[size=32]الابستمولوجية بين الحسية والعقلية[/size]
يعتبر جون لوك الواضع الحقيقي لنظرية المعرفة ، والتي سرعان ما تطورت واتخذت صورا شتى كلها على اتفاق رفض المعرفة الاولية السابقة على كل تجربة ، وانكار الفطرة مصدرا للعلم بل غالى بعض اتباع هذه النزعة الحسية ، فأنكروا المعرفة العقلية المجردة واسرفوا في الاعتماد على الحس الخالص كمصدر للمعرفة ، وقد اضلعت هذه المدرسة مهاجمة المذهب العقلي المجرد في احصن معاقله ، ومن اشد العارضين لها سبنسر استورت مل و هيوم الشكاك الشهير ، وهو يعد من غلاة الحسيين واشدهم تطرفا ، ولكن من هؤلاء الحسيين ممن توسعوا في معنى التجربة حتى جعلها شاملة للتفكير كــ جون لوك المؤسس الحقيقي لنظرية المعرفة .
ويعد مقال لوك وهو اهم كتبه مؤلفا ضخما ، تتجلى في تشعباته وتكرارته علامات تدل على انه كتب على اجزاء متقطعة في فترة استغرقت بضعة اعوام ، واسلوبه واضح غير ان لوك لم يكن حريصا فيها يختص بالتفصيلات كما انه لم يكن متسقا دائما مع نفسه او دقيقا في استخراج النتائج الكاملة ، التي ينطوي عليها موقفه وعليها ، هذا كله فثم مشكلات فلسفية كثيرة مازالت ملاحظاته عنها على الاقل نقطة بداية لا تخلو من قيمة .
وينصب اهتمام لوك الرسمي على نظرية المعرفة ، وهدفه على حد قوله هو البحث في اصل المعرفة الانسانية ويقينها ، ومداها مع التعرض للاسس والاعتقاد والراي والاتفاق ودرجاتها ايضا ، وهناك وراء هذا البرنامج الرسمي التحليلي التفسيري ما يكمن ان يعد مذهبا ميتافزيقيا ، غير منظم ويكاد يكون لا شعوريا ولكنه يؤثر في مجرى ذلك البرنامج تأثيرا عظيما ، وان لوك يعتقد انه لا ينبغي للفلاسفة المضي في بحثهم متجاهلين العلوم الطبيعية تمام التجاهل ، بل انه يعتقد بأنه ينبغي لهم أن يضعوا في اعتبارهم تأثير الكشوف العلمية على معتقداتهم الخاصة وعلى الاراء العادية ، التي تعبر عن الذوق الفطري غير انه في الواقع ذهب الى ما هو ابعد من ذلك بكثير ، وصعوبات لوك بالنسبة للمعرفة بتعريفها على انها ادراك الترابط والاتفاق ، او الاختلاف والتنافر في اية فكرة من افكارنا ، فانه مرغم على اضافة هذا التحليل المتناقض بأن افكارنا ينبغي أن تدرك ايضا على انها تتفق مع حقيقة الاشياء ، ومن ثم لا يجيب عن السؤال الناتج عن ذلك وهو كيف يمكن وفقا لمبادئه ان يحدث ذلك الادراك الحسي الاخير ؟
وانه ليبدو احيانا كأنما عقيدته هي أن المعرفة اذا شئنا الدقة لا يمكن ان تكون الا عن علاقات الافكار بعضها بالبعض الاخر فحسب ، ولكن حتى اذا كان الامر كذلك فليس من الواضح كيف يمكن ان يقبل لوك دون الوقوع في التناقض مسألة امان الوصول الى رأي سليم فيما يختص بالعلاقة بين الافكار ( وحقيقة الاشياء ) ، ان تلك الصعوبات الكبرى التي تكتنف موقف لوك تنشأ عند مبدئه الاساسي ، الا وهو أننا نستطيع فعلا ومباشرة ان نعني مضامين أذهاننا فحسب ، وعلى هذا النحو أصبحت الافكار في مذهبه هي بمثابة ما قد سمي بالستار الحديدي الملاحظ والعالم ، أن تأثير لوك هو أنه جمع خيوط التفكير الرفيع السائد في عصره حيث وضع في اعتباره المشكلات الجديدة التي اثارتها الفلسفة الديكارتية ، وقد كانت الصورة العامة للعالم التي يحتلها بعد قيامه ببحوثه في نظرية المعرفة بعينها .