قلب اللقلق/مقطع من رواية
زهير الجبوري
قلب اللقلق/مقطع من رواية
17/10/2011
|
غلاف الرواية |
رفع رأسه إلى السقف الخشبي الدائري وقد ارتفع بأربعة أمتار اعتبارا من
السور الذي يتقدم، غرف الطابق العلوي ذات الأبواب الخشبية المدهونة
بالأزرق، فاصلا بممر صغير بعرض خمسين سنتيمترا بينها وبين ما يمكن تسميته شرفة من الخشب، غير الثابت، لم يمنع نفسه رغم إحساسه بالنعاس أنه يتذكر كلّما نظر
إلى الشرفة بألواحها المتهرئة ذلك اليوم الشتوي قبل أربع سنوات حيث اتكأ
سهوا ذلك الشاب الأصفهاني على خشبها، أحسّ بانقباض القلب وهو يشاهد جثته
الضخمة تسقط، جعل صوت ارتطامها القديم يكرر نفسه مدويا في وسط الباحة لقد مات
بسرعة، تهشم رأسه، لقد شاهد بعينيه، محتويات الرأس وهي تتناثر،لم يشترك في
تشييع جنازته، إنّه يكره تلك الطقوس التي تحاول تأكيد صورة الفقد، إنّه
دائما هكذا، يفكّر بضرورة عرقلة اكتمال فكرة الموت، كان يقول: إنَّ الحرص على نسيان الحوادث بعدم
المشاركة برسم صورتها النهائية، يجعل الموت صورة ناقصة لن تكتمل أبدا_
لذلك كان حريصا على عدم المشاركة بمراسيم الوداع والتي كانت تكرر مشهدا
يوميا، يبدأ من باب المراد، يتفانى في نسج تفاصيله عدد من الرجال بصفين وهم
يحملون التابوت على أكتافهم، لا يخلو الأمر من صياح، وبكاء، ثم يختفي
الجميع داخل الصحن قبل أن تذهب الجنازة لمثواها النهائي باتجاه الجنوب أو الشمال، لطالما شعر
اللقلق أن الموت كذبة، والحياة هي الحقيقة رغم ذلك كان ذلك الحادث شيئا
مؤثرا إلى الحد الذي أفقده النوم لأيام طويلة، في اليومين الأول
والثاني كان يرتجف وكأن جسده مثل سعفة في مهبّ ريح قوية، لم يخرج من الدار
أبدا، في الليل كان يدسّ جسده النحيل، تحت اللحاف، يضطر لمسح مخاطه بمنديل
من القماش
الخشن، لم يع أنّه سوف يسلخ جلد أنفه إلا في صباح اليوم الثالث، حيث يمكن
أن يثق بضحكات جاره الهندي الذي قال له: هل سلخت أنفك في الحمام؟ رغم علمي أنّك لن تذهب إلى هناك إلا في العيد. كان دائما يذكره بذلك الشيء التافه، الحمام، الحمام، الحمام، كأن يقول له: إن صاحب حمام مرتضى يسأل عنه، أو إن الحجي سيحجز حمّامه يوما كاملا لأجلك مع عشرة مدلكين لتنظيف بدنك، أو إنّ تحت جلدك لو اغتسلت، سيجدون قميصا من الصوف. قرر بعد هذه
الحادثة أن لا يسكن في غرفة في الطابق الثاني أبدا، بل إنّه استنكر بناء
البيوت بطابقين أصلا وقال إن الأمر لا يعدو كونه شيئا تافها، رغم أنّ الأرض
واسعة ويمكن بناء بيت بطابق واحد، ثم واصل قراراته بصيغة أكثر حزما بالامتناع عن مزاولة أي عمل مهما كان مغريا، يتطلب منه الصعود غير الآمن حتى إنّه شعر بالخوف وهو يتذكر الأعمال الخطرة التي مارسها، منذ سنوات بل وصف نفسه بالغباء عندما تذكر كيف أنّه كان قد اشتغل حمالا يصعد، بأكياس الدقيق أو الرز إلى الطابق الثاني في خان الشلب أو خان التمر أو تلك ألأيام التي بلا معنى والتي اشتغل بها كعامل بناء مع الأوسطه فخري أبو شامه أو حتى صعوده إلى سطح الدار صيفا للنوم، قال في نفسه إن الحرارة أكثر أمانا من الصعود إلى السطح، رصد الغرف وهي مغلقة، قال في نفسه: لم يصح أحدٌ منهم بعد،
حتى إنّه شكّ أنَّ الساعة قد دقت فعلا، ثم بسرعة عدل الصيغة قال: لقد
اعتاد هذا البيت على اللقلق باعتباره آخر من يصحو. كان يشعر بألم حاد
ودوخة، على بعد ثلاثة
أمتار من السقاية التي بجوار الممر استطاع، أن يتبين الرجل الجالس لشطف
وجهه وقد هبطت عليه الإضاءة البيضاء التي تسللت من الفتحة الزجاجية التي في
أعلى السقف، ساندها فانوس موضوع في طرف السقاية من الجهة اليمنى، قال في
نفسه: إنّه رجل طيب غير أنّه مزعج وغبيّ بل إنّه أحيانا يبدو وكأنه كائن لا
يطاق. انتبه لوجود الشبح المنحني وهو يصب الماء من إبريقه النحاسيّ فلم تعجبه فكرة أنْ يطلب الإبريق ومن ثم سحب القربة من البئر .
_صبحكم الله بالخير حجي.
حاجته للتغوط وللتبوّل جعلته يفكّر بمشهد يتضمن فقدان السيطرة خاصة على
محتويات مثانته حتى يجد نفسه وقد بلل فخذيه، قال سيكون الأمر جديرا
بالتشفيّ، إبريق النحاس الوحيد المستخدم لدار الكنيف بحوزته، لن أمنحه
الفرصة بإنزال خطبته من ممرات مصارينه، يمكن لي أن أصبر حتى الوصول للسوق،
هناك لن أجد في بيت الراحة جمل توبيخ، عدل الصيغة ثم غادر دون أن ينتظر حتى
رد التحيّة التي تعود على صيغتها التهكمية كأن يقول له: هله، هله باللقلق،
شوكت تنزل كراعك رغم ذلك سمع اللقلق أنَّ شيئا مكررا أيضاً يشبه
الاستغفار، إنها لازمة تعقب رائحة الجملة التي تشبه ردا على تحية، أحسّ
بالكلمات السلحفاتية وهي تتدحرج في الرواق القصير ثم توقف ذلك الشيء الذي كان يوصفه بالضراط بعد انغلاق الباب الخارجية غير أنّه كان يستدرك أيضا أنّ ضراطه مختلف تماما، إنّه حقيقيّ ولا يمكن التعبير بصيغة أخرى عن بعض المواقف إلا من خلاله.
أحيانا يشعر بالندم على ذلك الشيء الذي يفعله دون حاجة حقيقية لذلك، تحية
هذا الرجل الذي يشبه الضفدعة المسنة هو أمر غير ضروريّ، قال في نفسه صحيح
أنّ دعوته للوضوء لم تكن لتلقى استجابة مني طيلة سنوات، غير أنَّ ألكراهية
التي أنتجها عزوفي عن الصلاة غير مبررة أيضا، القضية أعتبرها من الأمور
الشخصية كما أعتقد، ليس له الحقّ بتكوين موقف محبة أو كراهية مني بسببها، رضا أو زعل عن عدم تأديتي الصلاة، إنّه يقوم بواجباته على أكمل وجه، الالتزام بها شيء يرتبط به وحده لا يوفر مصلحة لأحد عند إتمامها، ولا عدم الالتزام بها سيجلب خسارة من نوع ما لأحد غيره، على كل حال، لم يعد يعرض هذه الدعوة، اقتنع أخيرا أني رجل، يمكن القول عنه أنّه عاص أو شيء من هذا القبيل، فاسق مثلا، لن أكون مغرما حتما بكلامه
حتى لو واصل زحفه ألف عام باتجاهي، هو يعتقد أنَّ تكرار الأشياء يولّد
القناعات التي تجعله بطلا ومدافعا حقيقيا عن الدين، بل إنَّه ربما يحلم
بالجزاء الأمثل الذي هو ثواب على أفعال، يقال عنها من البر، بالعكس، أعتقد
أنَّ الذي يحدث في أحيان كثيرة كدعوة متكررة وملحّة للصلاة مثلا سوف يؤدي
نتائج متطرفة بالاتجاه المعاكس
*مقطع من رواية " قلب اللقلق" الصادرة حديثا عن دار فضاءات في عمان