المدينة
التي ستقع فيها هذه الأحداث التي سأحكيها لكم، مدينة موغلة في القدم. يقال
بأنّ تاريخها يعود إلى آلاف السنين، ولقد هدمت وشيّدت عدة مرات، ومع ذلك
فروح المدينة ما تزال هي هي : توجد على هضبة تطل على المحيط الأطلنطي، من
جهة البحر ينتصب سجن كبير بأبراجه الأربعة يجاور مقبرة يتوسطها ضريح لوليّ
من أولياء المدينة يرقد تحت ظلّ شجرة وارفة يعود تاريخها إلى قرون. أمّا
من جهة الشمال فيبدو جزء من السور العتيق المحيط بالمدينة وقد بدت هناك
مقهى مزينة بأوراق شجر اللبلاب، على واجهاتها الزجاجية المشرفة على البحر
والتي اعتاد الزوار أن يتملّوا بمنظر الأمواج العاتية التي تتصدع على صخور
الشاطئ..وبجانب السور تمتد طريق محاطة بأشجار الصنوبر رصت على جانبيها
منازل تقليدية عتيقة من طابقين امتزج فيها فن المعمار الروماني بالبرتغالي
والإسلامي، مزيّنة نوافذها الصغيرة المقوسة والمسيجة بقضبان حديدية تمثل
أشكالا هندسية جميلة…ومن أرضية المنازل تتصاعد أوراق وجذور شجر اللبلاب
ودوالي العنب لتحيط بالأبواب والنوافذ إلى أن تتشابك أغصانها حتى أنها
توحي للناظر بأنها مدينة هجرها أهلها منذ زمن بعيد…أزقتها الضيقة
والمتشعبة والتي يشبه بعضها أنفاقا أو دهاليز يحسبها المرء مخابئ للموتى
أو قبورا لملوك الفراعنة.
أما سكانها فهم يقومون
بأنشطتهم نهارا أغلبها أعمال حرفية يدوية حتى إذا مالت الشمس للغروب بدأ
يسود المدينة صمت رهيب يملأ النفس رهبة ووحشة.
ولقد كان للشعوب
التي استوطنت هذا المكان على مرّ التاريخ، أثر واضح على الذهنية السائدة
لدى سكانها إذ لا تزال ذاكرتهم تحمل عددا من الأساطير والخرافات التي طغت
على أنماط سلوكهم يتجلى ذلك من خلال الزيارات وتقديم القرابين والتبرعات
لأضرحة الأولياء والموتى خاصة متى استعصى عليهم علاج مرض أو ألمت بهم
مصيبة، وعلى الرغم من كوني أسكن خارج الأسوار حيث توجد المدينة العصرية
بمعاملها وشوارعها الواسعة وضجيج سياراتها، فقد كنت أجد ضالتي في التمتع
بهذا التراث الزاخر الذي يوحي بعظمة أولئك السكان الذين سكنوها، فكنت أخرج
في كثير من الأحيان وأتجول عبر أزقتها فأدخل إلى حوانيت ودكاكين باعة
التحف الأثرية والكتب القديمة حتى إذا ما استعصى عليّ فهم لغز ما أو عنّت
لي فكرة ما، قصدت جارتي الفرنسية الأصل "مدام روزا" التي تسكن قبالتي، وهي
سيدة عجوز مات زوجها إبان الحرب العالمية الثانية فوهبت حياتها لخدمة
الثقافة والفن الإنسانيين، هوايتها جمع التحف خاصة الكتب والمخطوطات
النادرة، ولشدّ ما كان يجذبني إلى هذه السيدة الوقور علمها وثقافتها
الواسعان في شتى ميادين المعرفة حتى أنني أصبحت واحدا من رواد مكتبتها
ومؤنسها الثاني بعد كلبها "توليب"..
كنت قبل أن
أقصد المكان المفضل عندي ليلا وهو مقهى "الأفق" الموجود على السور، أعرج
إلى بيت "مدام روزا "أطمئن على حالتها حيث كانت تشكو في أواخر سنواتها من
آلام في الظهر، ثم أتجه مباشرة نحو المقهى حيث أمكث هناك حتى ساعات متأخرة
من الليل لأعود مخترقا أزقة المدينة القديمة التي كانت تزيدني إيحاء
وإلهاما أو بعبارة أصح أصبحت واحدة من طقوس الكتابة عندي على الرغم من
كوني أتحاشى الطريق القريبة المحاذية للسور والتي تكفيني فيها بضع دقائق
لأصل إلى البيت..
ولقد تساءلت مرات عديدة عن
سبب هذا الخوف الدفين، فبدا لي أنه ربما يرجع إلى عهد الطفولة، فالطريق
المحاطة بأشجار الصنوبر التي كانت تبدو في الليل وكأنها أشباح عمالقة
تترصد لكل مار، ربما يعود إلى تلك الزيارات التي كان يقوم بها والدي لعمتي
وهو يحملني خلفه على دراجته الهوائية، عائدين ليلا..فكنت أسند رأسي على
ظهره وألف يدي حول خصره وأنا مغمض العينين حتى لا يتراءى لي منظر ذلك
السور الذي سمعت عنه حكاية رواها والدي ذات يوم لوالدتي مفادها أن بعض
الفقهاء السوسيين قدموا من أقصى الجنوب واستولوا على كنز ثمين كان مطمورا
تحت أسوار المدينة، إذ مكث هؤلاء مدة ثلاث ليال وهم يعزمون ويقرؤون تعاويذ
وتراتيل ويبخرون إلى أن صرعوا تلك العفاريت التي كانت تحرس الكنز، وبعد أن
قيدوهم بالسلاسل أخذوا الصناديق الحديدية والتي كانت مملوءة عن آخرها
بالذهب والياقوت والمرجان، ولم يعثر لهم على أي أثر…
وذات
ليلة من ليالي الصيف القائظ حيث كان ضوء القمر جاثما على المدينة الهادئة
وبينما أنا عائد كعادتي عبر تلك الزقاق الضيقة إذا بي أسمع عواء كعواء ذئب
جائع، وكلما كنت أتوغل داخل المدينة كان الصوت يزداد قربا مني، ولم أكد
أبلغ زقاقا ضيقا حتى لمحت شبحا لرجل كان يرتدي معطفا داكنا، لم تكن ملامحه
بادية إلا أن الصوت كان يصدر منه..توقفت وأنا مذعور من هول ما يحدث
حولي..دققت النظر..تحرك الشبح قليلا..ويا للهول، فلقد كان رأسه رأس ذئب
وقد غطى الشعر كامل وجهه وبرزت أنياب حادة من شدقيه، أما عيناه فكانتا
تلمعان اصفرارا تحت ضوء القمر…استدرت بسرعة وانطلقت كالمجنون أجري بكل
قواي صاعدا الزقاق، كنت في تلك الأثناء أسمع وقع خطواته التي كانت تصدر من
قوائم وحش ترتطم بالأرض الصلدة مما كان يزيد ني رعبا وهلعا..
دخلت
إلى زقاق آخر، وما أن بلغت وسطه حتى بدا بدون مخرج إذ ينتهي إلى منزل ذي
باب خشبي مهترئ..استدرت لأعود من حيث أتيت إلا أن الشبح كان يواجهني وهو
منتصب في مدخل الزقاق يعوي بكل قواه ورأسه نحو السماء..اتجهت نحو
المنزل..خبطت على الباب وأنا أستغيث..دفعته بكل قواي ولحسن حظي شرع ينفتح
شيئا فشيئا على الرغم من الأعشاب البرية التي كانت تتخلل شقوقه…
دخلت
أخيرا وأغلقت الباب من ورائي..كان عواء الذئب قد توقف آنذاك..اتجهت إلى
فناء المنزل الذي تتوسطه نافورة ماء نبتت في حواشيها حشائش طفيلية، وفي
ركن يوجد بئر تقليدي وقد غطي بقطعة من خشب عليها دلو مصنوع من جلد
ماعز. وفي لمح البصر، اهتز قلبي لحشرجة الدلو الذي تدحرج من أعلى البئر ثم
تحركت قطعة الخشب حركة جعلتني أجمد في مكاني، إذ لمحت يد الوحش السوداء
الكثيفة الشعر وهي تزحف متلمسة حوافي البئر، لم أشعر إلا وقد قفزت نحو
السلم المؤدي الى سطح المنزل، وأخيرا وجدت نفسي أشرف على الشارع الطويل
المطل على السور المخيف…
كان عليّ أن أنزل متسلقا
أغصان الدالية المتشعبة والمتشابكة مع الأسلاك الشائكة، ولم أكن أشعر بأي
ألم غير أن يدي كانتا مبللتين بسائل لا أعرف مصدره…
قفزت أخيرا
إلى الشارع وانطلقت أعدو بكل قواي وفي غير اتجاه…كان عواء الذئب يتجه صوب
مسمعي وأنا أجري تحت ظلال أشجار الصنوبر بجانب السور..سمعت
هدير محرك سيارة من خلفي، استدرت..كانت سيارة أجرة..اندفعت نحو وسط الطريق
أشير بكلتا يدي مستغيثا، إلا أن السائق لم يبال بي ..كان عواء الذئب قد
توقف آنذاك..
تابعت طريقي وأنا ألهث كفريسة في آخر لحظات من
مصيرها إلى أن بلغت ساحة شاسعة، أبصرت في آخرها دكانا مغلقا يصدر ضوء من
إحدى كواته ..قطعت المسافة على الرغم من تعبي الشديد إلى أن وصلت
الدكان..لم يكن الضوء المنبعث إلا انعكاسا لأشعة القمر على إحدى صفائح
الدكان…أصبت برعب شديد، وقد زاد من هذا الرعب تلك الرائحة النتنة التي
كانت تغرق المكان..توجهت خلف الدكان وإذا بي أصاب بالغثيان، إذ لاحت لي
جثة آدمي متعفنة متحللة بجانبها فأر ضخم في حجم قط يقضم جزءا منها..توقف
عن الأكل….توجه الي بنظرة شزراء …تقدم نحوي خطوات…بحثت حولي علّني أجد ما
أدافع به، إلا لأنني أصبت بشلل أحسست معه كصنم من الحجر متسمر بالأرض..كان
شعاع مخيف ينبعث من عيني الوحش وهو يتوجه الي قائلا:
-"هكدا غدي إيكون مصيرك..
سألته وأنا أرتجف خوفا:
-"واشنو اعملت؟
- أجاب متوعدا:
-" أنت..ديما كتعد علينا..كتخرج بالليل..أوكتخطا أولادنا.".
قلت متوسلا:
-" والله ما سبق لي تعديت على شي حد منكم".
قال:
-ما اعرفتيش أحنا هما سكان لمدينة…؟؟
قلت:
-" دابا أنا كنطلب منكم التسليم والسماحة."..
في
هذه اللحظة بالذات، أحسست بوخزات في رجلي سمعت على إثرها صخبا وصياحا حادا
لفئران وجرذان من كل الأحجام تملا الساحة الشاسعة…نظرت حولي فإذا بي أجد
نفسي وسط بحر من الجرذان، دوّت صيحة قوية بعدها بداخلي واهتززت من فراشي
..كان قلبي يدق بسرعة فائقة والعرق يتصبب من كامل جسدي..
أشعلت
على التوّ الأباجورة..كانت أشعة الشروق قد تخللت شقوق نافذة حجرتي…فتحت
النافذة وألقيت نظرة على الشارع لأجد سيارة إسعاف متوقفة وجمهرة من سكان
الحي متجمعة أمتم منزل جارتي "مدام روزا"…لبست معطفي بخفة ونزلت أجري عبر
سلم العمارة إلى أن بلغت الشارع… سألت حارس العمارة عما حدث، وكم زادت
دهشتي لمّا أخبرني بأنّ "مدام روزا"وجدت مقتولة في بيتها هذا الفجر..لقد
سرقها لصوص الليل بعد أن سمّموا كلبها، ثم سألني الحارس مستغربا:
-"ألم تكن تسمع كلبها يئنّ ويعوي طيلة الليلة…لقد كان المسكين يتألّم من جرّاء السمّ الذي كان يقطع أحشاءه".