في البدء كان الشيطان مجرد سؤال، استفهام استنكاري " أأسجد لمن خلقت طينا؟
". ثمّ تحول السؤال إلى اعتراض ومحاججة فصارت المحاججة جدلا وانتج الجدل
لعنة أبدية وأصبح الشيطان ابليساً، من الفعل أبلس أي يئسَ وقنطَ. فأقسم أن
يكون مغويا لأدم وزوجه، بماذا أغواهما؟ بالمعرفة والخلود وعندما أكلا من
ثمار المعرفة أُخرجا مما كانا فيه وهبطا إلى ساحة التجربة المعرفية
القاسية. خرجا من جنة القرود إلى غابة السباع، فكان الشيطان لهما شريكاً
والمعاناة لهما قريناً. وبقي السؤال علامة في جبهة آدم وحواء، يشير إلى
انسانيتهما. ومن السؤال الذي يبحث عن إجابة جاءت المعرفة، التي تبحث بدورها
عن دليل وحجة لكي تقبل أمراً أو ترفضه. فجاءت مقولة "نحن أبناء الدليل
أينما مال نميل" شعاراً يردده المتنورون الذين يضعون العقل في المنزلة التي
يستحق. أعني الذين لايقبلون أمراً أو يرفضونه دون حجة أو دليل. اؤلئك
الذين يضعون نصب أعينهم "خذ الحكمة ولا تسأل من أي وعاء خرجت".
لكن هناك من لا يبدأ حديثه أو نقاشه مع أحد إلا بعد أن يتعرف على هوية
محدّثه، لا أقصد هنا توجهه الفكري واصطفافه الإيدولوجي بل انتماؤه الديني
أو الطائفي أو اصوله القومية أوالعرقية، لكي يضعه في خانة الآخر، المختلف،
العدو الذي يتربص للانقضاض، فيتحول الحديث عندها إلى اتهامات وقذف ورجم
بالغيب وتصيّد هنّات وعثرات. وكأن الاختلاف في الدين أو الطائفة أو القومية
كاف لوحده برفض الآخر جملة وتفصيلاً، أو جعل الآخر في دائرة الاتهام،
يدافع عن نفسه، أو التشكيك بنواياه لمجرد أنه مختلف، دون النظر إلى ما يقول
ويدعي وهل هو معقول مقبول أم مردود مرفوض لضعف الحجة وفقدان الدليل وتهافت
الأدوات المعرفية المستخدمة في عملية الاستقراء. عندما أقرأ في
"المهابهاراتا" ملحمة الهند الكبرى عن شخصية كريشنا ذي الطبيعتين الانسانية
والملائكية، وكيف يظهر بالصورة الثانية ملاكاً يسدّ الأفق بجناحيه بعد أن
يطلب منه سيده أن يرى صورته الأخرى.
اتذكر ماقرأت في القرآن وما ذكرته كتب التفسير للآيتين "وما صاحبكم
بمجنون* ولقد رآهُ بالأفق المبين" (سورة التكوير 22-23). عندها يحقّ لي
التساؤل لماذا هذا التشابه؟ وعندما يُقتل كريشنا تمطر السماء دماً لثلاثة
أيام، كما حدث بالضبط "في الموروث الشيعي" عندما قُتل الامام الحسين في
كربلاء. فمن حقي السؤال التالي من أخذ ممن؟!! من نافل القول الحديث بأن كل
الأسئلة مشروعة خصوصاً ّإذا كانت في سبيل المعرفة ومن أجل الحقيقة وإن كانت
نسبية. كما إن المعرفة عملية تراكمية تبدأ بالأسئلة والشك وإعادة التقييم
المتواصلة، لذلك نجد نقاط التقاء بين سؤالين أو فكرتين يطرحها أشخاص لا
جامع بينهما ولا لقاء سوى أنهم توصلوا إلى نفس النتيجة أو تشاركوا في نفس
زاوية النظر إلى مسألة معينة أو نهلوا من ذات المصادر. وهذا ما حدث بين
معروف الرصافي (1875-1945) وهو الأديب والشاعر العراقي مؤلف "كتاب الشخصية
المحمدية أو حلّ اللغز المقدس الذي أنجزه عام 1933 في فلوجة العراق ونشرته
دار الجمل في المانيا عام 2002. وجون جلكرايست ""John Gilchist صاحب كتاب
جمع القرآن "JAM AL-QURAN" The Codification of the Qur’an text . لسنا هنا
لعرض وتقييم الكتابين بل لتسليط الضوء على نقطة الالتقاء بينهما فيما يخص
مسألة جمع القرآن. وهل كان الأخير مجرد مبشر يعمل في مجال التنصير وجد
ضالته في التشكيك والنيل من الدين الاسلامي؟ أم إن الأمر يحتاج إلى تقييم
لا يأخذ بالحسبان الأهداف التي يضمرها الكاتب بل ما يقوله في كتابه، وبما
طرح من قضايا ليست جديدة كلياً بل سبقه لها غيره وهنا يأتي الحديث عن
الرصافي وكتابه سالف الذكر. ولست هنا في وارد الدفاع عن جلكرايست ومن يقف
وراءه فالحديث عن الكنيسة والتبشير والتنصير حديث آخر يبدأ من طرد نسطور
وأتباعه ويمرّ بمحاكم التفتيش ولاينتهي باغتصاب الأطفال في الجوقات
الكنسية. بل التوجه المباشر لما طرح في الكتابين من مسائل تخص الموضوع
ونقاط الالتقاء بين الاثنين. فقد أورد جون جلكرايست في مقدمة كتابه
مايلي:(اعتاد المسلمون منذ قرون عديدة على الفكرة القائلة إن القرآن بقي
محفوظًا في نصه الأصلي منذ زمن الرسول محمد إلى يومنا هذا من دون أن
يَمسًّه أي تغيير أو نقصان أو إضافة من أي نوع كانت ومن دون أي تغيير في
طريقة قراءته. في الوقت ذاته، يعتقد المسلمون أن هذا الكمال المزعوم للنص
القرآني هو دليل على أصله الإلهي بدليل أن الله وحده استطاع الحفاظ على هذا
النص. لقد أصبح هذا الشعور قويًا جدًا عندهم لدرجة أنه نادرًا ما نجد
باحثًا إسلاميًا يقوم بتحليل نقدي لموضوع جمع القرآن. وكلما ظهرت بوادر
محاولة مثل هذه فهي تُقمَعُ في حينها. لكن ما الذي سنَسْتَنْتِجُه إن نحن
استعرضنا الوقائع والمعطيات المتوفرة لدينا حول جمع القرآن في بداية العهد
الإسلامي؟
حين نضع الانفعالات العاطفية جانبًا ونقوم بتقييم موضوعي للمعطيات
التاريخية المتوفرة فإننا نصل إلى استنتاج مناقض تمامًا لما يزعمون. وسيظهر
لنا أن ما دُوِّن في إطار الإرث الإسلامي كاف للبرهنة على أن القرآن كان
في وقت من الأوقات يحتوي على عدد مختلف من الآيات بل أحيانًا على مقاطع
كاملة لا توجد في النص القرآني الحالي. زيادة على هذا فقد كان هناك عدد مهم
جدًا من القراءات المختلفة قبل أن يُقَرِّر الخليفة عثمان بن عفان
استئصالها جميعا والاحتفاظ بالمصحف الذي وصلنا). ثم يذكر المصادر الرئيسية
التي اعتمدها في كتابه وهي كتب السيرة النبوية.سيرة رسول الله لمحمد بن
إسحاق (وقد اعتمد عليه بن هشام في تأليف كتابه حول السيرة النبوية). كتاب
الطبقات الكبير لمحمد بن سعد. وكتاب المغازي لمحمد بن عمر الواقدي. ثم كتب
الحديث صحيح البخاري لمحمد بن اسماعيل البخاري وصحيح مسلم لمسلم بن الحجاج و
سنن بن أبي داوود لسليمان بن أبي داوود و الجامع الصحيح لأبي عيسى محمد
الترمذي والموطأ لمالك بن أنس والسنن الكبرى لأبي بكر أحمد البيهقي ثم كتب
التفسير : جامع البيان في تقسير القرآن للطبري وكتاب المصاحف لابن ابي
داوود والاتقان في علوم القرآن للسيوطي. ثم نذهب لما أورده الرصافي في
كتابه. الذي بدأه بما يشبه التمهيد جاء تحت عنوان ملفت هو "للحقيقة لا
للتاريخ" نقرأ فيها ( باسم الحقيقة المطلقة اللانهائية الحمد لها والصلاة
والسلام منها علينا وبعد فقد كنت أكتب للتاريخ وكنت أحسب للتاريخ حساباً
وأجعل له منزلة يستحق بها أن أكتب ما أكتب حتى لقد قلت فيما قلته من قبل:
وأكتب للتاريخ ما أنا كاتب ليجعله أحدوثة كل فجر
ولكن الأيام تنضج المرء بحوادثها فيستحيل من حال إلى حال وينتقل من طور
إلى طور. وكذلك فعلت بي الأيام حتى أصبحت لا أقيم للتاريخ وزنا ولا أحسب له
حساباً لأني رأيته بيت الكذب ومناخ الضلال ومتشجم أهواء الناس، إذا نظرت
فيه كنت كأني منه في كثبان من رمال الأباطيل قد تغلغلت في ذرات شذور
الحقيقة فيتعذر أو يتعسر على المرء أن يستخلص من طيس أباطيله ذرات شذور
الحقيقة). ولكي ندخل في صلب الموضوع الذي نريد الخوض فيه أي ما يلتقي عليه
الرصافي وجلكرايست نبدأ من الصفحة 576 من كتاب "الشخصية المحمدية" حيث نجد
فصلا بعنوان كم عدد سور القرآن يذكر فيه الرصافي "إن عدد سور القرآن كما هو
في المصاحف المتداولة بين الناس مائة وأربع عشرة سورة. قال صاحب الإتقان:
وعلى ذلك أجمع من يعتمد به من أهل العلم. غير أن بعضهم عد الأنفال وبراءة
سورة واحدة، وقال: إنما لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم لأنها من
يسألونك، أي من الأنفال…. وفي مصحف ابن مسعود لم تكتب المعوذتان، فبالنظر
إلى هذا يكون القرآن مائة واثنتي عشرة سورة. وزاد أبي بن كعب وهو أحد كتاب
الوحي سورتين في مصحفه وهما سورتا الخلع والحفد. أما سورة الخلع فهي "اللهم
إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك"، أما
سورة الحفد فهي "اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو
رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق". ماذكره الرصافي هنا هو بالضبط
ما يشير اليه جلكرايست في الفصل الثالث من كتابه. ثم ينتقل الرصافي إلى
آيات الرجم في الصفحة 581 وهي ماذكره جلكرايست في الفصل الرابع من كتابه
تحت فقرة عمر وآيات رجم الزناة جاء فيها:( واحدة من أشهر النصوص التي
ترويها الأحاديث وقد فقدت من القرآن هي ما يتعلق (بآيات الرجم)، فيما قاله
محمد عن الأمر برجم الزناة المحصّنين ( أي المتزوجين رجالا كانوا او نساء)
حتى الموت. تقول الروايات إن الخليفة الثاني للمسلمين عمر هو من لفت انتباه
المسلمين إلى تلك الآيات المفقودة، وذلك في إحدى خطبه على المنبر في مسجد
المدينة ورواها على الشكل التالي:
أن الله أرسل محمداً (ص) بالحق وأوحى له بالكتاب المجيد، ومن ضمن ما أوحى
له كانت آية رجم المحصّنين إناثا كانوا أو ذكورا عند ممارستهم الزنا، وكنا
نتلوا هذه الآية ونفهمها ونحفظها عن ظهر قلب. لقد قام رسول الله بتنفيذ
عقوبة الرجم وكذلك فعلناها نحن من بعده. أخشى أنه سيقول أحدهم بعد أن يمر
زمن طوبل ( إنّا لانجد آية الرجم في كتاب الله ) عندها سيكون الضلال بترك
الالتزام بما أوحى به الله.( صحيح البخاري مجلد 8 ص 539).
ثم يذكر الرصافي في كتابه مسألة تعدد القراءات واختلافها في القرآن فيقول
في الصفحة 700 وما بعدها ما يلي: (من العجائب أنك إذا طالعت ما كتبه علماء
المسلمين من كتب التفسير وغيرها مما يتعلق بالأمور الدينية رأيتهم في
أقوالهم يعقلون ولا يعقلون في آن واحد ومسألة واحدة، تراهم إذا سلكوا
طريقاً للبحث والتحقيق يماشون العقل جنباً إلى جنب ما لم يعارضهم شيء غير
معقول مما له علاقة بالدين ولو من وجه بعيد. أما إذا عارضهم في طريقهم شيء
من ذلك فإنهم عندئذٍ يتركون العقل ورائهم ويمشون خلف غير المعقول، والشواهد
على ذلك كثيرة في كتبهم فلا حاجة إلى إيرادها. وأعجب كتبهم الإتقان لجلال
الدين السيوطي صاحب التآليف الكثيرة في كل فنّ من فنون الإسلام، فإنه في
كتابه هذا ينقل لك من الأقوال المتناقضة ما يتركك في حيرةٍ لا تدري كيف
تخرج منها، وهو عند ذكر هذه الأقوال لم يبد لك رأياً ولم يقل لك قولاً
يهديك به إلى ما تريد من نقلها أو يوجهك به إلى جهة تؤديك منها إلى غاية
مقصودة. فمثلا يتكلم في الأحرف السبعة التي تنزل بها القرآن فيأتيك فيها
بنحو أربعين قولاً لا يوافق أحدهما الآخر، ثم يذكر لك أحاديث وأقوالاً
يتفنن في صحة أسانيدها وثقة رواتها وكلها تقول لك أقرأ القرآن بألفاظ
مختلفة من المعاني المتفقة، فإذا كانت الكلمة أقبل فلا بأس أن تقرأ بدلها
تعال وهلم وعجل وأسرع، ويقول لك كل شاف كاف ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو
رحمة بعذاب." الاتقان 1/46) .- نذكّر هنا إن أحد المسائل التي خاض فيها جون
جلكرايست هي مسألة القراءات السبعة والاختلافات الكبيرة التي حوتها-،
وبالعودة إلى كتاب الرصافي وتحت عنوان أنواع القراءات نقرأ مايلي: ( وها
نحن نذكر ما تيسر من القراءات على اختلاف أنواعها، وكلها شواهد على ما
نقول، وقد نظرت فيها فتمكنت من حصرها في الأنواع الآتية:1- قراءة بزيادة.2-
قراءة بتقديم وتأخير.3- قراءة ناشئة من اختلاف اللغات.4- قراءة بتبديل
كلمة بأخرى بمعناها.5- قراءة بتبديل كلمة بأخرى ليست بمعناها.6- قراءة
بإدغام حرف في حرف. 7- قراءة بفك الإدغام. 8- قراءة المفرد بالجمع.9- قراءة
الجمع بالمفرد.10- قراءة بنقص. 11- قراءة بتغيير الإعراب.12- قراءة المثبت
بالمنفي.13- قراءة الجمع السالم بالمكسر.14- قراءة المصغر بالمكبر.15-
قراءة المكبر بالمصغر. 16 – قراءة المؤنث بالمذكر. 17- قراءة بتغيير صيغة
الكلمة إلى صيغة أخرى). أود الإشارة هنا إلى ما ذكره الرصافي في هامش هذه
الفقرة ما نصه:" اعتمد المؤلف في هذا الفصل على ما في الكشاف للزمخشري،
والإتقان للسيوطي؛ وأنظر النشر للقراءات العشر لابن الجزري، وإتحاف فضلاء
البشر في القراءات لابن البنا، والمصاحف للسجستاني". وقد أسهب الرصافي في
دراسة كل حالة ومن أراد الأمر بتفاصيله فدونه "كتاب الشخصية المحمدية" من ص
703- 736.
ما أريد قوله هنا إن هناك من سبق جون جلكرايست إلى ما أراد من كتابه "جمع
القرآن" ولم يكن بالضرورة من المغرضين الذين يتصيدون في الماء العكر طمعا
في شيء فقد توفي الرصافي في بيت متواضع لا يملكه وعاش آخر أيامه يعاني
الفاقة والعوز.
نختم هنا بما قاله الرصافي" .. ولئن أرضيت الحقيقة بما أكتبه لها لقد
أسخطت الناس عليّ، ولكن لايضرني سخطهم إذا أنا ارضيتها، كما لا ينفعهم
رضاها إذا كانت على أبصارهم غشاوة من سخطهم عليّ، وعلى قلوبهم أكنة من
بغضهم إياي. وإنما أنا وهم كما قال الأول:
نحن بما عندنا وأنت بمــــــــــا عندك راض والآي مختـــلــفُ
السبت مايو 05, 2012 8:34 pm من طرف nudaali