كتب المفكر صادق جلال العظم في
تصديره للترجمة العربية لكتاب مارك كوهين يقول:" ينتمي كتاب "بين الهلال
والصليب: وضع اليهود في القرون الوسطى" إلى هذا النوع من الدراسات التي
تريد تعديل موازين إرادات القوة وما صنعته في "تواريخ" و"حقائق" و"وقائع"
وما اجترحته من إسقاطات "ملائمة" على الماضي والحاضر والمستقبل، لصالح
الحقيقة التاريخية، مهما كانت تقريبية لأنه يعرف، كما نعرف نحن أيضا أنها
ما زالت واحدة من أولى ضحايا الصراع العربي الصهيوني، أي ضحايا هذا النزوع
شبه الطبيعيّ لإرادات القوة المنخرطة في النزاع إلى تحويل الحقيقة والماضي
والحاضر والمستقبل والتاريخ والدين والتراث والخطأ والصواب، وكل ما يمكن
أن يخطر في البال، إلى مجرّد أدوات في خدمة المصلحة الآنية لإرادات القوة
المتصارعة تلك".
لقد وضع الكاتب نصب عينيه مهمّة الإجابة عن الأسباب التي جعلت القرون
الوسيطة الإسلامية أكثر أمنا وسلاما بالنسبة لليهود مما كانت عليه حياتهم
في شمال أوروبا وغربها، متجاوزا القراءات التبسيطية أو الطوباوية التي بدأت
تنبت كالفطر بعد اشتعال الصراع بين العرب واليهود في الشرق الأوسط. ورغم
أنّ الكاتب يؤكّد، كما تؤكّد حقائق التاريخ أنّ العنف تجاه الآخر مبدأ
متأصّل في الديانات التوحيدية الثلاث، إلا أنه يريد التدليل على أنّ
الاضطهاد الإسلامي لليهود كان أقلّ بكثير من الاضطهاد المسيحيّ لهم. ويبدأ
الكاتب بفضح مشاريع صناعة الذاكرة وعمليات الاستغلال السياسيّ لفكرة
التعايش اليهوديّ ـ الإسلاميّ، سواء من طرف اليهود أنفسهم، الذين حاولوا
إقناع أوروبا المسيحية من أجل أن تكون أكثر تسامحا معهم أو من طرف العرب في
حملتهم الدعائية ضدّ الصهيونية، والتي كانت ترى أنّ قيام دولة إسرائيل هو
ما وضع حدّا لهذا التاريخ الطويل من "التسامح". ويعرّج الكاتب في الفصل
الثاني من كتابه على قراءة الموقف الثيولوجي للمسيحية والإسلام من
اليهودية، ويسجّل اختلافا جوهريا في الموقفين. فالإسلام لم يأت كتحقيق
إلهيّ لليهودية،لأنّ الإسلام وفقا للرواية القرآنية دين ظهر قبل اليهودية
والمسيحية، إنه دين إبراهيم، إنه دين التوحيد الذي دُنّس. كما أنّ الإسلام
يلتقي في كثير من مبادئه وطقوسه مع اليهودية، إضافة إلى أنه، وكما يقول
كوهين:"تقع عادة الإشارة إلى اليهودية في المصادر الإسلامية بـ "شريعة
اليهود". هذا الأمر يختلف مع العبارات اللاتينية السلبية الشائعة التي تطلق
على اليهودية مثل "قانون اليهود" والألقاب المنتقصة كـ "خرافات اليهود"
و"خداع اليهود". إذ في الوقت الذي يعكس فيه المعجم المسيحي بالنسبة إلى
اليهود واليهودية، العداء والحقد، فإنّ التعبير الإسلامي يحمل اعترافا
بمفاهيم وقيم دينية متبادلة."(ص. 90)
كما يشير كوهين إلى أنّ التوافق المبدئي بين الإسلام واليهودية حول وحدة
الطبيعة الإلهية، قد جنّبهم عاملا أساسيا للجدل الديني، الذي كان دائما
حاضرا في المناظرات الإسلامية المسيحية. ولم تتحقّق هذه المناظرات في
العصور الوسيطة إلا في ظلّ الثقافة الإسلامية، وكانت تعتمد على العقل أكثر
منها على النقل، في حين أن العالم الإشكنازي لم يحظ بمثل هذه الفرصة في
أوروبا الشمالية. وحتى فيما يخصّ الجدل الديني فإنّ الردّ الإسلامي على
المسيحية كان قاسيا في حين أنه تحلّى بالاعتدال في ردّه على اليهودية. وهو
ما يمكن مقارنته أيضا بالردّ العنيف لليهودية على المسيحية وردّها المعتدل
على الإسلام. وحتى في لحظات الاضطهاد الكبرى التي تعرّض لها اليهود في ظلّ
الحكم الإسلامي، لا يمكن الحديث عن قمع اختصّ به اليهود وحدهم، ففي عهد
المتوكّل مثلا تمّ التنكيل أيضا بالمعتزلة، كما أنّ الحاكم بأمر الله
الفاطمي بذر الذعر في كلّ الشعب المصري ولم يضطهد اليهود فقط.
ويشير مارك توهين في كتابه بأنّ الذميين قد تمتّعوا، وبفضل الشريعة
الإسلامية بنوع من المواطنة، وإن كانت مواطنة من درجة ثانية أو غير
متساوية، فقد منح التشريع الإسلامي غير المسلمين شعورا برسوخهم في المجتمع
وهو ما لم تشهد له مثيلا البلاد المسيحية اللاتينية، أما فيما يخص المجال
الاقتصادي، فقد تمتّع اليهود المقيمون في بلاد الإسلام بنوع من المساواة
بنظرائهم المنتمين إلى أمّة الإسلام، وليس فقط بالنظر إلى المنزلة الرفيعة
التي تمتّع بها التاجر في الإسلام مقارنة بالمسيحية التي كرهت في نسختها
المبكرة اكتناز الأموال وخاصة تلك المتأتية من الأرباح التجارية. ويرجع
كوهين هذه النظرة إلى المجتمع اليوناني الوثني، فحتى أفلاطون وأرسطو شجبا
النزوع المفرط نحو الربح في المعاملات التجارية، ولكنه يرجعها أيضا إلى
أقوال المسيح التي تؤكّد أولوية الروحيّ والمادي وتمتدح الفقر. ولهذا ليس
غريبا أن تتمتّع الوظائف العلمية والزراعية والصناعية في القرون الوسطى
المسيحية بمرتبة أعلى من مرتبة التاجر.
وينهي كوهين كتابه بالقول بأنّ يهود المشرق قد اندمجوا بحرية أكثر من
إخوانهم الأشكناز في المجتمع الإسلامي ووصلوا إلى مناصب حكومية رفيعة، بل
وتمتّعت النخبة اليهودية بوضع أرستقراطيّ وثقافيّ مماثل لوضع النخبة
المسلمة. ومجمل القول أنّ اليهود عانوا الأمرّين في المجالين المسيحي
والإسلامي، شأنهم في ذلك شأن كلّ الأقليات الدينية، وهو ما يؤكّد حقيقة أنّ
الأديان التوحيدية لم تستطع التعامل مع الآخر والمختلف إلا بشكل قمعيّ
وأنّ كلّ الخيارات السياسية المعاصرة التي تستند إلى هذه الأديان لا بدّ أن
تواجه سؤالا مركزيا، كيف يجب التعامل مع الآخر واحترام خصوصيته، وهو ما
سيفرض لا ريب القيام بأنسنة للنصوص الدينية واجتراح تأويل جديد يقبل بتعدّد
الحقائق وتعدّد الأصول، وبلغة أخرى اجتراح نصوص جديدة.