غياد داؤد
—
منذ
أن كنت طفلاً في المدرسة الابتدائية كنت أتسائل عن الغاية من وجود رجال
بلباس مدني تحمل مسدساتها الحربية على خصورها وتتجول في الحي الفقير الذي
كنت أقطنه، ولكني لم أتسائل عن الرابط بينها وبين عمليات الاعتقالات
الأمنية التي كنت أسمع الكبار يتحدثون عنها كل مساء، ولم أك أتسائل عن
أسباب هذه الاعتقالات.
منذ أن كنت طفلاً في المدرسة
الابتدائية كنت أتمنى أن أعرف مالهدف من وجود ما كان يسمى بالعريف حسب
مصطلح المدرسين أو بالفسّاد حسب مصطلح التلاميذ. ذلك التلميذ الذي كان
يجلس على كرسي المعلم خلف الطاولة الاسمنتية ويكتب بشكل سري أسماء
التلاميذ الذين سوف تتم مجازاتهم عند مجيء المعلم.
منذ
أن كنت في المرحلة الابتدائية كنت أتمنى أن أنتقد صور المعلم الأول
والجندي الأول والفلاح الأول والعامل الأول التي كانت تملأ أغلفة الدفاتر
وكتابي العلوم والقراءة وأبواب المدارس ودار السرايا والطرق الرئيسية. كنت
أتمنى أن أفعل ذلك دون أن توبخني العائلة من كبيرها لصغيرها لتجرأي على
هذا الرمز الالهي.
منذ أن كنت طفلاً في المدرسة الابتدائية كنت أتمنى أن أفهم معنى الشعارات التي كنا نرددها كالببغاوات كل صباح
أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، أهدافنا وحدة حرية اشتراكية، قائدنا الى
الأبد الأمين حافظ الأسد) وأكثر ما يدوخني حتى الآن هو أنني كنت أحفظ عن
ظهر قلب شعار (كن مستعداً دائماً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد
والدفاع عنه، الرد : مستعداً دائماً) دون أن أعي ماذا يعني ما أقول وأردد.
منذ أن كنت طفلاً في المدرسة الابتدائية كنت أتمنى أن أعرف ما هو الحزب
العملاق الذي كنا نغني له (سبعة نيسان يا رفاق ميلاد الحزب العملاق يا
طلائع بعثية غنوا أحلى غنية يعيش يعيش يعيش).
عندما
دخلت المدرسة الاعدادية لبست البزة العسكرية وكنت أحلم كطفل في مقتبل
العمر أن أغير ولو لمرة واحدة لون الحذاء أو حتى لون الجوارب الأسود
الاجباري. ولم أع أيضاً لماذا تم تنسيبي كعضو نصير في اتحاد شبيبة
الثورة، وحتى أنني لم أك أعرف نوعية الثورة والأهداف التي تناضل في سبيل
تحقيقها هذه الثورة، ولكن تم تنسيبي دون اذن مني وحصلت على رقم شبيبي.
منذ
أن دخلت الى المدرسة الاعدادية تعلمت شعاراً جديداً أصبحنا نردده أيضاً
كالببغاوات (عهدنا أن نتصدى للامبريالية والصهيونية والرجعية وأن نسحق
أداتهم المجرمة عصابة الاخوان المسلمين العميلة) ولكن غاب عن ذهني أن
أسألهم متى سنتصدى للصهيونية وكيف؟ أليس من الأجدر بنا أن نقطع رأس الأفعى
عوضاً عن خلع نابها؟؟ أليس من الأولى بنا أن نسترجع ما اغتصبوه من وطننا
بقوة السلاح بدلاً من أن نشق حناجرنا بالصراخ والتهديد والوعيد؟؟؟ كل هذه
الأسئلة غابت عن ذهني في المرحلة الاعدادية.
منذ
الأيام الأولى لدخولي للمرحلة الثانوية أعطوني ورقة لأملأ بها طلب انتساب
لحزب البعث العربي الاشتراكي دون أن أطلب منهم فعل ذلك، ولكنهم لم يتذكروا
أن يسألوني عن رغبتي بدراسة الفرع العلمي أو الأدبي في العام التالي حتى
آخر أيام امتحانات الصف العاشر.
عندما كنت في
المدرسة الثانوية كنت أخرج قبل بزوغ الفجر الى الفرن الآلي الوحيد في
الحي، والذي تعود ملكيته لأسرة مكونة من ضباط وأعضاء مجلس شعب، في هذا
الفرن كان يتم التعامل معنا نحن الزبائن كمجندين اجباريين من قبل العساكر
الذين كانوا يقضون خدمتهم الالزامية بالعمل فيه. أمام كوة هذا الفرن كنت
أتمنى نفسي بأن أكون قادراً على أن أرفع رأسي بالرفض أمام أصغر مجند في
المخابرات عندما يدفعني من أمام كوة أحد أفران الخبز ليحتل مكاني بعد
ساعتين أو ثلاث ساعات من الذل بانتظار رغيف الخبز.
منذ
أن أنهيت المرحلة الثانوية كنت أتمنى أن أعرف مالذي يميز هؤلاء الذين
يحملون درجة العضوية العاملة بالشبيبة عنا نحن حتى يحصلوا على درجات
تؤهلهم لدخول الفروع الجامعية الممنوعة على أمثالهم من الطلاب الذين نالوا
ذات الشهادة الثانوية وفق ذات الدرجات.
منذ أن دخلت
المرحلة الجامعية كنت أتساءل عن السبب الذي يدعي الموظف المسؤول عن اتمام
عملية التسجيل الجامعي عن وضعي ان كنت منتسباً لحزب البعث أم لا، وكنت
أتساءل عن سبب ارسال الطالب الى فرع حزب البعث في الجامعة في حال كان جواب
الطالب بالنفي.
عندما كنت طالباً في الجامعة كنت
أتساءل عن عملية الربط بين أن يكون الطالب بعثياً وعملية أن يتم ترشيحه
للهيئة الادارية التي لم أفهم الغاية من وجودها في جامعاتنا حتى الآن،
طالما أنها كانت غير قادرة على الحل والربط دون مرجعية فرع حزب البعث في
الجامعة.
منذ أن كنت طالباً لم أك أفهم مالغاية من
وجود اتحاد للطلبة وهيئة ادارية طلابية و فرع أمني وفرع بعثي ورئاسة للقسم
الجامعي وعمادة للجامعة عندما يقوم دكاترة الجامعات بوساطة بعض القوادين
من الطلاب ببيع موادهم على عينك يا تاجر أمام كل هذه القيادات واللجان.
عندما
كنت طالباً جامعياً لم أك أعرف الغاية من وجود فرع لحزب البعث في المدينة
الجامعية طالما أن هذا الحزب العريق يمتلك فروعاً في كافة المعاهد
والجامعات التي يدرس فيها كافة الطلاب. عندما كنت طالباً جامعياً لم أك
أدر مالهدف من وجود عناصر أمنية يقضون نهارهم وليلهم بشرب المتة وتطبيق
الطالبات وارهاب الطلاب.
عندما أنهيت دراستي الجامعية
لم أك أعي لماذا كانوا يكتبون على طلب التوظيف الذي كنت أقدمه للعمل في
المديرية العامة للآثار والمتاحف، معتمداً على شهادتي الجامعية وخبرتي
العملية (موافقة مع عدم توفر المخصص المالي) رغم افتقارهم للكوادر
الأثرية، وفي ذات الوقت كان يتم توظيف بعض حملة الشهادات الثانوية من فرع
الفنون النسوية وأصبحت أسمائهم تندرج في العديد من تقارير البعثات كأعضاء
فاعلين برعاية من المدير العام للآثار والمتاحف ومدير التنقيبات والدراسات
الأثرية. ولم أفهم لحد الآن لماذا كان علي بأن أسجل نفسي في مديرية الشؤون
الاجتماعية طالما أن هذه المديرية لم تسأل عني منذ تسجيلي في العام 2002
وحتى اليوم.
عندما يئست من الوضع في وطني ومن قيادته
الحكيمة وقررت أن أذهب للعمل ومتابعة دراستي الجامعية العليا في الخارج لم
أك أفهم لماذا علي أن أحصل على اشراف الدولة على دراستي طالما أنها لا
تفيدني لا براتب ولا بمساعدة سكنية ولا بالحصول على عمل ولا حتى بأدنى
المساعدات العلمية وحتى أنهم يكتبون في رسالة الموافقة على الاشراف بأنهم
لا يتعهدون لا بتعديل الشهادة ولا بالتوظيف بعد العودة للوطن.
بعد
أن مر عام بأكمله على اندلاع الثورة السورية، لم أفهم لماذا علي أن أؤيد
هذه القيادة الحكيمة التي ملأت حياتي بكل هذه المنجزات من الذل والتساؤلات.