بقلم: أحمد عزيزي-
تمخّض الجبل فوَلَد فأراً…هكذا قال الكثيرون بعد اعتماد مجلس الأمن يوم
السبت الماضي أولَ قرارٍ له بشأن الحالة في سوريا، وهو القرار رقم 2042
لعام 2012. وبالمقابل قال كثيرون غيرهم أن هذه الخطوة – وإن أتت متأخرةً –
تُعدّ بدايةَ النهايةِ لحكم أسرة الأسد في سوريا. وليس لنا أن نلوم الفريق
الأول على قنوطه من مجلسٍ أمميٍ ومجتمعٍ دوليٍ التزما الصمت المعيب إزاء
مجزرةٍ حقيقيةٍ بحقّ شعبٍ يطلب الحقَّ والحياة والكرامة، كما ليس لنا أن
نلوم الفريق الثاني على أمله في خطوةٍ تَنُمّ عن إجماعٍ وعزيمةٍ داخل
الهيئة التي تُمثِّل غايةَ الشرعيةِ الدولية في مجال السلم والأمن. ولكن ما
نأخذه على الفريقين كليهما أن الآراء غالبا ما تتكون قبل الدراسةِ
المتأنية لنصّ القرار وأبعاده القانونية والإجرائية وملابسات الاتفاق عليه
وشروط وظروف تنفيذه. ويجب أن تُؤخذَ هذه كلَّها بالحسبان ليُكوَّن الرأي
على بصيرة.
-
ويجب أن نتذكرّ أنه لا يمكن الحكم على النصوص، خاصةً قرارات الأمم المتحدة،
من عنوانها، ولذلك تجد الدبلوماسيين أحيانا يكرّسون الجُهد والوقت للتفاوض
على جملة أو حتى كلمة واحدة. ونصُّ القرار 2042 (2012) لم يأتِ اعتباطاً
بل جاء نتيجةً توافقيةً لمواقف الدول الأعضاء بمجلس الأمن. (واقع الأمر أن
الأعضاء الخمسة الدائمين هم الذين يقترحون النصوص ويبدّلونها ويتفاوضون
عليها، أما الدول العشرة الأخرى فهي كما نقول نحن السوريين “كمالة عدد” في
غالب الأحيان). فالوفد الأمريكي اقترح مشروع القرار ليعكسَ وجهة نظر الدول
الغربية وسائر الدول العربية بل ومعظم دول العالم. ولكنه هذه المرة، في
محاولةٍ لتجنب الفيتو الروسي الصيني، أغفل كثيراً من العناصر التي كانت
أساسيةً في مشاريع القرارات التي قُدّمت للمجلس في السابق، كطلبِ تحويل
الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، والتعبيرِ عن الإدانة القوية
لانتهاكات حقوق الإنسان من استخدام العنف المفرط والإعدامات خارج القضاء
والاعتقالات التعسفية والتعذيب والعنف الجنسي وتقييد الحريات الأساسية،
وتحميلِ الحكومةِ المسؤوليةَ عن الأزمة السورية، والمطالبةِ بتنحي بشار
الأسد وفق المبادرة العربية، وفرضِ العقوبات على النظام السوري بموجب الفصل
السابع من ميثاق الأمم المتحدة (ما يُتخذ في حالات تهديد السلم والإخلال
به ووقوع العدوان). وهذا كلُّه لم يكنْ كافياً من وجهة نظر الوفد الروسي
الذي طرح مشروعاً بديلاً أقلُّ ما يقال عنه أنه وقحٌ في معالجته للأزمة،
فهو يساوي بين الضحية والجلّاد ويضرب برغبات وحقوق الشعب السوري عرض
الحائط. وقد فصّلتُ القول بشأن ذلك المقترح الأسبوعَ الماضي. ونتيجةً
للمفاوضات بين الجانبين، ازداد مشروع القرار الأمريكي ضعفاً وخالطته عناصرُ
من المشروع الروسي.
-
فبادئ ذي بدءٍ، نُزِعت أظافر القرار باعتماده تحت الفصل السادس من الميثاق
(حل المنازعات سلميّاً). وزيادةً على ذلك، بُدِّلت بكلِّ كلمة “يُطالب”
الموجهةِ إلى الحكومة السورية كلمةُ “يُدعو” التي هي أخفُّ لهجةً وذاتُ
أثرٍ قانونيٍ أضعف. وبهذين التغييرين يصير لزاماً استشارةُ الحكومةِ
السورية قبل اتخاذ إجراءات بموجب القرار، وتصير حتى الغاية الأساسية منه،
أي نشر بعثة المراقبين الأمميين، خاضعةً لموافقة وشروط الحكومة السورية.
وأُفرِغ القرار من مضمونه الهامّ، فعلاوةً على غياب العناصر الأساسية التي
ذكرتُها أعلاه، حُذفت العبارة التي تنص على أن بعثة كوفي عنان، المبعوث
الخاص المشترك الأممي-العربي، تقوم على أساس قرار الجمعية العامة للأمم
المتحدة وقرارات الجامعة العربية بشأن سوريا. ثُم عُطّلت العبارة التي تؤكد
على انسحاب القوات والأسلحة الثقيلة من المراكز السكنية وذلك بأن نُسبت
أهميةُ الانسحاب إلى رأي المبعوث الخاص بدلاً من أن تكون من وجهة نظر مجلس
الأمن نفسه. وفي الفقرة التي تدعو جميع الأطراف إلى وقف العنف، شُطبت
التفاصيل الأخرى بما فيها الاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين والاعتقالات
التعسفية والاختطافات والتعذيب والعنف الجنسي.
-
وبعد إفراغ القرار من مضمونه دُسَّ السمُّ في نصّه. فمن ذلك عباراتٌ قد
تُأوّلُ على أن ما يحدث في سوريا هو نزاع بين فئتين وليس ذبحاً لشعب من قبل
حكومته وجيشه الخائنين. وأذكر هنا – على سبيل المثال – أن الفقرة التي
تدعو إلى ضمان أنْ يتمكن الفريق من القيام بمهامه تدعو “الحكومة وجميع
الأطراف الأخرى” إلى ذلك، وأنّ الفقرة التي تعبر عن الإدانة للحكومة على
انتهاكات حقوق الإنسان تنصّ على انتهاكات من قبل “الجماعات المسلحة” أيضاً.
ولكنّي أستدرك فأقول أن عبارة “الجماعات المسلحة” أفضل قليلاً من عبارة
“المعارضة” لأن الأولى قابلة للتأويل ويمكن حملها على أنها عصابات الشبيحة
مثلاً.
-
وبمناسبة الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان، وجب التنويه بأنه على الرغم من
إدانة الحكومة بالانتهاكاتِ عامةً لم تُذكر طبيعةُ تلك الانتهاكات ولم
تُوصف بأنها منهجية ولا جسيمة. وعلاوةً على ذلك فإن الفقرة التي تشير إلى
احترام الأطراف لوقف إطلاق النار لا تذكر المواعيد التي حدّدها المبعوث
الخاص لذلك، بل تذكر أن الحكومة بدأت بتنفيذ التزاماتها، وليس بعض
التزاماتها كما في النص الأصلي. ولكنني هنا أستدرك مجدداً لأُنوِّه بأن
كلمة “بدأت” لا تحمل دلالةَ تمام التنفيذ.
وبعد تفصيل سلبيات القرار، يجدر التنويه بالمقابل بأن معاول الهدم الروسية
والصينية لم تقوِّضْ بالكامل الفقرةَ المركزية فيه، وهي الفقرةُ التي تعبر
عن نية مجلس الأمن بأن ينشئَ بعثةَ مراقبةٍ أمميةً في سوريا، فاحتفظت
الفقرة بذكر الغرض من البعثة، ولكنّ ذلك الغرضَ حُصر برصد وقف العنف المسلح
بدلاً من رصد تنفيذ جميع النقاط الست المكونة لمقترح عنان (وهي وقف العنف،
وتنفيذ هدنة إنسانية يومية، والإفراج عن المحتجزين تعسفياً، وحرية تنقل
الصحفيين، وحرية إنشاء الجمعيات والتظاهر، وإجراء عملية سياسية لتلبية
طموحات واهتمامات الشعب السوري). ولم تتقوض بالكامل الفقرةُ التي تحدّد
التزامات الحكومة حيال البعثة من حيث ضمان حرية وصولها وتنقّلها، وحرية
اتصالاتها ومقابلاتها، هذا وقد حُمّلت السلطات السورية المسؤولية الرئيسية
عن ضمان سلامة الفريق المتقدم.
-
وإجمالاً فمن الإنصاف ألا ننسى أن القرار هو أولاً وأخيراً قرارٌ مُلزمٌ من
قبل مجلس الأمن، ويشكّل نواةً لكرة ثلجٍ كبيرةٍ بدأت بالتدحرج وسيكون من
الصعب على النظام السوري أن يكُفّها عن نفسه. وليس بجديدٍ على مجلس الأمن
التلكّؤُ في الاضطلاع بمسؤوليته عن صون السلم والأمن الدوليين بسبب حق
النقض والعوامل السياسية التي تقيّد التوافق فيه، ولكن التوافق يحدث
أحياناً ويجب البناء عليه والاستفادة منه، كما يُردّد العرب في كلّ مناسبة
المطالبةَ بتنفيذ قرارات المجلس النادرة ضد إسرائيل التي سمحت بمرورها
الولاياتُ المتحدة. وأذكر أنه في عام 2006، وفي ذروة القلق الدولي من
التهديد الذي شكله برنامج إيران النووي بعد أن أحالت الوكالة الدولية
للطاقة الذرية الملف الإيراني إلى مجلس الأمن، عطّلتْ مكابرةُ روسيا والصين
عمل المجلس، ولكنهما تراجعتا تدريجياً فوافقتا في شهر آذار على بيانٍ
رئاسيٍّ (يصدر بالتوافق)، ثم تَبِع ذلك اعتمادُ أولِ قرارٍ بشأن برنامج
إيران النووي في شهر تموز من العام نفسه هدد بفرض عقوبات على إيران، ثم صدر
قرار آخر في شهر كانون الأول تضمن العقوبات.
وبمقارنةٍ بسيطةٍ نجد أن هذا التسلسل في الأحداث يشبه إلى حدّ ما مراحل
تصدي الأمم المتحدة، خاصةً مجلس الأمن، للأزمة السورية. إذ تصاعد الانتقاد
الدولي للقمع ثمّ صدرت قراراتٌ عن مجلس حقوق الإنسان وصلت إلى خمسة
وشُكِّلت لجنة تحقيق دولية، قبل أن يحصل توافق في مجلس الأمن في شهر آب
الماضي على بيانٍ رئاسيٍ يدينُ انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها السلطات
السورية ويدعو إلى وقف للعنف، ثمّ اعتمدت الجمعية العامة قرارين بشأن
سوريا، ثمّ اعتمد مجلس الأمن الشهرَ الحالي بياناً رئاسياً ثانياً دعا فيه
إلى تنفيذ جميع عناصر مقترح المبعوث الخاص المشترك. وأخيراً وصل الأمر الآن
بالمجلس إلى اعتماد أول قرار بشأن الحالة في سوريا.
-
وصحيحٌ أن القرار 2042 لم يفرض عقوباتٍ أو يهددْ بها صراحةً إلا أنه اختُتم
بفقرة يعبر فيها المجلس عن “اعتزامه تقييم تنفيذ هذا القرار والنظر في
اتخاذ خطوات إضافية حسب الاقتضاء”، وهذا يفتح باباً واسعاً سيصعب على
الوفدين الروسي والصيني سدُّه. ومما يُيسّر اتخاذ هذه الخطوات الإضافية أن
مجلس الأمن طلب إلى الأمين العام أن يقدم إليه تقريراً عن تنفيذ القرار،
وأن يبلغه فوراً عن أيّ عراقيلَ توضع في طريق أداء الفريق عمله بصورة
فعالة. وهذا ما سيكون وبالاً على النظام. فأما خرقُ أحكامِ القرار ذات
الصلة بوقف العنف فهو أمرٌ واقعٌ لا محالةَ، لأن النظام ذي العقلية الوحشية
– وقد حُشر في زاويةٍ ضيّقةٍ – سيواصل بل سيصعّد العنف والقتل والجرائم ضد
الإنسانية، وأما عرقلة عمل البعثةِ فحدِّث ولا حرج. وسيرجع الأمين العام
والمبعوث الخاص المشترك بتقارير تُلقي بمعظم اللائمة على السلطات السورية
في عدم التنفيذ، وهذا ما سيضع المزيد من الضغط على الدول التي تدعم نظام
الأسد في مجلس الأمن، وييسر اتخاذ إجراءات عقابية وفق الشرعية الدولية، بل
وحتى الإجراءات الأحادية الجانب مثل تسليح وتمويل الثوار أو التدخل عسكرياً
لتغطية ممرات إنسانية أو فرض مناطق عازلة على الحدود السورية مع تركيا.
-
ولا يُظنَّ أحدُكم أن البعثة الأممية ستكون كسابقتها العربية، أو أنها
ستسكت عن عرقلة عملها أو ستقبل بمنعها من التحرك بحجة أن ذلك “للحفاظ على
سلامة أفرادها”. وفي حين أن الجامعة العربية رضخت لضغوط الحكومة السورية
وقبلت بأن يقود بعثة رصد انتهاكات حقوق الإنسان رئيس مخابرات عسكرية في
نظام سجلّه غير ناصعٍ بخصوص حقوق الإنسان، فإن فريق الخبراء الفنيين الذي
أرسلته الأمم المتحدة إلى دمشق للتفاوض على تفاصيل نشر بعثة المراقبين قد
أظهر كل الحزم في التعامل مع الحكومة السورية، وغادر رئيسُ الفريق الجنرالُ
النرويجي روبرت مود دمشقَ على عجل عندما بدأت الحكومة تماطل في التعامل
معه وأبلغ عنانَ بأن مجالات الحوار قد استُنفذت وأنه لا بدّ من اعتماد
قرارٍ مُلزم للحكومة السورية فوراً. كما أن بعثة المراقبين، بما فيها فريق
مقدمتها، تقوم عليها منظمةٌ ذات خبرة واسعة بمثل هذه البعثات ويتمتع
موظفوها بالخبرة والنزاهة وينتمون إلى مختلف الدول. ولا خشيةَ من وجود بعض
العناصر من الدول الموالية لنظام الأسد في البعثة، لأنها في المحصلة تتبع
إدارة شؤون عمليات حفظ السلام بأمانة الأمم المتحدة وتعمل بالتنسيق مع
إدارة الشؤون السياسية بالأمانة، وقد جرت العادةُ على أن الإدارة الأولى
يديرها فرنسي والثانية يديرها أمريكي.
-
وقد احتجّ الكثيرون لعدم كفاية عدد أفراد البعثة، ويجدر التنويه بأن قوام
فريقِ المقدمة هو ثلاثون خبيراً، ولكن قوام البعثة سيصل إلى مائتي خبيرٍ
بحسب ما تُخطط له الأمم المتحدة. كما يجدر التنويه بأن مجلس الأمن أوجب أن
تتمتع البعثة بحرية التنقل، وهذا ما سيسمح لأفرادها بالتوجّه إلى المناطق
“الساخنة”، وبهذا تتم الاستفادةُ المثلى من عددهم المحدود.
وبعد هذا الشرح المستفيض للجوانب المختلفة لقرار مجلس الأمن 2042 (2012) لا
بدّ من التأكيد على أن النواحي القانونية والإجرائية تظل ثانويةً
بالمقارنة مع المصالح السياسية الدولية والإقليمية، وسيخضع تطبيقُ القرارِ
إلى عدّةِ عواملَ ومتغيراتٍ لعلّ أهمَّها الواقعُ على الأرض الذي يفرضُه
مدى صمود شعب سوريا الأبيّ وجيشه الحرّ.
الثلاثاء أبريل 24, 2012 10:36 pm من طرف admfo