ينبغي التفكير في الهمجية من أجل السعي إلى مجاوزتها ولم لا التخلّص منها (إدغار موران)
ينطلق إدغار موران في هذا الكتيّب ذي القيمة البالغة رغم ضآلة حجمه من جهة
عدد الصفحات من مفارقة تدفع الفكر إلى السؤال والتسآل: أن الثقافة
والهمجية ضروريتان أحدهما للأخرى رغم التناقض الظاهر بينهما. وهي مفارقة
يرصد موران تجلّياتها في مختلف الأحقاب والحضارات الإنسانية قبل أن يفصّل
ويدقّق النظر فيها من خلال مثال-نموذج هو ثقافة أوروبا وهمجيتها. وهو يتخذ
بذلك منذ المنطلق مسافة نقدية واضحة من الموجات المتعاقبة من المركزية
الأوروبية في مختلف تجلياتها الفلسفية والأنثربولوجية والسياسية والتي قامت
على مسلّمة كبرى مفادها أن أوروبا الثقافة والعقل والتقدم (رجوعا إلى
معجزتها الإغريقية وتواصلا مع أنوارها وحقوق إنسانها مرورا بثوراتها
العلمية والسياسية الكبرى) تتناقض جذريا مع همجية وتخلّف وتوحّش البرابرة
أينما كانت أوطانهم وكيفما كانت ألوانهم. لقد عانى العرب واليهود والهنود
والغجر والزنوج والآسيويون وسكان الأمازون…عانوا كلهم من تلك القناعة التي
رسخت طويلا لدى الأوروبيين والتي على أساسها شنوا حروبهم "التمدينية"
وبرّروا "استعمارهم" الشعوب وتدميرهم ثقافاتها ونهبهم خيراتها. عانوا من
صورة روبنسون كروزوي الذي يستعبد البدائي ويخرجه من توحّشه ليزرع في عقله
وروحه وسلوكه أنوار الثقافة والتحضر.
« ليست الهمجيّة عنصرا مرافقا للحضارة فحسب، بل هي جزء منها لا يتجزّأ.
فالحضارة تنتج الهمجيّة، وخصوصا الغزو والهيمنة » (ص11). يستعيد موران
تاريخ البشرية برمّته منذ المجتمعات الأولى أو الأولية حتى عصرنا الحالي
مرورا بالإنسان الصانع والإنسان العاقل ليبيّن أن تزاوج الثقافة بالهمجية
شكّل عنصرا قارا في الوجود البشري. وهو يذكّرنا في هذا بالأطروحة الخلدونية
الشهيرة حول المسارات المحتومة التي تعرفها دورة العمران البشري. إذ يشكل
التوحّش عند صاحب المقدمة المنطلق الأوّل الذي يتأتى منه السلطان وتتحقق به
الغلبة، وما العصبية التي توحّد شمل المجموعة سوى عنصر حامل لذلك التوحّش
الأصلي الذي يمكّن لها من أعدائها. لكن تلك العصبية بدورها تضعف وتتحلّل
بفعل "نعيم" الحضارة والرفاه فتنتج من الفنون والآداب أرقاها في ذات الوقت
الذي تفقد فيه توحّشها الأوّل لتغدو بدورها فريسة سهلة لعصبية جديدة ذات
توحّش أشد تنازعها السلطان وتقضي عليها لتحلّ محلّها. وهكذا…
ويستبعد موران بقوّة – وهي إحدى الفضائل الكثيرة لهذا الكتاب- أيّ منطق
ثنائي "مانوي" في رؤية التاريخ البشري ماضيا وحاضرا ومستقبلا. ليس ثمة في
هذا التاريخ شر مطلق أو خير مطلق. بل إنه ليس ثمة لا خير ولا شر. فهذه
الثنائية الأخلاقية يتم تجاوزها (كما تم الأمر مع سبينوزا ثم مع نيتشه) إلى
ثنائية الحسن والسيّء ذات الطابع الإيتيقي. فالإمبراطورية الرومانية التي
نكّلت بالشعوب وسلبتها خيراتها ودمّرت حضارات عريقة مثل اليونان وقرطاج قد
ساهمت أيضا وبالتوازي في ابتكار مواطنة عالمية مفتوحة على كل الممكنات
الإبداعية وأعطت بالتالي دفعا كبيرا لفنون وآداب وعلوم ما كان للبشرية أن
تعرفها لولا تلك الهمجية التي ترافقت مع الحضارة الرومانية. وقس على ذلك
بالنسبة لكل الإمبراطوريات والحضارات اللاحقة.
تكبير الصورةتصغير الصورة تم تعديل ابعاد هذه الصورة. انقر هنا لمعاينتها بأبعادها الأصلية.
في ذات السياق يحلل موران ما يسميه أنطونيو نغري "إمبراطورية العولمة"
ليبيّن أن الشملنة التكنو-اقتصادية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي (أو
الإمبريالي) الحالي والتي تقوم على "سلعنة الكائن" تترافق بالضرورة مع
عولمة أخرى (أو بديلة) قوامها التبادل الحر للأفكار والابتكار المبدع لقيم
جديدة تعيد النظر جذريا في علاقاتنا بمحيطنا الإيكولوجي وتؤسس لممكنات
جديدة للإقامة في العالم ولمقاومة الأكسيومية الرأسمالية الظافرة
والمهيمنة.
ومن المسائل العويصة التي يثيرها موران في هذا الكتاب، ما يتعلّق بالهمجية
الأوروبية التي ترافقت – باسم الحضارة - مع الحركة الاستعمارية الكبرى
التي شهدها القرنان التاسع عشر والعشرون. فالبرتغاليون والإسبان
والبريطانيون والفرنسيون كانوا يدّعون أنهم حاملون لرسالة تمدينية تثقيفية
هدفها "النبيل" إخراج تلك الشعوب التي احتلوها من ظلمات الجهل والتخلف التي
كانت ترزح تحت نيرها. وباسم ذلك الهدف "النبيل" ذاته ارتكبوا أبشع
المجازر. وداخل أوروبا ذاتها يقف موران على أشكال التنكيل والعسف والتقتيل
الجماعي التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من السلاف والغجر والمثليين
واليهود…الذين لم يكن لهم من ذنب سوى أنهم كانوا "مختلفين". ويثير الكاتب
في هذا السياق واحدة من المشاكل التي ما فتئت تشكل موضوع جدال فكري وسياسي
وإعلامي في الأوساط الثقافية الأوروبية والأمريكية: محنة اليهود في
أوشفيتز. فقد نجحت الدعاية الصهيونية (ذات السطوة الإعلامية الرهيبة) في أن
تخمد صوت كل مفكّر حرّ "يجرؤ" على الدعوة إلى معاودة النظر نقديا في حجم
الكارثة وفي استتباعاتها الإيديولوجية والجيو-سياسية. أصبحت تهمة "معاداة
الساميّة" بطاقة حمراء يرفعها حكم الأخلاق الصهيوني العالمي في وجه كل من
يقول مثلا: نعم لقد عانى اليهود (مثلما عانى الغجر والسلاف والمثليون…)
عذابات لا توصف بسبب "العقيدة" النازية القائمة على مسلّمة النقاء العرقي
وضرورة منع اختلاط الدم، لكن ذلك لا يبرّر ولا يضفي أي شرعية على الممارسات
البشعة التي تقوم بها دولة إسرائيل (مدعومة بالآلات الاقتصادية والعسكرية
والإعلامية الأمريكية والأوروبية الرهيبة) ضد شعب فلسطين الذي يدافع عن
زيتوناته الشاحبة ببعض حجارة وبدفق لا ينفد من الشعر والحب.
لا يتجرّأ موران مع الأسف على قول هذا في كتابه، وإن كان يلمّح إليه بخجل
شديد في فصله الثالث. وهي في واقع الأمر نقيصة شائعة لدى العدد الأكبر من
المثقفين والمفكرين والمبدعين الأوروبيين والأمريكيين، وحتى لدى أكثرهم
نباهة وتقدمية، ربما بسبب تأثرهم الواعي أو اللاواعي بالبروباغندا
الصهيونية الطاغية. لذلك يمثل جيل دولوز استثناء مبدعا في هذا المجال. فهو
الوحيد، على حد علمي، الذي أعلن على نحو لا لبس فيه أن إسرائيل قد جعلت من
ذاتها دولة فوق القانون وارتكبت في حق الفلسطينيين أبشع المجازر باسم
العذابات الرهيبة التي كان اليهود ضحيتها تحت العسف النازي. لقد مارست
العصابات الصهيونية مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وحوّلت الفلسطينيين
أصحاب الأرض إلى "هنود حمر جدد" كما يقول دولوز.
مهما يكن من أمر فإن إدغار موران يثير في هذا الكتاب حزمة من الأسئلة
المهمة التي تضعنا إزاء أسئلة فكرية وإيتيقية عميقة لا سيما مسألة الكيفية
التي يمكننا بها التصدي للهمجية رغم الإقرار بتلازمها مع الثقافة
الخميس أبريل 19, 2012 11:51 pm من طرف karim