يبدو أنّ التّشريحيّين القدامى سواء في الشّرق أم في الغرب لم يولوا اهتماما بالبظر، ولم يصفوه في ما حبّروا من مطوّلات عن الجهاز التّناسليّ. فنحن لا نجده يذكر في “قانون” ابن سينا إلاّ مرّة واحدة، ويبيّن لاكور أنّ اهتمام التّشريحيّين الأوروبّيّين به لم يبتدئ إلاّ في القرن السّادس عشر.
وقد أدّى لاكور وظيفته باعتباره مؤرّخا ذا نزعة اسميّة بالأحرى (nominaliste، ولنقل بشيء من التّبسيط إنّه يميل إلى اعتبار الأشياء غير موجودة مادامت غير مسمّاة) فاهتمّ بالبظر في العصر الذي بدأ فيه العلماء يهتمّون به ويذكرونه صراحة. حتّى إنّه ذكر بعض تشريحيّي القرن السّادس عشر، ممّن كانوا تحت تأثير التّجريبيّة الصّاعدة، وممّن ادّعوا “اكتشاف” البظر. ذكر من بين هؤلاء كولومب Colomb، وقال مازحا إنّه “ليس كريستوف كولومب مكتشف أمريكا، بل رينالدوس”. وأضاف أنّ هذا الاكتشاف “امتصّه” نموذج الجنس الواحد، وقد توصّل إلى التّعايش مع “هذا النّظير الغريب الآتي من مجرّة مفهوميّة أخرى”(1).
هل يتعلّق الأمر بمجرّة أخرى، وهل هي ذات طبيعة “مفهوميّة” فحسب؟ قبل أن يوجد البظر في تنظير الأطبّاء والتّشريحيّين، وفي “مجرّة اخرى”، هو موجود في جسد المرأة، وفي جهازها التّناسليّ الذي أرادوا أن يروا فيه “مقلوب آلة الذّكران”. هذا النّظير المنافس الغريب كيف يمكن أن تبتلعه نظريّة العضو الذّكوريّ المقلوب بيسر؟ كيف يمكن أن تبتلعه دون أن تفضح جزءا من المكبوت الذي تأسّست عليه، ودون أن تضطرّ إلى سدّ باب التّناقضات النّاجمة عن كثرة أعضاء المرأة وإفراط “جنسانيّتها”؟
السّؤال المطروح إذن هو : هل المرأة رجل “مقلوب” لأنّ لها أيرا داخليّا مقلوبا، أم أنّها رجل ناقص لأنّ لها عضوا صغيرا ناتئا يشبه الأير؟ لا شكّ أنّ الفرضيّين يمكن أن “يمتصّهما” التّفكير الهووي الذي يخضع المرأة إلى نموذج قضيبيّ ذكوريّ، وتغيب فيه المرأة باعتبارها “مقولة أنطولوجيّة” مستقلّة، ولكنّهما فرضيّتان متعارضتان على أيّة حال في نطاق المنظومة المعرفيّة نفسها.
متعارضتان تعارضا صامتا، فنحن لا نجد تفكيرا صريحا في هذه الأسئلة، بل نجد حلولا مقدّمة بدون تعليل، متناثرة في النّصوص أو محفوظة في ذاكرة دوالّ اللّغة، لما أسلفناه من أنّ التّفكير، لا سيّما التّفكير في الجنسانيّة، منغرس في اللاّمفكّر فيه، أي في اللاّشعور كما فهمه فرويد، وباعتباره قائما على عمليّة الكبت ورفض التّفكير.
لا مكان للبظر في نموذج الجنس الواحد، لأنّ للأير عند الرّجل نظيرا واحدا هو الأير المقلوب عند المرأة، فهو عضو محرج لهذه النّظريّة، ولكنّنا سنبيّن كيف أنّه عضو محرج خارج هذه النّظريّة أيضا، وأنّ هذه النّظريّة كانت مرآة انعكست عليها كلّ مظاهر الخوف والوحشة والارتياب من الجسد الأنثويّ.
لنذكّر أوّلا بأنّ هذا العضو ليست له من وظيفة سوى إنتاج اللّذّة، فهو لا يساهم -بصفة مباشرة على الأقلّ- في عمليّة التّناسل. إنّه صغير إلى حدّ أنّه يعدّ “هَنة” (اللّسان، بظر)، ولكنّه بارز من الفرج وبارز للعيون، ويمكن له أن ينتصب، وليس وهميّا مفترضا كالأير المقلوب، ولذلك فهو يمثّل منطقة ذكوريّة صغيرة داخل الجسد الأنثويّ. وهو يشبّه بـ“عُرف الدّيك”، علما وأنّ “العرف” ينسب أيضا إلى الأسد وإلى وحوش أخرى، وهو ما يزيد في تأكيد ذكوريّة البظر. وما نلاحظه هو أنّ هذا العضو لا يكتسي أهمّيّة ولا يذكر إلاّ في مجالين مبصومين بالسّلبيّة : مجال الإخصاء الواقعيّ (الختان)، ومجال التّشوّهات الخلقيّة.
إنّ بعض الدّوالّ العربيّة تذكر عمليّة قطع البظر، وما يوافقها لدى الذّكور. وهي تقيم تناظرا بين العضو الذّكوريّ والبظر من ناحية، وتناظرا بين القلفة والبظر من جهة ثانية، وتجعل العضوين عرضة إلى الإخصاء. فقد اعتبر العرب الصّبيّ الذي لم يختن “أبظر”، وأطلقوا اسم “القلفة” على الجلدة التي تقطع من الصّبيّ والطّفلة. [2] وعنَوْا بـ“الختان” عمليّة القطع الواقعيّ المعروف، ولكن عنوا به أيضا “موضع القطع من الذّكر والأنثى”. فالتّشريح وحده لا يكفي للتّمييز بين الجنسين، لأنّ الازدواجيّة الجنسيّة توجد في مستوى العضو نفسه. لا بدّ أن يتدخّل عامل الإخصاء باعتباره وسما يمكن أن يكون القطع الواقعيّ ممثّلا له، فيكون “التّجنيس” sexuation تنازلا عن الأندروجينيّة الأصليّة من شأنه أن يوقف لعبة النّظائر المرآتيّة هذه، وتتوقّف هذه اللّعبة بعد أن يتمّ قطع ما أو تظهر إمكانيّة قطع ما، قطع لما يذكّر بالفرج الأنثويّ لدى الذّكر، ولما يبدو على شاكلة العضو الذّكوريّ لدى الأنثى.
وكما يوجد البظر في قلب مشهد الإخصاء، نجده محورا لكلّ المخاوف النّاتجة عن انعدام الإخصاء وعن التّداخل في الاتّجاهات الجنسيّة أو في الهويّات الجندريّة. وفي هذا السّياق أيضا، يعدّ البظر مضاهيا للعضو الذّكوريّ. فهو كبير الحجم عند صنف من النّساء أطلقوا عليهنّ صفة “البظراء” أو “العُنبلة” (اللّسان، عنبل)، وهو يهدّد نظام التّغاير الجنسيّ، لأنّ العرب القدامى، شأنهم في ذلك شأن الغربيّين، اعتبروا طوله سببا من أسباب المثليّة الجنسيّة الأنثويّة (السّحاق). ومن الملاحظ أنّ هذا النّوع من التّشوّهات يولّد صنفا من الالتباسات الجنسيّة المختلفة عن ظاهرة “المابين جنسيّين” (أي “الخنثى”)، فهذا الصّنف من المخلوقات كان أليفا نسبيّا وقد حدّد له الفقهاء منزلة قانونيّة بين منزلة المرأة ومنزلة الرّجل (مثال ذلك أنّ الخنثى يرث حسب الفقهاء نصف حصّة المرأة ونصف حصّة الرّجل). “الخنثى” كان موحشا أليفا، أمّا النّساء من صنف “البظراء” و“العنبلة” فقد كنّ يمثّلن الموحش الذي يصعب تدجينه وجعله أليفا، وإسناده منزلة قانونيّة خاصّة به. وفي العالم الغربيّ نجد تمييزا واضحا بين المرأة التي “يبرز” منها عضوها الذّكوريّ الباطنيّ، فهي يمكن أن تتحوّل إلى مرتبة الرّجل وأن يعترف لها بالتّحوّل الجندريّ من امرأة إلى رجل. [3]أمّا المراة “البظراء”، فإنّ تضخّم بظرها لا يمكن أن يلحقها بمصافّ الرّجال، بل يمكن أن يؤدي بها إلى مثليّة نسائيّة تودي بصاحبتها إلى المحرقة، شأنها في ذلك شأن السّاحرات.[4]
وتبرز التّشوّهات الخلقيّة مشاهد كائنات أنثويّة فظيعة لأنّها متعدّدة الأعضاء الذّكوريّة. هؤلاء النّسوة لهنّ بالإضافة إلى العضو الذّكوريّ المفترض، وبالإضافة إلى البظر، عضو ذكوريّ داخل الرّحم نفسه، وكأنّ البظر بنتوئه يتضاعف بنتوءات أخرى. فـ“القرقس” مثلا لحم زائد “نابت في فم الرّحم وقد يطول وقد يقصر، وإنّما يطول صيفا ويقصر شتاء”[5]، وإضافة إلى القرقس تذكر النّصوص نتوءات أخرى : منها القَرْنُ، وهو “كالنُّتوء في الرحم... وقيل: القُرْنتان رأْس الرحم” (اللّسان، قرن)، والعَفَل وهو “شيءٌ مُدَوَّر يخرج بالفرج” (اللّسان، عفل)، والرّتقاء “هي التي على فم فرجها ما يمنع الجماع من كلّ شيء زائد عضليّ، أو غشاء قويّ...” [6]وكلّ هذه النّتوءات مناظرة للبظر لأنّها يمكن أن تؤدّي إلى المثليّة الجنسيّة في نظر القدامى، أو على الأقلّ في نظر ابن سينا. ففي النّصّ الوحيد الذي ذكر فيه البظر، ذكر البظر الكبير إلى جانب الأعضاء النّاتئة الأخرى التي “تدارى بالقطع” : “فصل في اللحم الزائد، وطول البظر، وظهور شيء كالقضيب، والشيء المسمّى قرقس”. [7]
يمكن أن نقول تبعا لذلك بوجود ثنائيّة صامتة لاشعوريّة بين العضو الذّكوريّ الباطنيّ النّبيل الذي يمكن له في يوم من الأيّام أن ينبثق من باطنه تدفعه إلى ذلك الحرارة الحيويّة، ولكنّ ذلك نادر ندرة تحوّل النّساء إلى رجال، وبين العضو الذي لا جدوى منه، وهو البظر. لا جدوى منه لا لأنّه لا ينفع في الإنجاب فحسب، بل لأنّه اعتبر نتوءة زائدة على جسد المرأة، ونتوءة زائدة على جسد نموذج الجنس الواحد. إنّه شيء من واقعيّ المراة الذي يستعصي على الفهم والتّرميز.
فهل تجنّب العلماء إخصاء المرأة باستنباطهم نظريّة الفرج المقلوب، أم تجنّبوا النّظر إلى البظر؟ أم مكّنتهم هذه النّظريّة من تجنّب كلّ ما يريدون تجنّبه؟
إنّنا نعتقد أنّ اليد التي بنت نموذج الجنس الواحد منذ اليونانيّين القدامى هي نفسها التي أزاحت البظر عن مجال النّظر الطّبّيّ. لم يتمّ تعويض البظر بالفرج المقلوب، إلاّ لأنّ البظر بديل ممكن عن العضو الذّكوريّ. والعمى النّظريّ الذي جعل القدامى يرون في فرج الأنثى عضوا ذكوريّا مقلوبا يخفي عمى آخر استهدف البظر.
تصرّفت هذه النّظريّة على نحو تناظريّ معكوس : سدّ ثغرة الفراغ عندما يوجد فراغ، وقطع النّاتئ عندما يبرز من الفراغ. عندما تقترب هذه النّظريّة من ثقب المرأة، أي من فرجها النسويّ، تسدل عليه ستارا لكي ترى بديلا عنه عضوا ذكوريّا مقلوبا، وعندما تقترب من البظر، فإنّها تتصرّف تماما كما في مشهد الإخصاء الواقعيّ : تقطعه نظريّا، أي تطرحه بعيدا عن مجال نظرها، محوّلة نظرها إلى العضو الذّكوريّ الموهوم. ذلك أنّ البظر لا يقلّ وحشة عن الفرج الأنثويّ بغوريّته المخبّلة : إنّه عضو ذكوريّ، ولكنّه بضآلته يذكّر بالإخصاء8] ، وعندما يكون ضخما متمرّدا، يمكن أن يحوّل المرأة من المفعوليّة إلى الفاعليّة في العمليّة الجنسيّة المثليّة كما توهّمها الأطبّاء ومؤلّفو كتب الباه عندما تحدّثوا عن السّحاق.
لقد كان من الأيسر منح المرأة عضوا ذكوريّا مقلوبا يمكن أن يعكس على صفحته العضو الذّكوريّ المنتصب، ويبقى مع ذلك غير مرئيّ. فتحْت لافتة هذه النّظريّة “العلميّة” وضعت كلّ الهوامات المطمئنة للرّجال، من حيث أنّهم عاجزون عن “النّظر وإمعان النّظر” في ثقب المراة الغوريّ وفي عضوها الآخر الذي يرى، ويمثّل فضيحة في حدّ ذاته. هكذا كانوا متسلّحين كأحسن ما يكون المتسلّح ضدّ المرأة الفظيعة التي لا ذكر لها، فتثير قلق الإخصاء، والمراة الرّهيبة ذات الذّكر، باعتبارها مهدّدة لنظام التّغاير الجنسيّ أو مذكّرة بصور الأمّ القضيبيّة العتيقة. هذا السّلاح الباعث على شيء من الارتياح لم تكن النّظريّة الأرسطوطاليسيّة قادرة على توفيره، لأنّها نظريّة تشير إلى خصاء المرأة. ولذلك ربّما انهزمت هذه النّظريّة في عصر كانت فيه الفوارق بين النّوعين واضحة لا غبار عليها، وكانت المجتمعات في غنى عن الاختلافيّة الآتية من التّشريح والفيزيولوجيا.
ولكنّ هذه المجتمعات نفسها لم تكن في غنى عن حجاب النّساء وختانهنّ بشتّى الصّور والأساليب. كانت نظريّة الجنس الواحد ذلك المصنع النّظريّ-الهواميّ للوسوم التي ترسم على الجسد النّسائيّ محوّلة هذا الكائن الذي له أشياء جنسيّة أكثر من اللّزوم إلى رجل ناقص أو رجل مقلوب. حجب النّساء وختانهنّ كان القاعدة المعمول بها في كلّ مكان، بما في ذلك الفكر التّشريحيّ والطّبّيّ.
(1)-صناعة الجنس، ص 90 وما بعدها.
[2]ابن الجوزيّ: أحكام النّساء، تح المهندس الشّيخ زياد حمدان، مؤسّسة الكتيب الثّقافيّة، بيروت 1988، ص 35.
[3]م، ن، ص 160.
[4]مصنع الجنس، ص 322، هامش 52.
[5]القانون، 2/ 810.
[6]م، ن، 2/ 799.
[7]م، ن، 2/ 810.
[8]عندما استفاق طفل صغير له ثلاثة سنوات من التّخدير بعد إجراء عمليّة ختان عليه، علا صوته بالبكاء قائلا إنّ عضوه أصبح صغيرا كعضو البنت.
الجمعة ديسمبر 27, 2013 11:26 am من طرف مريم