحايا الفشل فهذا محله العيادات النفسية. ص 62 .
التفجّر السكاني كتربة خصبة لنمو الأصولية :يتناول المؤلف موضوع الأصولية وتصاعد وتيرتها في العالم العربي، من زاوية البنية المجتمعية الطبقية وغياب التنمية والهجرة من الريف
إلى المدينة، وبالتالي بروز ظاهرة الانفجار السكاني، ويرى أن هذا الانفجار
السكاني له آثاره العميقة على المستويات الثلاثة التالية:
1- على الصعيد المجتمعي ـ التحضّري يتجلى في تدهور المسلكيات " المدنية العامة"، من احترام لقواعد المرور وتقيد بأنظمة التعامل، وحفاظ على مستويات النظافة، هذا فضلا عن التردي المتزايد لكفاءة الخدمات والمنشآت
والمؤسسات العامة التي اجتاحتها وإداراتها ، هذه العناصر السكانية التي لم
تتح لها فرص التعلم والتدرب والتحضر الكافية فحولت المدن العربية – مراكز
النهضة سابقا – إلى عشوائيات متضخمة من الكتل الإسمنتية والبشرية، التي لا تنتسب لا إلى عواصم الحضارة العربية الإسلامية الزاهرة، ولا إلى مدن العالم الحديث المتقدم.
2- على المستوى الثقافي والذوقي (الفني): عادت إلى الانتشار
والغلبة القيم الريفية والبدوية التقليدية، حيث أن الأساس الأكبر لهذه
القوى المجتمعية هو الموروث الديني والمذهبي الشعبوي الذي امتزج بالوهم
والخرافة، فإن التيار الفكري الغالب الذي ساد في الحقبة الأخيرة هو ما
اصطلح على تسميته بالفكر" الأصولي" وهو غير الأصولية المنهجية
الرصينة في الفقه الإسلامي، بل هو فكر يقوم على تبسيط شديد ومخلّ للمبادئ
والمعتقدات الدينية لا يقبل إلا أشدّ تفسيراتها تطرّفا.
3- أما على الصعيد السياسي، فإنّ التأثير المتزايد لهذا المدّ
السكاني الريفي الأصولي يحتاج إلى نظرة استرجاعية تحليلية لحقيقة ما حدث
على صعيد القاعدة السوسيولوجية العربية منذ منتصف
القرن العشرين. وحسب ما يوضح المؤلف في كتابه الموسوم بـ " تكوين العرب
السياسي ومغزى الدولة القطرية " (والمشار إليه في مقدمتنا)، فما أن رحلت "
القوة" الاستعمارية الحامية، واحتاجت المدينة العربية ومجتمعها المديني إلى
"قوة " ذاتية تولّد السلطة وتؤمّن الدفاع، حتى انكشف الضعف الذاتي المتأصل من جديد في هذه البنية المدينية العربية، التي سرعان ما تسربت إلى قمة السلطة والقوة فيها العناصر والقوى والعصبيات الريفية من فلاحية وعشائرية وطائفية، وهي عناصر ظلت مضطهدة من سادة المدن، ومهملة من جانبهم ومحرومة من التعليم
والتطوير فأقامت حكمها " الشعبوي " – عن طريق الجيش والأحزاب الشعبية- على
أن أهل المدن اضطرت عناصرها وكوادرها المتعلمة والمؤهلة للهجرة إلى
الخارج، وهكذا تم " ترييف" المدينة العربية مؤخرا بعد "استعمارها" في فترة
سابقة "وبدونتها" سياسيا في عهود سابقة، ويتابع المؤلف مناقشة هذا الموضوع، فيقول بأن التوجه إلى إنشاء مجتمع مدني عربي لا يمكن أن يبدأ خطواته الأولى إلا بنمو قوة تضامنية
مدينية متطورة قادرة على توليد حركاتها وأحزابها ومؤسساتها للدفاع عن قيم
ومفاهيم " المجتمع المدني" الذي يمثل الشرط الأساس لنمو الديمقراطية، غير
أن المجتمعات العربية تشهد في الواقع حركة عكسية بهذا الصدد فبدلا من "تمدين الريف" يتم "ترييف المدينة "، فالأرياف باقية إلى حد كبير – في معظم البلدان العربية- على حالها من التخلف
المادي والثقافي وهي تتزايد ديموغرافيا، وتمثل القوة الاجتماعية الأساسية
في كل بلد عربي بعصبيتها الريفية ذات الطابع الشعبوي الأصولي، والمدن
العربية يجري "ترييفها " بحكم الهجرة الريفية الكاسحة وصعود القوى والعناصر
الريفية – بتكوينها التقليدي- إلى مؤسسات السلطة والثروة والتوجه الفكري،
ومقابل هذا الغزو الريفي الذي حلّ محلّ الغزو البدوي للمدينة في فترات
سابقة، فإن قوى المجتمع المدني وعناصره المتعلمة والمتطورة تخلي الساحة
وتنسحب إلى الاعتزال والسلبية، أو إلى المهاجر خارج العالم العربي، في ظل
الانتصارات المتلاحقة للانقلابات وللثورات الشعبوية الإسلامية ذات المنشأ والتكوين والمنطلق الريفي، ولا يلوح في الأفق حتى الآن دليل جدّي على قدرة القوى المدينية – المدنية على تكوين وتنظيم وتفعيل قواها التضامنية السياسية الفاعلة بالإحياء الحضاري والإسلامي ص 81
وعي التخلّف :إن "نقد الواقع العربي" في أبعاده التاريخية والمجتمعية من أجل تشخيصه وتجاوزه هو المهمة الماثلة اليوم أمام الفكر العربي والوعي العربي الجمعي عامّة، وهذا ما حاوله المفكر الأنصاري في عدد من مؤلفاته
وعلى الأخص في (تكوين العرب السياسي) و(التأزم السياسي عند العرب) و(العرب
والسياسة: أين الخلل؟)، ويبقى التحدي – كما عبر السيد يسين هو كيفية الجمع
بين المنهجين في بحث واحد، ونعني دراسة الفكر والواقع في نفس اللحظة التاريخية…لأنه – كما هو متفق عليه- هناك علاقات عضوية وثيقة بين الواقع من ناحية والظواهر والأفكار من ناحية أخرى، ويبدو التحدي أمام الباحثين: كيف يستطيعون، من زاوية علم اجتماع المعرفة، الربط الوثيق بين النمط المعرفي والواقع في أبعاده التاريخية وتجلياته المختلفة، وأيا كانت طرق البحث ومناهجه
فإن العرب سيخطئون إذا تصوروا أنهم دخلوا الألفية الثالثة أو القرن الحادي
والعشرين لمجرد حدوث التحول الرقمي على روزنامة العالم أمامهم ،ويرى
المؤلف أن هناك ثلاثة عوائق أو علل تعترض انطلاقة العرب نحو القرن الجديد
وهي:
التخلف المجتمعي المؤدي إلى تخلف العمل السياسي وتقليص القدرة الإنتاجية.
التخلف الذهني المؤدي إلى تخلف الفكر والثقافة والإبداع العلمي.
التخلف الأخلاقي المؤدي إلى تخلف المسلكيات في التعامل العام والقيم المدنية. ص 141
وختاما فالكتاب قيم وممتع ومفيد وإضافة هامة إلى الفكر العربي،
والمؤلف مفكر عربي معروف يتميز بدقة العبارة وجمالية الأسلوب وجرأة التناول
وموضوعية الطرح ووضوح الأفكار، والمؤلف من المفكرين
العرب القلائل الذين يمتلكون القدرة على التركيز على كافة ظروف وحيثيات
وملابسات التخلف في العالم العربي – والتنبيه إلى خطورة الوضع الحالي –
والسبل الناجعة للتخلص منه والانطلاق نحو التقدم والتنمية والتطور.