سمير ثـــــــــــــــائر متردد
الجنس : عدد المساهمات : 5 معدل التفوق : 13 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 19/03/2012
| | وضع المنطق في فقه ابن رشد | |
وضع المنطق في فقه ابن رشد د. فتح الدين عبد اللطيف تقـــديـــم تعددت مؤلفات ابن رشد باختلاف الميادين المعرفية التي اهتم بها والتي غطت جل صنائع عصره من منطق، طبيعيات، ما بعد الطبيعة، طب، فقه، كلام، أخلاق وسياسة …، وإذا كان بعض هذه المجالات قد جلب اهتمام الباحثين بالدرس والتحليل، بطرق متفاوتة الأهمية، فإن مجالات أخرى لم ُتحظ بنفس الرصيد من البحث، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، المنطق والفقه. ليس من السهل التعرف على حيثيات هذا الإهمال وقد يبدو، على الأقل في الظاهر، أنه راجع إما لقلة النصوص والمراجع أو انعدامها أو لكون هذين المجالين لا يشكلان طرفا من مقاصد فيلسوف قرطبة وبالتالي لا يعبران عن أصالة المشروع الرشدي، في اعتقاد البعض. وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها المعاصرون قصد بيان ما للفقه من وضع اعتباري هام في المتن الرشدي، فإن هناك نقصا كبيرا ينبغي تداركه خاصة في مجال التأليف، فالأبحاث في هذا الباب نادرة و لا تكاد تخرج عن الطور الجنيني. إن ما يهمنا هنا ليس هو البحث عن أسباب ندرة الدراسات في هذا المجال ولكن بالأحرى عن دواعي اهتمامنا ومحاولة البحث عن أبعاد العلاقة الممكنة بين الفقه والمنطق عند ابن رشد وإلى أي حد يمكن القول بأن توظيف المنطق في الفقه عند ابن رشد في مختصره لمستصفى الغزالي، عرف نفس الصورة التي أتت في بداية المجتهد ونهاية المقتصد. فكيف تتحدد علاقة المنطق بعلم أصول الفقه في مختصر المستصفى وكيف هو حالها في مؤلف بداية المجتهد ونهاية المقتصد ؟ قبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد من إعطاء بعض الدلائل الأساسية التي بإمكانها أن تحدد بعضا من ملامح هذا الطرح. المعطـى البيبلوغرافي مع اكتشاف مخطوط مختصر المستصفى لأبي الوليد لم نعد نقتصر على مؤلف فقهي فريد ونعني به بداية المجتهد ونهاية المقتصد، بل أصبح من الممكن التعرف على مكونات فكر ابن رشد في فترة متقدمة من مشروعه الفلسفي والتي ألف فيها جملة من المختصرات في بداية حياته العلمية. هذا الاكتشاف له دلالة خاصة في مشروع ابن رشد فبالإضافة إلى إحداث بعض التعديل على مستوى فترات التأليف الفقهي، حيث لم يعد تاريخ تأليف بداية المجتهد هو الذي يحدد ممارسة ابن رشد الفقهية، بل أن اختصاره للمستصفى في « العشر الوسط من ذي الحجة من سنة اثنين وخمسين وخمس مائة »، أي في بداية إنجازه للمختصرات. قد يفضي بنا هذا إلى استخلاص أن ابن رشد ابتدأ أصوليا قبل أن يكون فيلسوفا، وأن الفقه ظل حاضرا في مختلف مراحل تأسيس مشروعه الفلسفي. هذا علاوة على أن اهتماماته في فترة تأليفه للمختصر والبداية لم تكن فقهية فحسب بل كانت متزامنة مع اهتمامات تغطي مجالات المنطق والطب والعلوم الطبيعية، فتأليف مختصر المستصفى وبداية المجتهد كان موازيا لتاريخ تأليف المختصر في المنطق أو ما يسمى بالضروري في المنطق 557/1157، وهو مؤلف يغطي جل مباحث الأورغانون الأرسطي ويوازي أيضا تأليف جوامع أرسطو الطبيعية 557/1162 وبعدها بسنتين شرع ابن رشد في صياغة التلاخيص المنطقية للأرجانون الأرسطي ويأتي تلخيصه لكتاب السماع الطبيعي والبرهان سنتين بعد تأليفه لبداية المجتهد ونهاية المقتصد. يقول ابن رشد في مطلع مؤلفه البداية مشيرا إلى كتاب تحت عنوان أصول الفقه: «وقد تكلمنا في العمل و قوته في كتابنا في الكلام الفقهي و هو الذي يدعى أصول الفقه»1، ولعل هذا الكتاب الذي اشتهر منذ مدة بين الفهرسيين إنما هو ملخص لكتاب المستصفى الشهير للغزالي. أما الكتاب الذي كان ابن رشد ينوي تأليفه عن مالك بعد الانتهاء من كتاب البداية، فلم يصل إلينا و لا نعثر له على أثر بين معاصرينا »2. بناء على ما سبق تنحصر قائمة المؤلفات التي بلغتنا مكتملة و التي من شأنها أن تحدد لنا موقف ابن رشد من الفقه في كتابين اثنين هما المختصر والبداية. ولكي نعي من الناحية الزمنية موقع هذين المؤلفين من مسار ابن رشد الفلسفي، تجدر الإشارة إلى أن كتاب المختصر – وهو عبارة عن عرض موجز لأصول الفقه وبحث في المنهج المتبع في الفقه و بالأخص في الكلام الفقهي- يعود إلى بداية عهد ابن رشد بالتأليف الفلسفي،" حوالي سنة552 هجرية/1157م". أما كتاب البداية، فقد ألفه سنة 564 هجرية/1167م. ويمكن اعتبارها لحظة النضج الفلسفي عند ابن رشد، إذ كتب لتوه الكليات في الطب و كان يتأهب آنئذ لكتابة شروحه و تعليقاته على أرسطو، خاصة الشرح الأكبر. يتضح إذن أن ابن رشد ظل منذ حداثة عهده واعيا بالإشكالات التي ما فتئ يطرحها تأويل الشريعة في التقليد الفقهي المعاصر له. فقد تمسك في الكتابين المذكورين بالقدر نفسه من الدقة المنطقية قصد تفنيد الدعاوى و الحجج المعهودة لدى أصحاب المذاهب، و سعيا إلى الدفاع عن الاجتهاد في المجال الفقهي. ولا غرابة، فمدار الأمر هو التصدي لمعايير نظام تقليدي قائم هو ما يسمى أصول الفقه. و لتحقيق هذا المسعى لا بد من المنطق كأداة فعالة لفتح سبل جديدة نحو الدقة والموضوعية. هكذا يشكل إعمال مضامين المنطق، في المختصر والبداية على السواء، مكونا جوهريا في معالجة مختلف المسائل المطروحة. مختصر المستصفى والفصل بين منطق المتكلمين ومنطق الفقهاء يستهل ابن رشد مختصره لمستصفى الغزالي، بعد إبراز الغرض من الكتاب، إذ يقول: «فإن غرضي في هذا الكتاب أثبت لنفسي، على جهة التذكرة، من كتاب أبي حامد الغزالي رحمه الله في أصول الفقه الملقب بالمستصفى، جملة كافية بحسب الأمر الضروري في هذه الصناعة، ونتحرى في ذلك أوجز القول وأخصره، وما نظن به أنه أكثر ذلك صناعي » 3 لعل صيغة الاختصار التي أرادها ابن رشد لتفادي التطويل والاختراع من أجل التتميم والتكميل، تستدعي إبراز المعالم الضرورية في أصول الفقه وإبعاد كل ما هو سجالي كلامي. منذ البداية، يتضح أن ابن رشد، يفرق بين المجالات المعرفية ويحدد أن موضوع مختصره هو الأصول وليس الكلام، بل يذهب إلى نقد استعمال لمنطق المتكلمين للبث في القضايا الفقهية. هذا الاعتراض على عدم مزج منطق المتكلمين بأصول الفقه يتجلى، أيضا، في تجاوز ابن رشد في بداية مختصره للمستصفى للمقدمة المنطقية التي استهل بها الغزالي مؤلفه، يقول ابن رشد بهذا الصدد: «أبو حامد قدم قبل ذلك مقدمة منطقية زعم أنه أداه إلى القول في ذلك نظر المتكلمين في هذه الصناعة في أمور منطقية... ونحن، فلنترك كل شيء إلى موضعه، فإن من رام أن يتعلم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد لم يمكنه أن يتعلم ولا واحد منها»4. استنادا إلى ماذكره ابن رشد في مقدمته ألا يمكن القول بأنه إعلان صريح لرصد معالم منطق خاص بالفقهاء في مقابل منطق المتكلمين خلافا لما ذهب إليه ابن رشد في كتاب البداية من استناده الضمني لمنطق أرسطو واستعماله لبعض المفاهيم المنطقية لتبرير موقفه من بعض الأمور الفقهية التي اشتهر الخلاف فيها ؟ ليس من السهل تقديم دلائل قاطعة تكشف عن ملامح السؤال، خاصة وأن الأمر يتطلب القيام بدراسة متأنية لفقه ابن رشد وعلاقته بالمنطق، وبالتالي بمقارنة دقيقة بين ما جاء في مختصره للمستصفى وبداية المجتهد...، لكن من الممكن تقديم بعض الملاحظات الأساسية للتقرب من الطرح: الملاحظة الأولى: إن ابن رشد في مختصر المستصفى يمهد لبلورة تصوره الخاص عن الفرق الكلامية وخاصة الأشعرية منها وهي مناسبة أيضا لنقد المذاهب التي يعرفها التقليد الأصولي في عصره وذلك تمهيدا للدفاع عن مشروعية المنطق وعلى القياس الفلسفي كما سيأتي لاحقا في فصل المقال وتهافت التهافت، لذا وجب بدءا البحث عن هوية موضوع أصول الفقه وتحديد الغاية منه. الملاحظة الثانية: إذا كان ابن رشد في الكتابات الفقهية اللاحقة, ونعني بداية المجتهد، يعمد إلى نقل الفقه إلى معرفة تتميز بالدقة والوضوح والشمولية ومد الجسور بين الفقه والمنطق بطريقة ضمنية، فإنه في مختصر المستصفى يصنف أصول الفقه من بين علوم الآلة التي تسدد العقول نحو الصواب، حيث يقول : «إن المعارف والعلوم ثلاثة أصناف : إما معرفة غايتها الاعتقاد الحاصل عنها في النفس فقط، كالعلم بحدوث العالم، والقول بالجزء الذي لا يتجزء وأشباه ذلك. وإما معرفة تعطي القوانين والأحوال التي تسدد الذهن نحو الصواب في هاتين المعرفتين، كالعلم بالدلائل وأقسامها، وبأي أحوال تكون دلائل وبأيها لا، وفي أي المواضع تستعمل لنقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا. وهذه فنسمها سبارًا وقانونًا، فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البر كار والمسطرة إلى الحس في ما يؤمن أن يغلط فيه. »5 يوضع أصول الفقه، هنا ، باعتباره الآلة المنطقية التي يضبط بها الفقيه الأحكام والفتاوى، وبالتالي فخلافا للتصور التقليدي السائد لدى الأصوليين، فأصول الفقه لا يُدرج ضمن العلوم التي غايتها العمل، بل يصنفه ابن رشد ضمن علوم الآلة، فلا هو بالعلم النظري ولا العملي بل مجموعة من القوانين التي تسدد العقول نحو الصواب. وطبقا لذلك قسم ابن رشد مختصر المستصفى إلى أربع أجزاء « الجزء الأول يتضمن النظر في الأحكام، والثاني في أصول الأحكام، والثالث في الأدلة المستعملة في استنباط حكم حكم عن أصل أصل، وكيف استعملها. والرابع يتضمن النظر في شروط المجتهد وهو الفقيه. »6 ويؤكد ابن رشد أن الجزء الثالث في مختصره هو الذي يخص صناعة أصول الفقه، وهو الذي يفصل القول في الأحوال والقوانين التي تستنبط بها الأحكام وهو ما سيحدد، جملة وتفصيلا، الشروط الضرورية لتأسيس صناعة تامة وكلية. إن تصنيف العلوم على هذا النحو الذي نراه في المختصر يصطبغ، كما يلاحظ ذلك،جمال عبد العالي. العمراني، بصبغة الفيلسوف، فبصمته تظهر واضحة في كيفية تقديم المضامين وأسلوب تحريرها. هكذا نرى أن ابن رشد الفقيه اليافع يقف ها هنا إزاء كبرى مؤلفات الغزالي في أصول الفقه مثلما يقف ابن رشد الفيلسوف اليافع أمام الإرث الفلسفي لمفكر الشرق العظيم 7. ُيفهم من هذه الدلائل أن العلاقة بين المنطق والفقه ليست علاقة نقل طريقة منطقية معينة واستخدامها للتجاوب مع موضوع علم أصول الفقه. بل أن الممارسة الفقهية تتم وفقا لتأسيس بناء نسقي تتحدد فيه الآليات والمفاهيم ذات طبيعة فقهية. بعبارة أخرى، إن التصور الرشدي للعمل الفقهي، في المختصر، يفضي بنا إلى استخلاص أن هناك علاقة تخارج، بين الأصولي والمنطقي، على الأقل على مستوى إستعمال المفاهيم المنطقية في الفقه،وهو أيضا مسعى لتخليص موضوع علم أصول الفقه مما علق به من مسائل علم الكلام وغيره من العلوم. إذا كان ابن رشد، في كتاب البداية يوافق من حيث المبدأ على القياس الشرعي، وهو في ذلك يوافق جمهور الفقهاء ويبتعد عن الظاهرية، إلا أنه في مختصره للمستصفى لا يرى في ما يسميه الفقهاء بالقياس قياسا، وإنما هو كما يقول من جنس إبدال الجزئي مكان الكلي. وإذا كان، ابن رشد، ينفي أن يكون القياس الفقهي قياسا، فهو ينكر أيضا أن يكون له فعل القياس المنطقي، وذلك لأن الفقهاء لا يستعملونه في استنباط مطلوب مجهول عند معلوم كما تستنبط المطالب المجهولة عن المقدمات المعقولة، وإنما يستعملونه في تصحيح وإبدال الألفاظ ولذلك كان القياس عندهم قرينة أو قرائن على ذلك، وليس قياسا في الحقيقة ولا له فعل قياس.8 هذا ما يؤكده أيضا رفض ابن رشد إدراج المقدمة المنطقية التي استهل بها الغزالي مستصفى أصول الفقه، باعتبارها مقدمة منطقية ولا علاقة لها بعلوم أصول الفقه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك9. إن هذا الموقف يترجم الغرض الأساس من مؤلفاته، وهو أن يبين كيف أن العمل المنوط بالفقيه المقتدر يقتضي منه ألا يقف عند حرفية النصوص الدينية وألا يكتفي بأن يحفظ عن ظهر قلب كتب الفروع، بل أن يرقى إلى منابع الفقه وأصوله ليستخلص منها الأحكام التطبيقية وفق قوانين الاستنباط و قواعده. وإذا كان موقف ابن رشد في المختصر يبدو مشروعا بالنظر إلى المنزلة الرفيعة التي يجعلها للمنطق في الفقه، فليس الأمر كذلك في كتابه البداية حيث لا نجد أدنى إشارة إلى دور المنطق بالنسبة إلى الفقه. هذا لا يعني خلو كتاب البداية من كل استدلال منطقي، بل عكس ذلك، فإدراج مكونات نظرية في الجدل الفقهي يشكل أولى الشروط لحل مشكل الخلاف بين المذاهب. المنطق الضمني في بداية المجتهد لعل جل الدراسات النادرة التي خصت فقه ابن رشد من خلال بداية المجتهد1168/563 أكدت على أهمية حضور الآليات المنطقية في تشريح القضايا الفقهية ورفعها من مستوى الجزئيات والوقائع إلى مستوى الأصول المقررة والقواعد الثابتة. هذا بالإضافة إلى الدور المحوري الذي يجب أن ينوط بعمل الفقيه وهو الاجتهاد في النظر الفقهي خلافا للتقليد واجترار ما تركه السلف من روايات متعددة في قضايا الشرع تحفظ بطريقة آلية دون أي تأويل أو اجتهاد « فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد… وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه، لو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أ يحفظه إنسان، كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي عنده خفاف كثيرة، لا الذي يقدر على عملها. وبين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة. فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت » 10 إن إحدى غايات ابن رشد هي الدفاع عن نمط معين من الممارسة الفقهية التي تخضع للاجتهاد والتجديد، والذي تمارس الفقه بالآليات المنهجية التي تقوم على المنطق والبرهان. وعلى هذا الأساس يمكن القول أن عمل ابن رشد في بداية المجتهد توجه نحو تأسيس جديد للفقه وفق اشتراطات منطقية من حيث المبادئ التي ُتخول للفقيه أن يصل إلى أعلى مراتب الاجتهاد. إن الوعي بالأهمية التي تكتسيها المؤلفات الفقهية في المسار الفلسفي الرشدي جعل الباحث "برانشفيك"-الذي اتخذناه مرجعا أساسا في مجال الفقه بالذات- محقا حين ذهب إلى أن مؤلف البداية يشكل النموذج الأكمل لما يتحراه من صرامة منهجية في أصول الفقه منظورا إليها كمبحث تأويلي أ و معيار يحتكم إليه في الفقه السني برمته | |
|