يمتاز الباحث المغربي سعيد ناشيد، بمنهجية تركيبية قلّ نظيرها في مجال
الفكر العربي، فهو يدافع باستماتة ومن دون مواربة عن قيم العلمانية، ينتقد
خصومها شرقاً وغرباً، وكأنّه قادم من غير هذا السرب الفكري السائد وهذا
التسييس الفظّ للفكر كما نراه عندنا.
في حضرة نصوصه لا يشعر القارئ بأية التواءات في اللغة والتعبير، ورغم
جمال الأسلوب فلا مجال عنده للمحسّنات الشاردة عن المعنى. هو كاتب لا يُتعب
قارئه كثيراً، إذ يعتمد آلية المقالات المقيّدة بالعنوان والملتزمة
بالقصد، كما لو أنّ الأمر يتعلّق بعقد شفّاف بين الكاتب والقارئ.
لقد تأكّدت لي هذه الخلاصة من خلال قراءتي المتأنّية للكتاب الأخير الذي
صدر لسعيد ناشيد عن رابطة العقلانيين العرب ودار الطليعة ببيروت. قارئ
الكتاب لن يجده منزاحا في مضامينه عن الأهداف المعلنة مسبقا، قد يكرّر
أحيانا بعض الوقائع التي يستند إليها في نصوصه، ولكنّ تكراره لها يأتي في
سياق كشف المستور عمّا خفي من الأمور، أو لضرورات النقد والتشريح والتفكيك
لبعض المظاهر، أو لغاية اختبار زوايا نظر مختلفة.
في مطارحاته، وهي عنوان فصوله الخمسة، يتضمن الكتاب فرضية تقول : إنّ
الغرب دخل في طور التراجع عن قيم العلمانية. ويحدّد لنا في كلّ مرّة أهمّ
القطاعات التي تعاني من هذا التراجع. هذا في الوقت الذي يعتقد فيه الشرق
جهلا أو خطأ بأنّ تراجع العلمانية سيكون لمصلحته.
إذن ليس صحيحاً أن نزعم بأنّ الغرب علمانيّ بطبعه والشرق دينيّ بطباعه،
فكلاهما متواطئ على التضحية بالعلمانية على مذبح الأوهام والمصالح الضيقة.
يرصد الكتاب أيضا بعض مظاهر الثورة الدينية المحافظة في الغرب من خلال
حضور الدين في الكثير من دساتير الدول الأوربية، وداخل مؤسسات التعليم،
وأيضا من خلال دور الفاتيكان، ويرصد اكتساح المنظمات الدينية للعمل
الإنساني ومؤسسات الأمم المتحدة، ويستقرئ أنماط التوظيف السياسوي للدين في
الغرب من خلال تصريحات رؤساء الدول الغربية لا سيما إبان الانتخابات.
هذه الثورة الدينية المحافظة لا تتزعّمها أصولياتنا العربية البئيسة، بل
تتزعّمها أصوليات "إمبريالية"، تتدخّل في كلّ مجريات الحياة والسياسة
والاقتصاد ولها مراكز قوى نافذة ومناصب سياسية فاعلة، ليس أقلّها أنّ
للفاتيكان مقعدا في الأمم المتحدة وسفارات في معظم دول العالم، وأنّ لدولة
فرسان مالطة دور المراقب في الأمم المتحدة، ولها أيضا سفارات في كثير من
دول العالم، رغم أنها دولة بلا أرض ولكنّها ذات إرث تاريخي دينيّ مليء
بالدلالات.
وفي كل الأحوال فإن كان ناشيد يمنح للثورة الدينية المحافظة في الغرب
دوراً كبيراً في تحليلاته، ما جعل الكتاب طافحا بالمعلومات التحليلية
الهامة، إلا أنّ ذلك لا يجب أن يقودنا إلى اليأس من مستقبل مشروع الحداثة
بما يعنيه هذا المشروع من ثورة علمية وصناعية، وتطوّر ليبرالي وعلمنة
وانتشار لقيم الديمقراطية والمواطنة، من غير أن ننسى إحساس الفرد الأوربي
بقيمة عقله وحريته وحقوقه، وبالتالي لا يمكن لهذا المواطن أن يطأطئ رأسه
بالكامل أمام هذه الظلامية المستعادة.
والواقع أنّ ناشيد لا يغفل عن كلّ ذلك، إلا أنه يدرك بأنّ الغرب لا يرى
مصلحته في العلمنة وتعميم إرث التنوير والثورة الفرنسية على كافة المجتمعات
الأخرى، بل يجعل مصلحته محصورة على وجه التحديد في تعظيم دور الدين. فمن
خلال توظيف الدين يمكن السيطرة على العالم.
فكرة ناشيد، تمتلك الكثير من الجوانب القوية، إلا أنه ومهما أشار إلى
الكثير من حقول التدخل الديني وكذلك إلى مصلحة دول الغرب في ذلك، فإننا
نعتقد بأن الغرب لا يمكن أن يتراجع نحو دول دينية. فالتطور الاقتصادي
والاجتماعي والسياسي، قد يتعايش قليلا مع سلطة الدين، ولكنه بالتأكيد لا
يحتمل أن يحلّ في مكانه. وهنا نصل إلى المسألة الهامة، ذلك أن الدين لا
يقبل في مجال السياسة مبدأ التوافق، إذ أنه لا يريد أقلّ من الكعكة
بأكملها، وهو ما لن تقبل به الدولة الحديثة مهما تخلت عن بعض وظائفها.
وللإنصاف يذكّرنا ناشيد بفكرةٍ لم تكن ضمن مثار انتباهنا، وهي أنّ الدول
الأوربية لم تكن علمانية بما يكفي، ذلك أنّ الدين لم يغادر السياسة، وفق ما
تؤكّده دساتير دول مثل اليونان والدانمارك والنرويج وبولونيا وإيطاليا
وغيرها. وفي أمريكا يظلّ دور الدين قويا وفاعلا. وهو ما يؤكّد أنّ الدين
كان مجبراً في زمن الثورة الفرنسية وعصر التنوير على الانحناء والابتعاد عن
السياسة والدولة، فإنه ونظراً لتاريخه الظلامي الشنيع لم يعد مرغوباً فيه،
بل صار مرفوضا ومبعدا إلى أبعد الحدود.
لقد جاءت استعادة الدين لمواقعه في الغرب على خلفية العداء للدولة
السوفييتية، وقد وُظِف سياسياً لأجل تلك الغاية، واستطاع بالفعل لعب دور
سياسي إمبريالي في دحرها. وذات الأمر حدث في عالمنا العربي، فقد وظفت
الولايات المتحدة الأمريكية الدين الإسلامي في المعركة الأفغانية. ومع
اندحار السوفييت، عاد الأصوليون لاستكمال معاركهم وفق أهداف أخرى، قادت في
الأخير إلى ما يسمّى بالإرهاب العالمي.
في كلتا الحالتين كان ضبط دور الدين سياسياً يتمّ من خلال التعاون
بين الدولة الأمريكية ودولنا العربية، وكلّ دراسة تتجاهل ذلك، إما
منحازة، وإما أنها لا تفقه شيئا في ألاعيب "فأر السياسة". وطبعاً في هذه
الشروط سينمو الدين بأشكال لا حصر لها، ما دامت الحاضنة الدولتية أمّنت له
الشروط الصحية لذلك.
في أكثر من مقالة، يوجّه ناشيد نقداً لطيفاً كعادته، إلى المثقفين العرب،
ويدعوهم إلى عدم فصل الليبرالية عن المقاومة. وفي المقابل لا يتردّد في
انتقاد المقاومة الدينية، لأنها في المحصلة الأخيرة لن تساهم سوى في بناء
الدولة الطائفية. وبالمقابل لا يجوز لليبرالية العربية أن تتجاهل تراجع
العلمانية في الغرب، ولا أن تنتقد فقط أصوليات الشرق؛ فرأيه أن أصولية
الغرب أكثر تغلغلاً وقوةً من أصولياتنا. وبالتالي ولكي تحظى الليبرالية
بحضور قويّ في بنيتنا العربية لا بدّ لها أن تنتقد تراجع العلمانية في
الغرب وظلامية السادة ولا تكتفي بالنقد السهل لظلامية العبيد فقط كما يؤكّد
مرارا. وفي اعتقادي أنّ وجهة نظر ناشيد تأتي في وقتها تماماً، فكثير من
الليبراليين العرب يغامرون بالوقوف في خندق المشروع السياسي للدول
الإمبريالية، وهو ما يدمّر أي أساس يمكن أن تقوم عليه الليبرالية العربية.
ناشيد لا يقترح حلاً لمشاكلنا ومشاكل الغرب، وهو ضدّ أيّ نموذج، فالنماذج
لا تتكرّر، ولكنه يشير إلى أن الغرب ربما يتجه نحو تطليق العلمانية، هذا
في الوقت الذي لم يتجاوز فيه شرقنا سلطة الدين. وبالتالي فإن أي تفكير في
نموذج عربي، لا يمكن أن يخرج عن ثوب الحداثة والعقلانية والعلمانية
والمواطنة والديمقراطية.
هذه القيم هي أساس أية تجربة، غير أنها تكاد تبدو مركونة جانباً في عالم
اليوم، وفي كل الأحوال فإنها تراث البشرية المشترك، وليست خاصية أو جوهرا
أوربيا كما يشير الأصوليون من كل فجّ عميق. إننا نمرّ بانتكاسة كونية كما
يرى سعيد ناشيد، غير أن سؤالا قد يفتح طريق التفاؤل مجددا : هل يمكن
للبشرية بناء عالم حداثي وعلماني بدون انتكاسات؟!