حضور/ الفصلان الثالث والرابع من رواية جديدة
حسين عجة
حضور/ الفصلان الثالث والرابع من رواية جديدة
29/10/2011
|
حسين عجة |
الفصل الثالث
كان مطعم الشمس، الشعبي والفاره، أي الواسع وكأنه الشرق ذاته، يزدحم
بالرواد بطريقة تجعل المرء يظن بأنه سوف لن يحصل فيه على مقعد لكي يتناول
طعامه. ومع ذلك لا اعرف كيف يتولد لديه (المرء)، في ذات الوقت، شعوراً بأن
هناك بحبوحة، أو فسح مكانية لا يمكن رؤيتها، لكنها توحي وكأنها قادرة على
احتضان كل سكان المدينة. أو أن الأمر لا يتعلق البتة بالمكان. وبالفعل، قدم
نحونا بسرعة البرق أحد نوادل ذلك المطعم مرحباً وكأننا من زبائنه
الدائميين. سألنا كم نحن. وحين رددنا عليه اثنين، اشار بنفس العجالة التي
قدم عبرها إلى طاولة صغيرة، شاغرةً بكرسيين، بالدقة في المكان الذي كنا نقف
إلى جانبه، والذي لم نكن قد رأيناه، لحظة دوخلنا. نظر فاضل نحوي مبتسماً،
مندهشاً بالأحرى وعاجزا عن التفوه ولو بكلمة واحدة،ُ مثلي تماماً. تلك
واحدة من لحظات الغبطة العظيمة التي تأسر الإنسان عند ولوجه في واحدٍ من
تلك الأماكن الشعبية، والتي لا يمكن أبداً الشعور بمثلها في أي مكان آخر
غيرها. ثمة، هنا، ما يمكن تسميته نور الكينونة المكانية، أو، بتعبير أدق،
فيض وتفتح المساحات الصغيرة التي تتغلغل في حيز المكان العام ومن ثم تفرز
لنفسها حضوراً تنتزعه بقوة غير محسوسة من ثقل، كثافة وعتمة "الأشياء".
طاولة صغيرة، كالحة الألوان ومحاطة بكرسيين لا يقلان عنها بلونهما الرمادي
وتآكل خشبهما تقريباً؛ ومع ذلك منْ بمستطاعه وصف الدهشةِ، الفرح الطفولي
الذي يمكن لطاولة كهذه أدخاله على روح منْ يجد نفسه بالقرب منها؟ معجزة
صغيرة وملمومة على نفسها. لكن إذا ما شاء المرء النظر إليها من منظور آخر
غير منظور ما يسمى "الموضوعية"، يمكنه القول، دون تجنب الحقيقة، أو ترك
المخيلة تفبرك له صوراً لا وجود لها : تلك هي معجزة تقاسم الإنسان لنفسه في
المكان، وليس تقاسم المكان ذاته. وهكذا أنحشرنا، فاضل وأنا، خلف تلك
المائدة وحيزها الضيق، إلى جانب عشرات الموائد الصغيرة مثلها وكأننا نجلس
خلف أوسع ما يمكن من الموائد الباذخة، في المطاعم الضخمة والراقية، كما
يُقال. كان ذلك واضحاً بشكل خاص على وجه رفيقي، إذ سرعان ما تغير لون سحنته
وتقاطيع محياه، التي كانت قبل دخولنا المطعم خامدة إن لم تكن منطفئة.
جلس فاضل قبالتي، دون أن يخلع معطفه العتيد، مرتبكاً بعض الشيء، فيما لم
أكن أنا أرتدي سوى قميصاً صيفياً، خفيفاً، بنصف كم، ذلك لأننا كنا في موسم
الصيف. أدهشتني كثيراً تلك المفارقة، بيد أني فضلت عدم التعليق على الأمر
وتركه يفعل كما يشاء ويرغب، فانا أعرف بعض من خصال وحالات صديقي النفسية.
كذلك كنتُ أرغب حقاً في أن أكون كريماً معه، آملاً أن يشعر بلحظات من
الرحمة والبهجة ربما، علها تنسيه، بهذه الطريقة أو تلك، حالات العوز
والتشرد التي كان يعيشها في مدينة كبيرة وقاسية كمدينتنا.
بعد قدوم النادل ثانية نحونا، وسؤالنا عما نحب تناوله، رد عليه فاضل أولاً :
"بنصف نفر كباب"، أعترضت أنا وقلت له : "كلا، بل نفر كامل مع بصل مشوي
وطماطة وطرشي "، ولي "نصف نفر تكة، مع البصل والطماطة المشوية أيضاً، ولا
تنسى وعاء ماء بارد كبير، من فضلك". عند أنتظارنا لوجبات الأكل هذه، تلفت
صديقي من حوله، على اليمين واليسار، وكأنه كان يخشى من شيء ما لا أدري ما
هو، أو يترقب وصول أحدهم بغتةً نحونا ومن ثم سيُفسد علينا خلوتنا، إذا جاز
التعبير. ما أن أطمئن من جلسته، وضعَ فاضل من فوق الطاولة تقريباً كيسه،
الذي كان يحمله معه وأخرج منه ثلاثة كتب ضخمة نوعما ومجلدة بورق سميك وجميل
وثلاثتها لعبد الرحمن بدوي؛ "رابعة العدوية"، "الزمان والوجود"،
و"التيارات الإلحادية في الأسلام"، كما أظن. قال لي ورأسه على وشك ملامسة
الكيس :
-صبري، هل تقبل مني هذه الكتب الثلاثة لبدوي ثمناً للوجبة التي سأتناولها
معك، وكذلك أحساساً مني بأنها تهمك أكثر مما لو بقيت معي أنا، لأني سوف لن
أكون قادراً على قراءتها؟
لم أكن أتوقع مفاجئة غير سارة كهذه منه؛ أحسست بنوع من الندم جراء دعوتي
له، وبشيء من الغضب وحتى الإحتقار لما بدر منه، لكن وبالرغم من ذلك تمالكت
نفسي، لعمق محبتي له. حدسَ هو على الفور نوعية المشاعر التي تلبستني في تلك
اللحظة. سألني:
-هل أنت حانق، يا صبري، عليَّ؟
-لست حانقاً، لكني مندهش ولا أستطيع فهم سلوكك هذا، فأنا حين دعوتك للمجيء
هنا، كنت أتطلع لعيش لحظات من الود الصداقي معك. ثم لماذا تقول بأنك لن
تتمكن من قراءتها؟ مرَ طيف من الإبتسامة المحببةِ على وجهه. عاود التطلع
ثانية من حوله. دعني أوضح لك، قال :
-لقد سَرقتُ هذه الكتب، قبل أكثر من ساعة من لقائي بك، من مكتبتيّ النهضة والمثنى وكنتُ أنوي تقديمها هدية لسلفيا.
-لمنْ؟
-لسلفيا.
-ومنْ هي سلفيا هذه؟
-زميلة لي في كلية الآداب، بنفس الفرع الذي أدرس فيه، الأنكليزية.
-وهل سلفيا أنكليزية؟ فهم بالدقة ما تعمدت أنا طرحه بهذه الطريقة، لاعباً،
من أجل مشاكسته أو أظهار التناقض في تصرفه، على المفردات. أنطلقتْ منا ضحكة
صاخبة وسط إنشغال زبائن المطعم بالصحون الموضوعة أمامهم.
-لا، سلفيا ليست أنكليزية، لكنها زميلتي في فرع الأنكليزي وهي لا تقرأ إلا
المواد التي يتضمنها البرنامج الدراسي بهذه اللغة، لذا كنت أرغب بدفعها
لقراءة شيئاً من الفكر العربي المعاصر. ثانية، تعالى ضحكنا الصاخب، كشخوص
في مسرحية وقد قبض عليهم نوع من الهذيان الألهي. أية مهزلة. بعدها بلحظات،
قلت له بصوت أكثر ليناً وتفهماً، كما يُقال :
-فاضل، ستحتفظ بهذه الكتب معك، ستعطيها كهدية مني لسلفيا التي أود أن
تعرفني عليها في يوما ما، بدلاً من أن تجعلني أختطف بلا حق ما كان لها هي
في الأصل. مرة ثالثة تعالى ضحكنا المدوي، في ذلك المطعم الزاهي، الذي ما
زال يخالط مخيلتي حتى اليوم. قبلَ رفيقي بالفكرة، ثم سحب كتبه ووضعها ثانية
في كيسه الشهير، تحت معطفه العتيد، وكأنه أحد أبطال ديستويفسكي الثانويين،
والرائعين في ذات الوقت. جلب النادل الأكل. شيء فخم، علق فاضل، الذي بدا
لي وكأنه يحتضن المائدة.
-نسيت أن أقول لك بأن عائلتي ستقدم من الناصرية لتقيم معي هنا، في العاصمة،
وبأني سأعمل قريباً في وكالة الأنباء العراقية، كصحفي مترجم.
-خباران خارقان، رددت عليه. فمع مجيء العائلة، ربما سينتهي التشرد والوحدة،
وعملك كمترجم في وكالة الأنباء سيقضي ربما على شهوة سرقة الكتب غالية
الثمن، التي لا شك أنها تسبب لك، في كل مرة، خضات رعب أو خوف يجعل كل ما
فيك من روح وبقايا حياة يتدهور حتى الحضيض. لم تكن تلك نصيحة أخلاقية، أو
تظاهر بالملائكية أمام صديق يدرك بالدقة ما أقول. كانت بمثابة أستمرارية
لطقس الضحك، الذي مد جناحي نعمته علينا وغمرنا بظلاله الوارفة.
-معك حق، كنت أخشى أن يضبطوني في مكتبة المثنى، كما فعلوا معي في المرة
السابقة التي سرقتُ منها كتاب كامي "الصيف". بالمناسبة، سمعت بأنك كتبت
مقالاً عن "جمهورية الصمت" لسارتر، هل يمكنك أن تقول لي شيئاً عما كتبته؛
يبدو أن ترجمة طرابيشي له غاية في الروعة، أليس كذلك؟ كم جذبني غلافه
الأزرق.
-كَتبتَ مقالة مُحدّدة عن علاقة سارتر بميرلو بونتي، التي أعتبرها أفضل
مقالة في ذلك الكتاب وتشكل صميميته. ثم كررت عليه التعبير الأول الذي وضعه
سارتر في مقدمة مقالته: "كثير من الأصدقاء فقدتهم وهم أحياء؛ لم يكن الذنب
ذنب أحد، كانوا ما كانوا وكنت ما كنت، لكني لم أفقد بونتي حتى في موته". أو
شيء من هذا القبيل. لقد حصرت ما كتبته عن "الدلالة المثالية" للصداقة عند
سارتر.
-أين نشرت تلك المقالة؟
-في "العاملون في النفط".
-آه، عظيم، سيدفع لك جبرا أبراهيم جبرا، إذاً، مبلغاً محترماً.
-وهل يدفعون في "العاملون في النفط" مكافآت لما يُنشر عندهم؟
-أجل وبسخاء، يا صبري، كم أنت غر!
عند باب المطعم، سألني فاضل : "أين يمكنني، في أعتقادك، العثور على الجنابي
في هذا الوقت"؟ قلت له : "لن تعثر عليه الآن في أي مكان آخر غير "الكراج"
الذي يعمل فيه، لكنك ستجده عند المساء في مقهانا، وقد أكون أنا هناك أيضاً،
بعد لقائي بنجيب". أبتسم ثم أفترقنا؛ توجه هو نحو شارع النهر، كما أظن،
فيما فضلت أنا مواصلة سيري في شارع الرشيد.
بالكاد وصلتُ إلى مقهى "البرازيلية"، حتى سمعتُ صوتاً ينادي عليَّ، قادماً
من داخل المقهى وبطريقة تجعل شخص مثلي يتعرف، دون أي عناء، على صاحب ذلك
الصوت : كان جان دمو، بلحمه ودمه، وليس شبحاً يتطابق مع هيئته وحضوره. لقد
أدهشني إلى أقصى حد وجود جان في مثل ذلك المكان، الذي يظل، في مطلق
الأحوال، من الأماكن العصرية والثرية على أناس مثلنا، وبشكل خاص لفرد كجان
دمو. على أي حال، خرجَ من المقهى تسبقه ضحكته الخرافية، الصاخبة، المتهكمة
والإليفة في ذات الوقت. بادرني، كالعادة، بتساءل لا تنحصر إشاراته عما
يمكنني فعله هنا، في الشارع، بل وأيضاً لمَ أنا ما زلت في الوجود؛ شيء ما
على هذا النحو :
-"شتسوي هنا، صبري"؟ نظرت إليه، بذات الطريقة المندهشةِ والساخرة :
-"شني هاي، هو أني شيسوي هنا، لو أنت ماذا تفعل في البرازيلية"؟
-هل تعرف القاص جليل القيسي؟
-لا بد وأن تكون مجنوناً، يا جان، كيف لا أعرف جليل القيسي!
-"لك، هو الذي دعاني إلى هذه المقهى، لتناول فنجان قهوة، ولكي نعيد بعض من
ذكرياتنا في كركوك". ثم سحبني باتجاه مدخل البرازيلية. "دقيقة جان من فضلك،
إلى أين تجرني؟ يجب أن تعرف بأني على موعد، ومن ثم لا يمكنني الولوج معك
إلى الداخل". قاه...قاه...قاه! "لك شو، ما عندي وقت، أو عندي موعد، مع
أي...حقير عندك موعد"؟ ردَ عليَّ. "أنت منْ هو حقير، يا جان"!. في هذه
الأثناء، قدم نحونا جليل القيسي، بشخصه،. بوجهه الطفولي والمضياف، والعرق
يتصبب منه، مع أنه كان يجلس في مكان مُكيَيف، ثم برقة صوته التي لا يمكن
نسيانها، قال ببراء ملائكية وإندهاش :
-ماذا، يا صبري، إلا ترغب بالدخول لكي تلقي عليَّ السلام؟ حَدقتُ بملامح
وجهه والغبطة قد تملكت كياني برمته، "كيف يمكن أن يخطر شيء كهذا، يا جليل،
على مخيلتي، كيف لا أرغب في إلقاء تحية عليك وأنت تعرف معزتك عندي"؟ "إذا"؟
أجابني والتعابير الملائكية لم تزل ترتسم على محياه. أخذته جانباً، على
مسافة قصيرة من جان، ثم همست بأذنه : "جليل، عندي موعد مع نجيب الصالح".
لكن، بدلاً من أن يخلو سبيلي، همس هو الآخر في أذني، قائلاً : "تعال، تناول
قدح قهوة معنا، ثم سنذهب لرؤية نجيب سويةً، فأنا نفسي أتعجل اللقاء به".
حسناً، قلت أنا، متردداً بعض الشيء، ذلك لأني كنت أشعر بصعوبة الأفلات من
قبضتي جان، الذي لا أرغب حقاً في الإنفكاك عنهما، ففرحي برؤيته والبقاء معه
لا يقل عن رغبتي في لقاء نجيب.
كانت الطاولة التي يجلسان من خلفها تتوسط المقهى الكبيرة والآسرة بكل ما
فيها : جدرانها التي عُلقت عليها لوحات تشكيلية بارعة الخطوط والألوان؛
نظافة أرضيتها الاستثنائية، مقارنة ببقية مقاهي العاصمة؛ خلوها التام من
ضجيج لعب التسلية الشعبية، كالدمينو والنرد؛ إناقة كراسيها وطاولاتها؛
وبشكل خاص كياسة وتوازن روادها، العافية والإسترخاء الملحوظ على وجوههم.
لحظة غبطة ثانية شعرت بها، إلى جانب تلك التي أمضيتها أو تذوقتها مع فاضل.
كانت تلك الطاولة الصغيرة والدائرية مغطاة تقريباً بالعديد من الكتب
والمجلات العربية والأنكليزية، لمحت من بينها مجلة "أنكاونتر" الأمريكية
و"ترانس اتلنتك"، مجلة "شعر" الأمريكية أيضاً، ثلاث روايات لهنري ميلر،
مجلة "جاليري 68" و"الكاتب" المصريتين، "الآداب" البيروتية و"روز اليوسف"،
ومن فوقها كلها وضع كتاب اسماعيل صدقي، الذي كان قد وصلنا من سوريا منذ
يومين أو ثلاثة وإثار الكثير من الفرح في عقولنا ومثله من اللغط ضمن
نقاشاتنا الصاخبة بعض الشيء، في المقهى الصغيرة المقابلة لمطعم نزار، في
شارع السعدون. بالقرب من الكرسي الذي كان يجلس عليه جان لاحظت حقيبة سوداء
ومتوسطة الحجم. لا شك أنها كانت تكتظ هي الأخرى بالكتب والمجلات التي يقوم
جان بشرائها من سوق السراي وغيره من أماكن بيع الكتب، في كل مرة يقدم فيها
من كركوك إلى العاصمة. ما أن جلست معهما، أو بالأحرى بينهما، حتى بادرني
جليل قائلاً ومتسائلاً بلهفة وحماس ينبعان من طبيعته السخية والمنفعلة في
آن معاً :
-هل قرأت، يا صبري، كتاب "ريمبو" لسماعيل صدقي؟ هكذا كان جليل يلفظ اسم
رامبو؛ ومنذ متى لم تلتق بصلاح فائق سعيد؟ قبل أن أجيب عليه، رد عليه جان
وقد دوى ضحكه الصاخب في فناء البرازيلية :
-"لك، بابا، غير تسأله أولاً ماذا يشرب"؟ حدق به جليل مندهشاً وكأنه يتذكر
شيئاً لم يكن قادراً على تخيله وحده، أي لو لم يكن جان قد لفت انتباهه
نحوه؛ أخرج سيجارة من علبة سجائره ومدها نحوي، قائلاً بنفس تلك العذوبة
والإرتباك اللذان لا يفارقانه :
-آه، صحيح صبري ماذا تشرب؟
-أنت دعوتني لتناول فنجان قهوة معكما. نادى على النادل بهدوء ومن ثم طلب
منه أن يجلب لي فنجان قهوة مع كأس ماء بارد. أثناء ذلك، أعاد نفس سؤاله
المزدوج : كتاب اسماعيل صدقي ولقائي أو عدمه بصلاح فائق.
-أنه كتيب ممتاز عن هذا الشاعر المتفرد والذي لم نكن نعرف عن حياته وشعره
الكثير، لكنه يظل، بالرغم من ذلك، يتيماً ولا يكفي وحده لكي يلم المرء بشكل
واف بشعره؛ أما فيما يتعلق بصلاح، فأنا بالفعل لم أره منذ أسبوعين تقريباً
أو حتى أكثر، لا أدري أين هو الآن؛ هل هو في كركوك؟ هكذا رددت على جليل.
أرتسمت إبتسامة دافئة وحيّية على وجهه :
-صحيح أنه غير واف، قال، لكنه كتاب عظيم ومهم، ونحن بأمس الحاجة لكتب على
شاكلته؛ أنا أيضاً لم أر صلاح بعد، هنا، وهو غير موجود في كركوك، التي
غادرتها أنا منذ يومين فقط، لقد بحثت عنه في كل مكان هناك، كما سألت عنه
جميع أصدقائنا المشتركين في تلك المدينة. قاطعه جان بسخريته العبثية
واللاذعة في آن : "بابا، أية مدينة! لمَ لا تقول قلعة الأشباح؛ ومن هم
أصدقائكما المشتركين، لا بد وإن يكونوا خرافيين، مثلكما"؟ قاه...قاه...قاه.
لن أبالغ إذا ما قلت بأن جليل كان يصغي لما يقوله جان بأهتمام كبير، وحتى
بشيء من التوجس الذي يقارب الخشوع، وكأن بمقدور دمو أصابة صميم الحقيقة،
عبر كلامه الهذياني المتفرد. أحمر وجه جليل بطريقة لا يمكن أبداً استقراء
دوفعها. تدخلت أنا، لا لكي أنقذ الموقف، كما يُقال، ولكن حتى أضاعف من
عبثيته :
-قد تكون قلعة أشباح، وربما كان جليل وأصدقاؤه المشتركين كائنات خرافية،
غير أن كل هذا لا يمنع من أن يكون بحثه عن صلاح واقعياً وجدير بالإهتمام.
ثانية، مد جليل يده في جيبه وأخرج ولاعة فضية منه لكي يولع لي سيجارتي.
شكرته. ما أن أعاد الولاعة إلى جيبه، حتى قفز تقريباً من مقعده وقد تهلل
وجهه بالدهشة الممزوجة بغبطة كبيرة :
-آه، كم أنت رائع، يا صبري! كيف تقول : بحث واقعي بالرغم من شبحية المدينة وخرافية الكائنات؟
-أليس كذلك، يا جان؟ قاه... قاه... قاه :
-أجل، من أين تعرف قول أشياء كهذه؟ لكن، قل لي، يا صبري، هل تعرف واحد اسمه
لينين؟ أنفجرنا أنا وجليل، هذه المرة، بالضحك الذي غطى على صخب جان وصمت
البرازيلية :
-ومنْ لا يعرف لينين، ردَ عليه جليل.
-بابا، أنا سألت صبري، هل تعرفه؟ تساءل متوجهاً نحوي.
-نعم، أعرفه، ما به، وما علاقته بالأشباح والكائنات الخرافية؟
-روائي؟
-من نمط خاص، أجابه القيسي.
-ليش أنتَ هم تعرفه؟ سأله جان وكأنه يتعمد احراجه.
-جان، لتكف عن هذه الحماقة، من فضلك! قال له. حينئذ جاء النادل، حاملاً
فنجان القهوة وكأس الماء البارد. تطلعت، بصورة خاطفة، إلى ساعتي، ذلك لأني
بدأت بالتوجس في إن لا أكون قد تأخرت عن موعدي مع نجيب. كانت عقاربها تشير
إلى الثانية والنصف بعد الظهر؛ شعرت بنوع من الراحة؛ ما زال أمامي ساعة
تقريباً من الوقت؛ فيما لم يكن مكان لقاءنا المرتقب لا يتطلب مشياً على
الأقدام أكثر من ربع ساعة عن البرازيلية. سيطر الصمت علينا لدقائق، لكن
وفيما كنت أحرك الملعقة في فنجان قهوتي، لكعني جان من رسغي، ومطلقاً في
الوقت ذاته صرخةً أقل ما يُقال عنها بأنها صبيانية :
-لك، صبري، أنظر منْ الذي سيدخل إلى المقهى!
تطلعت بباب المدخل، كان محمد عبد المجيد بقامته القصيرة، السترة الكالحة
التي يرتديها دائماً، حاملاً بيده حزمة كبيرة من الأوراق، لا أدري ماذا
كانت عليه؛ تساءل جليل عما حدث لنا، أخبرته بأن الشخص الذي لفت جان انتباهي
نحوه هو قاص وروائي، صديق لنا. حدق جليل في ذات الإتجاه، ثم طلب مني :
-صبري، لتدعوه من فضلك للجلوس معنا.
-أجل، أجل، أيها العزيز. ثم رفعت يدي عالياً بعض الشيء، لكي يرانا مجيد.
قدم نحونا، وكأنه لا يصدق بأننا كنا نلوح إليه هو بالذات. لكنه حين أقترب
أكثر من طاولتنا، تهلل وجهه بنوع من الفرح، الذي حول، بدفعة واحدة، ملامح
الغربة والإندهاش إلى شعور بالألفة والصداقة :
-آه، صبري، السلام عليكم، كيف أنت... آه، جان لك هاي وين أنتَ؟ نَهضتُ لكي
أشد على يده، أمّا جان فقد أنطلق، كالعادة، بالقهقة الصاخبة :
-لك، شنو قصتك أنتَ؟ قال له. قاطعتُ أنا جان، بغية تقديم محمد إلى جليل،
ولكي أدعوه للجلوس معنا. "آه، أستاذ جليل، كيف الصحة والأحوال"؟ ثم مدَّ
يده لمصافحة هذا الأخير، الذي نهض نصفياً من مقعده وأخذ يد مجيد وصافحها.
أثناء ذلك، أنَزلقتْ وسَقطتْ حزمة كبيرة من الورق من بين يديه؛ أوراق لم
يكن بالمستطاع معرفة ما هي. أنحنى لإلتقاطها، فيما لم تتوقف هستيريا ضحك
جان :
-لك، هاي شنو الأوراق، شتسوي بيها؟ لكن مجيد، عوضاً من أن يرد على جان، وجه كلامه لي :
-صبري، هل رأيت، موسى كريدي؟ أقصد هل دخل المقهى...
-كلا، يا محمد، لم أره، لماذا هل لديك موعداً معه؟
-نعم، وهذه الأوراق هي في الحقيقة نسخة عن روايتي الجديدة. لدي موعد معه
هنا. حينئذ، دعاه جليل بكياسة جمة، كما يُقال، للجلوس معنا وتناول فنجان
قهوة. قبلَ مجيد الدعوة شاكراً.
بعدها دارت مواضيع الكلام والنقاش حول الكبيرة والصغيرة. عن النساء
والسياسة، عن المعقدين واللامعقدين من جيلنا، عن الآبار المكتشفة وتلك التي
في طريقها إلى الإكتشاف من الذهب الأسود، عن ساحة الميدان وباص أمانة
العاصمة رقم 4، عن حافظ القاضي وطبيب الأعصاب المشهور علي كمال، الخ،
الخ... تَطلعتُ ثانية إلى عقارب ساعتي، وبدفعة واحدة نهضت :
-يا جماعة أنا لازم أطلع، مع السلامة جليل، مع السلامة محمد. لم أقل مع السلامة جان، لأني كنتُ أعرف رده مسبقاً.
-دقيقة، صبري، قال لي جليل. رددت عليه بـ "كلا، يا عزيزي جليل، ليس بمقدوري التأخر أكثر".
-حسناً، إذاً سنلتقي هذا المساء في المقهى الصغيرة، أكد لي جليل. ظل جان فاغر الفم، محمد كان يتطلع بباب المقهى.
خرج صبري من البرازيلية...
الفصل الرابع
ثانية على الرصيف الأيمن من شارع الرشيد وجدتُ نفسي أو ضيعتها في زحمته
وضجيج صفرات سياراته الصاخب، المحبب، المجنون والصوفي بجرة قلم واحدة. "لو
لم يكن عندي موعداً مع نجيب، لعدت بخطواتي مسرعاً نحو ساحة المربعة، التي
لم يمارس أي موقع من العاصمة فتنته على مخيلتي مثلها". دمدمت مع الله أو مع
نفسي. في إيقاعها المتلاطم. في كل ثنايا وزاويا روحي الممزقة. فجأة أرتسمت
أمام عيني صورة والدي، بقامته المرهفة، بصوته المموسقِ، برقته وعافيته وهو
يمسك علي، وأنا طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره، من يدي ويهمس تقريباً في
أذني : "شنو رأيك صبري أنروح نفطر قيمر (قشطة) وفوقه عسل في محلة المربعة"؟
يا ألاه البحيرات النائية والشموس الحارقة، يا ربة المعبد والحيوانات
الهائجة ألا يمكنكما، من أجلي، إعادة عجلة العقود والأزمنة الباذخة بفقرها،
الراقصة في ذروة أحزانها، والمتألقة بالرغم من عتمتها؟ "عاهرة يوماً عاهرة
كل يوم، هذا ما أقوله أنا"، الصخب والعنف، فولكنر ترجمة جبرا؛ وخلفهما، من
يقبع وراء اسميهما؟ لا أحد إلا وجه حسين حسن! تسمرتُ، بلا أخذ ورد، في
المكان الذي كانت تقف عليه قدمي. بقعة من الضوء الذي سيكون من الصبيانية
الإقتراب من سحرها. "سأكتب، في يوم ما، كتاباً ضخماً وقد يستحيل عد صفحاته؛
سأسميه، مهما كانت أنواع التهم والشتائم التي ستلحق بي : "أنثروبولوجيا
الأسماء". دمدمتُ، من جديد، مع اشباح الملائكة أو مع نفسي، من فوق سطوحها
وحوافيها المتلاطمة. كان الوقت صيفاً، أو في مطلع الخريف، كان حسين حسن
يرتدي قميصاً قطنياً مقلماً، أزرقاً على خلفية بيضاء، بنصف كم أيضاً، كانت
عيناه الزرقاوان تتوقدان كفنار في ليل بحر، موحش وأظلم. كنتُ قد التقيته
بالصدفة فوق جسر الجمهورية، في الغروب تقريباً؛ أقول التقيته بالصدفة فيما
كان عليَّ القول بغتةً، فجأة، وجه لوجه وكأني لم أكن هناك إلا من أجله، هو :
-صبري، صدق كذب، خرب.... ر... تعال، أنروح نشرب بشريف وحداد، هنا، ليس بعيداً، في مطلع شارع النهر...
-هيا بنا! لكن دعني أسلم عليك أولاً، على الأقل...
-"لك دمشي، الله يخليك، شتسلم عليَّ، خرب... ر".
سيكون من السهل تماماً وصف فردوس "شريف وحداد"، العوالم أو الأكوان
المترامية على جانبيه. بيد أن وصفاً كهذا ليس غايتي الآن، قد يكفي القول
بأن سهرة الشرب والعربدة مع حسين قد دامت حتى ما بعد منتصف الليل، أكثر من
أربع ساعات دون أنقطاع عن المزات والعرق المُصفى أو الخابط، لا فرق، عرق
عراقي خالص، مع قناني البيرة المتجمدة، فريدة وأمستيل الخالدتين. لم يبق
غيرنا في ذلك المشرب الواسع سوى شخصان، في زاوية بعيدة عنا، وربما كانا من
نوادل البار. على أي حال، دفعنا حسابنا سوية وودعنا الحانة بنوع من الندم.
تطلعت في وجه صاحبي :
-والآن، ماذا سنفعل؟
-سنأخذ الباص إلى الوشاش... ستأتي لتبات معي، ليس هناك إلا أنا وأمي. كنا ثملين، على المضبوط.
-أي باص هذه التي تتحدث عنها؟
-لك دمشي، يا معود، إذا ماكو، نأخذ سيارة نفرات من علاوي الحلة. أمضيت
ليلتي في بيت حسين. في الصباح، بعد تناولنا الفطور، أعطاني "الصخب والعنف".
كان ذلك قبل سنوات من موعدي مع نجيب. لا بد لي من قطع المسافة، التي لم
تكن نائية عن المكان الذي تسمرت فيه قدمي واخترق فيه وجه حسن حسين مخيلتي.
لكن، هل سيكون بمقدوري حقاً من الوصول حتى نهايتها، بالقرب من محل "كيت
كات"؟
"أنني أبحث عن مخلوق لكي أغزوه،
أيها الجبل المتدفق، أيتها الحزمة الألهية،
أيتها التقدمة التي تُرفض دائماً،
أين أنتَ يا نقيضي لكي أرمي إليك بسيلي المُحطمِ، الذي لا
يطاق، لأنهبك؛ وجود النفس هراء؛ إن الإنسان ليثقل على نفسه، على
أهله، على الهواء؛ أنه يسحب من ورائه طوطماً من مليون رجل،
آه يا رفاق كلمة لا، لكن ليس لمفردة لا من رفاق، أن تحيتي لكم تشبه
الحجارة الملقيةِ في بئر، يا للجحيم".
لم أعد أذكر لمنْ يرجع هذا المقطع الشعري، ولماذا هاجمني في اللحظة التي
كان وجه صديقي قد أقترب مني بمثل تلك الطريقة المباغتةِ والكاسحة أيضاً.
شعرت بدوارن رأسي. نوع من الغثيان الذي غلف كياني وكينونتي كليهما؛ كنتُ
على وشك تقيء أحشائي، لا من قرف ما، بل على العكس من ذلك تماماً، ربما بسبب
كتلة هائلة من الضوء التي أنبثقت لا أدري من أي زاوية من الشارع، من
داخلي، من العالم المترامي؛ كتلة ضخمة، معذبة لم يكن لا عقلي، لا روحي ولا
مقاومتي الجسدية مهيأة لها. في ذات اللحظة، أحسست بجفاف شفتي، تمزقهما من
ظمأ لا اسم له ولا يمكن معرفة مصدره، وكذلك بحرقة مرة وحادة في فمي. حاولت
التماسك، أو الإيحاء، التوسل لقدمي لكي تتحركا ولو لبضعة خطوات نحو الأمام.
لم يكن ذلك ممكناً. كنت على وشك السقوط أرضاً. ما الذي حدث لي؟ تساءلت مع
نفسي. أو، في الحقيقة، لم يكن لدي لا الوقت ولا القوة حتى على التساؤل.
تزحرحت، بعدها، قليلاً، ببوصة من مكاني، تماماً كما تتحرك سلحفاة ضخمة
ومنهكة من قرون عمرها الطويلة. كان "هدفي" الأقتراب من أحد أعمدة شارع
الرشيد، الإلتصاق به والإتكاء عليه، لشدة فزعي من التهاوي. أسندت أحدى كتفي
بقوة على أول عمود، فيما كان جسدي كله وملابسي ينضحان من العرق وكأنهما
قطعتان من القماش المغسولتين والمعصورتين للتو. كان الناس من حولي، على ذلك
الرصيف الضيق، يمرون بعجالة وتدافع، بصخب وشراهة شيطانتين بالأحرى، وكأن
العالم برمته كان على وشك الأنجراف بقوة زلزال يكتسحه ويقضى على شواخصه
المكانية والكائنات التي تعيش أو تموت فيه. لم يكن أي من تلك المخلوقات
يلقي ولو نظرة عابرة عليَّ. الأنكى من ذلك، بدا لي الموقف كله وكأنه يجري
أمام عيني باعتباري شاهده الوحيد والمنسي. أجل، شاهده الوحيد والمنسي.
وهكذا وصلت إلى حد التطلع فيه، في المشهد، وكأنه يجري بالكامل خارج عني،
وما حدث لي كأنه حدث لغيري. وذلك ما مكنني، شيئاً فشيئاً، على جعل كتلتي
الجسدية الملتصقة بالعمود تنزلق منه أفقياً، بغية بلوغ نهايته الأرضية ومن
ثم الجلوس هناك. على أطراف أصابع قدمي. في زحمة ذلك المكان. منْ يصدق؟ لا
أدري كم مضى من الوقت عليَّ وأنا في تلك الوضعية أو الحالة. لم يغمر
الظلام، أو الحلكة أفق بصري، بل على النقيض من ذلك، كانت ما تزال بقعة
الضوء تلك، بتموجها، تحولها، أقترابها وأبتعادها المُباغتين عن منظور رؤيتي
هي ما أربكني، ما جعلني الهثُ، أتقدم وأتراجع بدفعة واحدة عن جسدي؛ أتفكك
أمام قواى المفكرة، أو المتخيلة، إذا جاز التعبير؛ ثانية، صرتُ أصغي لذلك
الصوت الذي جاء لا أدري من أي مكان. من داخلي؟ من الشارع نفسه، من محيطات
وأصقاع لا أعرفها :
"أنتِ تملأينني كما يملأ الدم الجرح
الجديد وتسيلين في عروقي، آه، أيتها
الوحدة، يا نتاج العمر الطويل و
والضياع، أنا متعبٌ من خداع
التفاصيل".
لقد كففت عن التساؤل مع نفسي لمنْ يرجع هذا المقطع الشعري، بدوره. لم يكن
لدي لا الوقت ولا القدرة على القيام الحفر في زواغير الذاكرة أكثر من ذلك.
الأمر الوحيد الذي كنتُ متأكداً منه هو أنني كنت أقبع، ككومة من النفايات
في زاوية من شارع الرشيد وبأن قوة ذلك الصوت كانت أقرب ما يكون من الدوي
الحاد، المتدفق، واللذيذ بالرغم من ذلك، شيء من الفيض، التوتر؛ انفجار روحي
ربما، حالة، نزاع لا يمكنني على الإطلاق القول كيف غمرتني وجعلتني أعوم
كالغريق في أمواجها المتقلبة. أو كانت قد قبضت على الكون من حولي وجعلتني
أنزل إلى عمق لا يسبر من أعماقه البعيدة. ما بقي فيَّ من قوى مفكرة لم يكن
يسعى لأية نتيجة أخرى سوى النهوض من جديد ومن ثم الوقف والتماسك، دفعي أنا
من أجل التمكن من الوقوف على قدمي. بيد أن ما يمكن تسميته بالمعجزة كان
عليه أن يتحقق، لكي أصل إلى "هدف" كهذا. ينبغي عليّ القول أيضاً بأني لم
أكن أشعر بأي وهن أو ضعف جسدي، والذي يُقال أنه غالباً ما يُرافق حالة أو
لحظة استثنائية كالتي وجدت نفسي فيها، أو عليها، أو من تحتها. كيف يمكنني،
إذاً، تفسير وضعية الثبات، التخشب أو المسمرة التي أحالت ما بيني وبين
التحرك ولو لبضعة خطوات إلى الأمام؟ يحدث، أحياناً، أن تكون خفة الجسد،
تحرره من ثقله المعتاد والضروري لكي يتمكن من مزاولة وظائفه اليومية. ربما.
ومهما يكن، هذا ما حاولت اقناع نفسي بمنطقه. أثناء ذلك، كان رأسي يبدو لي
خالياً تماماً من الصور، التداعيات؛ فضاء واسع لا أثر فيه لأية فكرة، ما
عدا تلك الإنثيالات "الشعرية" المتلاحقة؛ المرتبكة، الثرية والتي ليس
بمقدوري التعرف على الينابيع، أو الحفر التي أنبثقت منها :
"في العقل، أو الفطنة بالأحرى، هل من الأجدر الوصول إلى معرفة الأسباب
النهائية، بدلاً من معرفة مناشدة القلب؟ في الأخير، يظل السؤال المفتوح
أيهما يشدنا بقوة إلى ما يحيط بنا من العالم، العقل أم القلب"؟
ومع ذلك، وفي لجة الحياة والموت هذه، تمكنت، في النهاية، من إلقاء نظرة
خاطفة على عقارب ساعتي : لم يبق لموعدي مع نجيب أكثر من عشرة دقائق. كان
على النهوض والتقدم نحو المكان الذي تواعدنا بغية اللقاء بالقرب منه، "كيت
كات". هل عليَّ القول بأني أحسست، في تلك اللحظة، وكأن يد أو ذراع ما قد
أمتدت نحوي، ذراع لا مرئية ومن ثم انتزعتني، اقتلعتني من وضعية التخشب أو
المسمرة التي كنت عليها؟ الملائكة أو الشياطين وحدها منْ سيكون بمستطاعه
الرد على مثل هذا السؤال. مشيت. اندفعت بالأحرى وكأني تحت تأثير منوم
مغناطيسي. لم أعد أفكر لا بنفسي، لا بالموعد، لا بالمتدافعين من حولي؛
غريزة عظيمة ومباركة بطبيعتها هي من كان يقود ويوجه قدمي، بإرادة واعية أو
نصف واعية، بعناية أو بمكانيكية تليق بكائن ميت، أو شبح أكثر من موائمتها
أو تطابقها مع شعور الفرد في العالم. وهكذا، كنت أقف، في الساعة الثالثة
ونصف إلا خمسة دقائق بالقرب من محل "كيت كات"، ما بين مكتبة النهضة ومدرسة
البنات الكاثوليكية، في انتظار نجيب الصالح.
مرت عشرة دقائق، أي أن وقت الموعد كان قد تخطى الثالثة والنصف، حين لاحت من
بعيد قامة نجيب؛ جسده المكتز بعض الشيء ولكن بإناقة لا تخطأها العين، أو
بما يطلق عليه العراقيون بالأحرى قيافة، "شيك"، كما يُقول من سافروا إلى
عواصم العالم الأخرى، أو أولئك الذين زاروا، مرة واحدة في حياتهم، مدناً
بحرية، موانىء أو سواحل تطل على قارات أخرى غير القارة التي ننتمي نحن
إليها.
حين أقترب نجيب أكثر مني رأيت بأنه كان يحمل بيده حقيبة سوداء، منفوخة اذا
جاز التعبير، من تلك التي يستخدمها المحامون من أجل مرافعاتهم القادمة، في
قاعات المحاكم. لا ريب أنها كانت تمتليء بالكتب والمجلات، هي الأخرى، فيما
كان يسند تحت أبطه تقريباً كيساً بلاستيكاً فخماً، ضخماً، تكتظ فيه ما لا
أدري أية أعداد من الأسطوانات الفونغرافية؛ قطع موسيقية كلاسيكية كان نجيب،
كما عرفت هذا فيما بعد، يقضي ربما أكثر من نصف يومه، ولأكثر من ثلاث مرات
في الأسبوع الواحد، في البحث عنها في مكتبات ومحلات بيعها على طول وعرض
العاصمة.
كان بودي التقدم نحوه، قبل أن يكون هو بالدقة إلى جانبي، لكي أأخذ عنه ذلك
الكيس؛ بيد أن أمراً كهذا لم يكن ممكناً، فأنا كنت ما أزال مطوقاً بتلك
الحالة التي هاجمتني قبل نصف ساعة.
كنتُ، في الحقيقة، أقرب إلى وضعية الغياب مني عنه إلى الحضور، شبح بالأحرى،
عندما وصل نجيب بمحاذاتي تماماً، وثم بادرني بتحيته الرقيقةِ:
-مساء الخير، يا صبري....
هكذا كنت شاهداً على تحول صبري من كائن إلى جثة تقريباً.