طيفور حميد ثـــــــــــــــائر متردد
الجنس : عدد المساهمات : 5 معدل التفوق : 15 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 12/03/2012
| | لبرخت نوت: نظرة جديدة لفهم التاريخ الإسلامي | |
يمتاز التراث العربي الإسلامي بغناه وفيضه وتشعباته الكثيرة التي قد تملك على الباحث حياته ويفني عمره دون سبر أغوارها وإرواء غليله منها. لكن هذه الإيجابيات قد تنقلب إلى سلبيات عند الباحث الموضوعي حين يقف مشدوها أمام هذه الضخامة الهائلة التي تتصف بالتراكمية و العشوائية في كثير من الأحيان، ويحتار كيف يجد هيكلية تؤمن له الخطوط العريضة لربط أجزاء التراث بعضها ببعض، خاصة المصادر الإسلامية المبكرة التي قد تتخذ طابع روايات مفككة أو مكررة هنا وهناك في أُطر متشابهة أو غير متشابهة. وقد وضع المؤرخون العباسيون معظم هذه الروايات التاريخية في إطار يتلاءم مع نظرتهم للتاريخ الإسلامي الذي يشدد على التدخل الإلهي في مجريات الأمور ويضفي على الشخصيات التاريخية طابعاً بطولياًّ ملحميّاً مثاليّاً ينسجم مع هذه النظرة. كما استفادوا من هذه الروايات المبعثرة ورتبوها وفقاً لنظرتهم المثالية للأمور فلم يستطيعوا نقل الصورة الموضوعية للأحداث التاريخية في تلك العصور الغابرة.
أما في العصر الحديث فقد حاول مؤرخون وضع أُطر جديدة لفهم هذا التراث المبكّر، وكان من بينهم عرب ومستشرقون، وجاءوا بنظريات عديدة تراوحت بين القبول الكامل لهذه الروايات على علاّتها وبين تكذيبها جملة وتفصيلاً. ولعلّ أهم وآخر محاولة موضوعية وجدّية يستفيد منها الباحث في المصادر الإسلامية المبكرة هي النظرية التي جاء بها المستشرق الألماني البرخت نوت(Albrecht Noth)، جمع فيها عدة إسهامات سابقة لغيره من المؤرخين، ثم وضعها في كتاب ترجم إلى الإنكليزية عام 1993م (The Early Arabic Historical Tradition, a Soucre Critical Study. Princeton, Darwin Press),)، واعتقد أن هذه النظرية جاءت موضوعية بعيدة عن تحامل بعض المستشرقين على التراث الإسلامي، وشاملة تقريباً، مما يجعل الاطلاع عليها ضروريا لكل باحث جاد يحاول فهم التراث الإسلامي الذي بين أيدينا بموضوعية. وسأحاول في هذه المقالة تلخيص أهم النقاط التي تناولها نوت في كتابه المذكور:
يعتقد "نوت" أن السنوات الواحدة والثلاثين(632- 661م)، بين وفاة النبي محمـد-صلى الله عليه وسلم- ووفاة خليفته علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كانت حاسمة في التاريخ الإسلامي، وهي الفترة التي كان لها أعمق الأثر في كتابة التاريخ لما تضمنته من غزارة في المواد التي يقابلها حجم مماثل من العقبات التي تواجه المؤرخ الذي يحاول إعادة جمع أجزاء الصورة التاريخية. ويظن "نوت" أن المؤرخ يجب أن يركز في بحثه على المادة نفسها وليس فقط على سبب كتابتها وطريقة نقلها والأسلوب الذي كتبت به. لذلك عليه أن ينطلق من مضمون المادة التاريخية وقالبها، وألاَّ يخلط بين نقد المصادر والوصف التاريخي، وهذا الأخير يضيع المؤرخ (في رأيه) و يجعله رهينة لنوع محدّد من الروايات التي ينتقيها، ليرسم الصورة- التي يريد- متكاملة الأجزاء. ويفضل "نوت" لو يدرس المؤرخ جميع الروايات ويجعل هذه المادة برمتها مألوفة لديه، قبل أن يحاول تكوين صورة تاريخية أو يحاول الحكم في مسألة تاريخية.
أما ما يقوله المؤرخون الغربيون عن تزوير الروايات وتلفيق الأخبار، فيعتقد نوت أنه لم يكن متعمداً بشكل عام. بل ربما كانت نتيجة لطريقة خاطئة في تجميع الروايات ونقلها، لا بسبب دوافع الرواة التي غالبا ما تكون نزيهة. ويعتقد أن معظم الروايات غير الصحيحة كانت نتيجة عملية طويلة بدأت مبكرة جداًّ لتصل إلى المؤرخين المسلمين المتأخرين الذي أخذوها على علاتها، وهذه الروايات في معظمها لم يكن مصدرها مدارس تاريخية محددة، بل أتت من مصادر و مجتمعات ومدارس مختلفة. لذلك فإن أي عمل أدبي أو مؤلف قد يبدو لنا بعضه متكاملاً وهو يحوي في صلبه متناقضات كثيرة. ويضرب نوت مثالاً على ذلك الفصل الذي جمعه البلاذري عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في كتابه "أنساب الأشراف" ويتحدث فيه عن إسلام عثمان ومزاياه الكثيرة كصحابي وفيّ معطاء، بينما يورد في فصل آخر روايات تتحدث عن أخطائه الفادحة، وهذا بالضبط ما يتوقعه الباحث من كاتب كالبلاذري كان دوره الرئيسي جمع الروايات ونقلها، لذلك لم يكن هناك دائماً صلة فعلية بين مضمون الرواية وسياق الروايات في ترتيبها الزمني(كما يقول نوت).
وبالرغم من أن "نوت" يعتقد في دراسته أن أي مجموعة من الروايات لا يمكن أن تمثل مدرسة واحدة من المدارس التاريخية التقليدية من عراقية أو مدنية أو شامية، إلا أنه يظن أن هذه المدارس كانت موجودة، لكنها لا تخولنا الحكم على راوٍ أو الأخبار التي نقلها بسبب انتمائه الجغرافي. ويعتقد أن هذه المدارس والرواة على اختلاف مشاربهم، والأخبار التي نقلوها -تشترك في المضمون والأسلوب بما يلي:
أولا: أَنَّ كل مجموعة من الروايات تتضمن هي نفسها أفكاراً تاريخية متناقضة، لا يمكن اعتبار أي مجموعة وحدة متكاملة؛ لذلك علينا دراسة كامل المواد المنقولة قبل الحكم على موضوع محدد. كما أن المؤلفات ليست أعمالاً متماثلة لبعضها بعضاً، وهي تختلف في ترتيبها للمواضيع، بالرغم من وجوه الشبه بينها. لذلك فإن مقارنة مواد موضوع معين في هذه المصادر تقتضي الاطلاع على مختلف أجزائها في أكثر الأحيان، إذ يمكن أن تجد رواية مندرجة تحت باب "الفتوح" في مصدر معين قد اندرجت في مصدر آخر تحت باب "الفتن" مثلاً.
ثانيا: أن الأفكار المسبقة والانحياز والمفاهيم والأنماط(Topoi) والأنماط الجامدة(Stereotypes) قد تسللت إلى مختلف النصوص التاريخية. ومثالاً على ذلك فكرة تفوق أو أعلوية الصحابة على غيرهم؛ لذلك فإن أي رواية يجب أن توضع في سياقها التاريخي الصحيح ليجري تقييمها بصحة واعتدال.
ثالثا: أن الرواة المتقدمين لم يكونوا إلا جامعين لمواد وروايات مختلفة. ومع أنهم شذبوا هذه المواد بطرق مختلفة، إلا أنهم لم يستطيعوا صياغتها في قالب متماسك. بل قاموا بتخطيطها (Schematization)، عن قصد أو غير قصد. وقد تمت صياغة التخطيط عبر خمسة عوامل:
1- وسائل الربط بين الروايات من أحرف وكلمات وجمل مثل "ثم"، و"أتى". و"مضى إلى"، و"حتى انتهى إلى" إلخ، وهذه الوسائل التي تربط بين روايات متناقضة، أو تصف أحداثاً في أزمان مختلفة- تؤدي إلى إرباك الباحث، وتضفي الغموض على الوقائع التاريخية.
2- الأسباب الوهمية، إذ إن استعمال وسائل الربط بهذا الشكل يعطي الروايات تسلسلاً مغلوطاً يؤدي إلى أسباب وهمية، لا علاقة لها بالحدث التاريخي.
3- البحث عن أسباب تسمية الأماكن(Etiology) من خلال الروايات وإضافة التفسيرات المختلفة عليها. مثالاً على ذلك البحث عن معنى لاسم(جالولاء) في العراق عند الطبري، إذ عاد إلى جذري "جلل" و"مجال" اللتين تعنيان "غطي" و "مكان" على التوالي، مما جعله يستنتج أن المسلمين –بعون الله- قد غطوا المكان بالجثث التي تراكمت فوق بعضها بعضا.
رابعا: تنظيم المواد(Systematization)، فقد حاول المؤرخون المسلمون تنظيم الروايات والأخبار، ولهذه العملية ثلاثة أوجه:
1- تجميع روايات عن أحداث مختلفة في وحدة منظمة مما يجعلها تفقد خصوصيتها التاريخية وبُعدها الزماني.
2- استعمال الصيغة نفسها للتعبير عن حدث مختلف كلياً لإضفاء التطابق والموازاة (Parallelism) بين الموضوعات التاريخية.
3- إضفاء صيغ وأنماط على الروايات والتقارير التي لها خصوصية مميزة.
ويعتقد نوت أن هذه العوامل الثلاث تتداخل مع بعضها في كثير من الأحيان ومثالاً على ذلك تلك الرسائل التي نسبها الرواة إلى الخلفاء لإضفاء السلطة المركزية عليهم، وتصويرهم بأنهم يضعون الخطة العامة للأحداث التاريخية، كتقسيم أبي بكر-الخليفة الأول- لسوريا إلى قطاعات وهي ما زالت تحت الحكم البيزنطي، وقبل أن ينطلق القادة المسلمون لفتحها. ولا حاجة للقول بأن ذاك التقسيم لا بد أنه قد حصل بعد السيطرة على سوريا فعلياًّ في وقت لاحق، وأن مفهوم حكم الخلافة كسلطة مركزية يعتبر مفارقة تاريخية(Anachronism)، وقد حاول معظم الرواة تصوير الخليفة بأنه يدير مملكة مترامية الأطراف من مقعد الخلافة في المدينة ومثالاً على ذلك رسالة أبي بكر إلى خالد بن الوليد –قائد الجيش في معركة اليرموك- يأمره بالزحف على العراق، وأخرى من الخليفة عمر -رضي الله عنه- إلى سعد بن أبي وقاص، حاكم الكوفة وقتئذ. كذلك المراسلات بين الخليفة عمر وعمرو بن العاص –حاكم مصر- التي تصور الأخير غير قادر على التصرف دون الرجوع إلى المدينة، مركز الخلافة.
لذلك يبدو مما سلف أنّ التخطيط والتنظيم كانا يطغيان على الوصف الهادف للأحداث الفعلية. فنجد الأنماط (Topoi) تغلب على كثير من الروايات كتلك التي تتحدث عن معارك اليرموك والقادسية ونهاوند، والتي تبدو كسلسلة أحداث نسجت مع بعضها. كما نجد أيضا الأنماط تغلب على الروايات التي تتحدث عن عودة المصريين، خلال عهد الخليفة عثمان بن عفان إلى المدينة وأسباب تآمرهم، وهي تبدو كأنها تتكلم عن اكتشافهم لرسالة موتورة. وكل هذا يغطي الأسباب الفعلية للتآمر والتمرد، وتندرج ضمن هذا النمط الحكاية المشهورة التي تتحدث عن عبور خالد بن الوليد الصحراء(وعقره النوق للحصول على الماء. وهذا يتعارض فعلياًّ مع طبيعة الجمل الفيزيولوجية والبيولوجية).
خامسا: الروايات الناقصة، إذ يعتقد "نوت" أن التراث الإسلامي يتضمن روايات غير مكتملة جمعها الرواة. ويرى نوت أن هذه الروايات الناقصة لا يمكن الاستفادة منها لأنها مبتورة ومستقاة من أخبار تمثل أحداثاً كبيرة. وهي غالباً ما نجدها ضمن روايات الفتوح، مع العلم أنه لا يوجد بينها عوامل مشتركة سوى نقصانها.
ويلحظ نوتٍ في دراسته ظاهرة ربما تناولها غيره من المؤرخين باقتضاب، وهي ما سمي بأسلمة التاريخ (Islamization of History) إذ يرى نوت أن المؤرخين الأوائل حاولوا إضفاء طابع إسلامي على الأخبار التي نقلوها، خاصة الفتوحات الأولى للمسلمين. ويلحظ نوت في هذا الإطار رواية عن معركة أجنادين تتحدث عن قائد بيزنطي أرسل جاسوساً لاستكشاف مخيم المسلمين فأفاده بأنهم "رهبان في الليل فرسان في النهار"، مما جعله ييأس من النصر. كما تتكرر هذه الرواية في سياق آخر. كذلك الروايات التي تتحدث عن معركة القادسية تفيد أن المسلمين كانوا يدعون الفرس إلى اعتناق الإسلام. أما النعمان بن مقرن فقد ألحّ بشدة لنقله من جباية الضرائب إلى صفوف المقاتلين ضد الكفار. وهذه الرغبة هي وحدها(كما يقول نوت نقلاً عن الطبري) كانت سبب ترقيته إلى قائد المسلمين في معركة نهاوند. مثل ذلك جحافل المسلمين في مصر، فقد أصرت المصادر بأنهم شغلوا أنفسهم بتبشير ودعوة سجنائهم المسيحيين، ولذلك فإن الروايات التي صبغت بالدعوة لا تعتبر مصدراً أصيلاً لمعرفة سلوك الفاتحين المسلمين الأوائل، خاصة أنها لا تعطي تفاصيل عن ذلك. وبهذا لا يقصد نوت أن يقول: إن الدعوة لم تنتشر إلى غير المسلمين وقتئذ، بل ما يعنيه أنه إذا أردنا معرفة معلومات أكثر واقعية فعلينا النظر إلى عدة مصادر(إسلامية وغير إسلامية) إذ لا يظن نوت أن الإسلام كان في عهد النبوة ديناً متطوراً كما عرفه المتأخرون، لكنه يؤكد أنه كان ذا هوية تاريخية مستقلة ربما رغّبت الآخرين في اعتناقه وقتئذ، وإن جذور الدعوة لا شك كانت موجودة في ذلك العهد. لكن الروايات التي وصلتنا عن هذا الموضوع تبدو سطحية، وكأنها معالجات للنص قام بها رواة متأخرون لإعطاء التراث هذه الصبغة الدعوية لجعل النبي مثالاً يقتدى به من قبل الفاتحين المتأخرين. ويعتقد نوت أن المسلمين في عهد النبوة واجهوا خصوماً يختلفون عن الذين واجهوهم في العصور المتأخرة، إذ إن المسلمين الأوائل واجهوا مجتمعات قبلية بسيطة سهلة الاندماج في دين جديد. على عكس المتأخرين الذين واجهوا مجتمعات لها مؤسسات راسخة ومتجذرة لقرون خلت، كالنسطوريين في العراق والأقباط في مصر والفارسيين والبيزنطيين؛ لذلك فإن التخلي عن هذه الأديان من أول يوم يرون فيه المسلمين(كما يصوره التراث الإسلامي) لا بد كان صعباً جدًّا، لما يعنيه من ترك عادات وتقاليد متأصلة في الحياة اليومية، فلا شك أَنه كان من المنطقي الإقرار بسلطة الفاتحين ودفع جزية قد تعادل الضرائب التي كانوا يدفعونها للحكام السابقين، أما هؤلاء الحكام أنفسهم(غير مسلمين) فلا بد أنه لم يكن أمامهم سوى القتال للدفاع عن دولتهم.
لا شك أن "نوت" في عمله هذا قد أسهم في تقديم دراسة مفيدة جداً لكل باحث في علم التاريخ الإسلامي. ولعل من أبرز إسهاماته التي تناولها بالتفصيل في هذا العمل مفاهيم التخطيط (Schemtization) والتنظيم (Systematization) وأسلمة التاريخ(Islamization of History).
وهذا يتيح للباحث النظر إلى الروايات من زاوية جديدة. كما قام بحصر الأنمـاط(Topoi) التي تتكرر في التراث الإسلامي وتنظيمها بشكل مفيد للبحث في هذا المجال. ولكن على المؤرخ دائماً توخي الحذر وعدم التعميم(Generalization) والمبالغة باستعمال هذه الأنماط والمفاهيم لتقييم الروايات والتي قد تطمس بدورها بعض الوقائع التاريخية، ومثالاً على ذلك نمط تحدث عنه نوت هو التكبير قبل الهجوم في المعركة واستبعد حصوله في الواقع، ثم اكتشفت بعد ذلك باتريشيا كرونه وجوده في مصدر سرياني معاصر للفتوحات، فأكدت(برأيها) أنه يعبر عن وقائع تاريخية، بالرغم من القالب المثير الذي يتصف به هذا النمط وتكراره في المصـادر الإسلاميـة، Paricia Crone, Slaves on Horses, London, Cambridge University Press, 1981, p,13).
إن الانقياد وراء هذه النماذج التي تحدث عنها نوت دون حذر قد يؤدي-بديل التخلص من العناصر الأسطورية التي نتجنبها- إلى ميثولوجيا فكرية تفسد نظرتنا الموضوعية إلى الوقائع التاريخية برمتها. وهذه الميثولوجيا تتكون عندما ينطلق أي مؤرخ من توقعاته وافتراضاته بأن كل كاتب أو راوٍ ناقل كلاسيكي وتقليدي(في التاريخ أو الأفكار السياسية) ينطق بشيء من عقيدته في كل موضوع من موضوعاته؛ لذلك فمن الخطأ أن نخضع لتأثير نموذج كهذا ونتوقع وجوده في مختلف الموضوعات، فتكون النتيجة نوعاً من الخطاب الذي يمكن أن يوصف بميثولوجيا العقائد التي تتخذ أشكالاً مختلفة، أولها يتم بتحويل بعض الملاحظات المبعثرة والعرضية لكاتب كلاسيكي إلى مفهوم محدد، أو ربما عقيدة لتنطبق على واحد من موضوعاته. وثانيها أن يصنف الباحث النصوص ضمن نماذج معينة ليفهمها، مما يجعله يصنف غير المألوف مع المألوف ليفهمه. وهنا ربما يكمن الخطأ، إذ يحاول توسيع فهمه للتاريخ فيضع الكلام في فم النص ويعطيه المعنى الذي يتوقعه مع أنه لا يعبر في خصوصيته عن المعنى العام. وقد ينتج عن هذا مزايا تاريخية لا تعكس الواقع أو تؤدي إلى فهم لمعنى لم يرد الكاتب نقله ولا يحتمله النص، فيقرأ هذا المعنى بين السطور، ويقول: إِن الراوي ربما لم يرد الإفصاح عنه. وقد ينتج عن هذا معلومات مغلوطة عن تطور مفهوم أو فكرة تاريخية معينة قد تؤدي إلى مفارقات تاريخية لا معنى لها.
ولعله من الخطأ أن يظن المؤرخ أن واجبه يقتصر فقط على العثور على ترابط منطقي تفتقده النصوص. إذ إن التركيز على فكرة واحدة –كوحدة للبحث التاريخي- قد يؤدي إلى الإربـاك المفاهيمـي (Conceptual Confusion)، إذ لا وجود لمفهوم واحد يمكن أن يشرح جميع الجوانب في أي بحث تاريخي، ويمكننا أن نقول: ليس هناك أسئلة أبدية في فلسفة التاريخ، بل هناك أجوبة معينة لأسئلة معينة، كما أن عدد الأسئلة هو على عدد السائلين.
لذلك فإن النصوص التراثية، خاصة في الفكر السياسي والاجتماعي والأخلاقي قد تساعدنا على كشف المبادئ الأخلاقية والالتزامات السياسية المهمة المختلفة –لا المتماثلة- إن تركناها تعبر عن نفسها، وحاولنا فهم العالم الفكري للكاتب ومعتقداته التجريبية المستمدة من واقعة.
*) كاتب وباحث من لبنان.
| |
|