الجسد الراقص والمقدس في المسرح
د. قاسم مؤنس
عندما يرقص الانسان يستعمل جسده لتنظيم الفضاء واعطاء ايقاع للزمان يرى
العالم ( الكسندر لوود ) في كتابه ( اللذة ) ان المجتمع الذي نتجلى حضوره
الفعلي في العائلة ، والذي يسميه حضارة بالمعنى الواقع بتوجيه الى السلطة
لا الى اللذة مما يجعله يقلب نظام القيم الطبيعية . ومن ثم فان السلطة
توازي الانا عند (فروي) بينما تقف اللذة في موازاة الجسد وبما ان ان
الحضارة تركز على الانا فانها حضارة شيطانية تعارض الطبيعة الانسانية
لانها تحقق انقساماً بين الجسد (اللذة = الخير) والانا (السلطة = الشد)
بعبارة اخرى اننا نشبه الدكتور (فاوست) لاننا على استعداد لاستقبال
نموذجات الشيطان الذي يعيش في كيان كل منا على شكل (انا) يعمدنا بتحقيق
اللذة على شرط ان تكون في خدمته . وهذا يعني ان هيمنة الانا على الفرد هو
اغراء شيطاني للطعية الانسانية . لذلك ان الانا لم يوجد خطاً ليكون سيد
الجسد ، ولكن ليكون خادمة المطيع والمخلص . وعلى عكس الانا فان الجسد يتوق
للذة لا الى السلطة اي ان الذة الجسد هي اصل كل سعادة وكل تفكير . اذن ان
الجسد عنصر مادي قابل للهلاك وعلى عكس الفكر ونتاجه الذي يظل قائماً . وفي
نظر (فرويد) الجسد يوازي (اللاوعي) على اعتبار ان التقابل بين السلطة
واللذة يقودنا الى التناقض القائم بين الانا والجسد ، حيث يتجلى الاول
كممثل للذات الواعية ، بينما يقف الجسد ممثلاً للذات اللاواعية ، الشيء
الذي وضع المجتمعات الغربية الاهتمام بالجسد في المسرح اهتماماً كبيراً في
جميع حالاته وكما اهتم المسرح الاسيوي باحساسات الجسد والعواطف وبروح
الجسد وتأدية الطقوس كممارسات جماعية وكما استخدم الرقص كعلاج لبعض
الحالات المرضية لذلك فان اولوية التعبير الجسدي موجودة وحاضرة في حياتنا
وسلوكنا اليومي ، حيث ان المسرح والسينما والتلفزيون والاعلانات والصور
والمجلات لغرض الجسد الموضوع هو الذي كان ولم يزل حاضراً في فضاء الحضارات
الانسانية منذ القدم، عيد الشعائر والطقوس الولثية او المقدسة التي
مارستها كل الحضارات من خلال (الاحتفال) الذي شكل العامل الاول للنشوة
والاشراق والصراع والجاذبية عبر الرقص لانه يرتبط بالشعائر القديمة ، حيث
هي الاصل في المسرح وبما ان الانسان عندما يرقص يستعمل جسده الراقص الخاص
لتنظيم الفضاء واعطاء ايقاع للزمن اي انه يطي صوتاً داخلياً يقول له وقف
وارقص الى ان تنبعث قوة سحرية تنبثق فيها الحياة والعاطفة والعافية كما
تذوب وحدة الانا (الذات) وتسود وحدة المجموعة وهكذا فأن الرقص يعد منذ
القدم كظاهرة مقدسة وسرية ، وانه قد أخذ ابعاداً خاصة حسب الحضارات التي
ينتمي اليها ، الا ان غايته الاساسية هي البحث عن المقدس والسير نحو الافق
الذي تلتقي فيه السماء بالارض من خلال جسد ذلك الممثل لهذا عندما حاول
المسرح الحديث توسيع افق ممارسته لجأ الى استخدام واسع الى الجسد والتركيز
على قيمة الصورة والاحساس والتوتر الدرامي للانتاج الفكري ، وهذا ما جعل
مثلاً المسرح الحديث (مسرع صدمة) يعتبر فعلاً التمرد ، ويعارض التحرير
القائم على الحلم بالتكيف الذي يفرضه الواقع لذلك دعا (آرشو) الى ضرورة
تجاوز المألوف وتمرير الجسد عبر الصدمة البدائية ، الشيء الذي ادى
بالدراما الحديثة الى العودة للاشكال البدائية المقدسة في المسرح اذ يلتقي
فيها الارتجال باللامنطق ، كما يلتقي الزائف ما بالاصل وهذا اللقاء لايتم
الا عبر جسد الممثل ، والذي قال عنه (رولان بارت) (ان جسد الممثل هو حجر
المحك وحجر عثر وعن طريقه ؟؟ يحدث شيء في الفضاء المفتوح للمسرح) وهذا
الجسد يستطيع ان يعتم هذا الفضاء المسرحي او يضيئه ، لكن لا يستطيع فعل
ذلك الا عبر دلالات وشفرات ورسائل تصدر من قبل الممثل ، اذن ان المسرح هو
مكان التقمص اللامنتهي يكون فيه الجسد مضاعفاً اي في الوقت نفسه جسد حي
منبثق من طبيعة مقدسة ، ذات بلاغة دلالية في الفضاء المسرحي حين يدرك
المثل اجزاء جسده بها لانه كنية كبيره للعلامات، وهذا ما جعل من جسد
الممثل الغربي جسداً (فيزيولوجياً) لاجسداً تشكيلياً مما ادى به الى
ممارسة مميزة داخل فضاء المسرحي لان المسرح فن يهيب الجسد وينزعه في الوقت
ذاته. لذلك يعتبر الجسد في المسرح اساساً ومحتملاً ، اساسياً ؟؟لا نستطيع
امتلاكه ومحتملاًً بمعنى انت لا تستطيع امتلاكه . حتى ان تعامل مع الجسد
عبارة عن نتاج ذات دلالات مقدسة دوماً من اجل خلق جماليات العرض المسرحي ،
بحيث يصبح جسد الممثل جسداً ناقلاً الى العلامات يتوق اليه المتفرج ويرغب
فيه ، وكذلك يندمج فيه في هذا الصدد تعمل التراجيديا على القاء حركة الرأس
اما الدراما السايكلوجية فأنها لا تعتمد سوى اليدين والوجه، في حين تعطي
الاشكال الحديثة في المسرح اهمية كبرى لحركية الجسد في شموليته المقدمة من
خلال انتاج المعاني لانه عبارة عن ترسانة كبيرة من الايماءات والحركات
الرمزية، وان لديه لغات متعددة ينبغي على المتلقي ان يفكك رموزها. وهكذا
ينتقل من جسد ليتحدد بدقة عبر الجلد والاعضاء الى جسد غير متفرد تتحول
كلياً حدوده ووظائفه بحيث تنمحي فيه التضاريس الاجتماعية والذهنية لتبرز
الحدود الجديدة لما يسميه (ياختين) بالجسد المشفر.