مطاع صفدي: فيلسوفُ التفكيك والبناء
جوزيف معلوف |
| |
مقدّمة أودّ في بداية هذه الأمسية الفكريّة أن أوجّه كلمة شكر وامتنان إلى هيئة الحركة الثقافيّة التي عوّدتنا منذ انطلاقتها على تكريم روّاد الفكر في لبنان والعالَم العربيّ، لتسليط الضوء على روائعهم في حقل المعرفة. ويَسُرّنا اليوم أن نتحلّق حول عَلمَين كبيرين من روّاد الفكر والنهضة في الشرق، مطاع صفدي وجورج طرابيشي. علمان وقفا حياتَهما في خدمة الكلمة الحرّة من أجل تَحرير الإنسان في هذه المنطقة من الظلاميّة القسريّة التي غرّبته عن ذاته وأرغمته على العيش في الذُلّ والمهانة. ويشرّفني أن أطوف، ولو باقتضاب، في رحاب فكر الصديق مطاع صفدي لأستلهم تَجربته الفلسفيّة الفريدة، التي ما برحت حتّى الآن تترصّد كلَّ فِكرٍ يسترخي في التبعيّة والامتثاليّة والماضويّة. مطاع صفدي فيلسوف يَخفي في داخله ثورةً عارمة، ثورةَ المثقّف المشرقيّ الأصيل الذي اكتشف باكرًا مواطن التصدّع والانْحلال في جسم الإنسان في هذه المنطقة من العالَم. فراح، من دون كلل، يذود عنه بقلمه المعبِّر، مستخدمًا ثقافته الواسعة، ليَعمل على هَدم المحرّمات من أيّة جهة أتت وتفكيك ما يبدو للعِيان جليًّا وواضحًا. مطاع صفدي فيلسوف يتحاشى عن التملّق، يرتاب من المسلّمات، ينهال على القارئ دون هوادة. اتّخذ الفكر النقديّ والتفكيكيّ سبيلاً، إذ من دون هذا الفكر، في رأيه، تقبع الشعوب في رتابة مُمِلّة، تستسيغ ماضيها، وتذهب ضحيّة الوهم والانطواء والغرور. ولعلّ «تفوّق» الغرب على الشرق منذ مئات السنين في ميادين شتّى، أنّه فَهِمَ أنّ مسيرة التاريخ مسيرة تَجاوزيّة، تُفكِّك كلّ مُحاولة تسلّطيّة أو دوغمائيّة، سواء أكانت سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة. عاصر مشاهير الفلاسفة في فرنسا وألمانيا وحاورهم في مؤلّفاته المتنوّعة، من أمثال جان بول سارتر وجيل دولوز وميشال فوكو ودريدا وهيدغروهابرمس وغيرهِم، مِمّا أضفى على فكره التنويريّ رونقًا خاصًّا تَجلّى في معظم كتاباته. من يرغب التعرّف إلى قراءة دقيقة لِهؤلاء الفلاسفة بلغة عربيّة واضحة ومتينة، لا يُمكنه أن يتجاهل ما تركه مطاع من ترجَمات ودراسات قيّمة في هذا المجال. من يتعمّق في مؤلّفات مطاع صفدي، يكتشف باكرًا إلى أيّ حدٍّ استحوذ الفكر النقديّ على مضمونِها. فقد فَهِم جيّدًا بنيةَ العقل الغربيّ وتركيبَته، وسعى إلى رَفد العالَم المشرقيّ بِهذا الفكر، في كتابات تكاد كلّها تَحمل كلمة نقدٍ في عنواينِها. فمن نقد العقل الغربيّ إلى نقد الشرّ المحض في جزئيه إلى كتابه ماذا يعني أن نُفكِّر اليوم. فلسفة الحداثة السياسيّة، نقد الاستراتيجيّة الحضاريّة، مرورًا بـ نظريّة القطيعة الكارثيّة، إلى مقالاته الشيّقة في مَجلّة «الفكر العربيّ المعاصر»، ترتسم ملامح فكره متجلّية في مواضيع تفكيكيّة متشعبّة، حاول أن يُعيدَ بناءها من جديد، كيما ينفض عنها غبار الأفكار المسبّقة والتأويلات المزيّفة والعمارات الكاذبة، سواء أكان في الغرب أو في الشرق. سأحاول في هذه المداخلة، ولو بخطى متردّدة، أن أعرض رؤية مطاع صفدي التفكيكيّة التي رافقت نضاله الفكريّ الطويل، مستندًا إلى أهمّ المواضيع التي تطرّق إليها، كمفهوم الحداثة، ومفهوم القطيعة في فكر جيل دولوز وميشال فوكو، ونقد المعرفة التسلّطيّة، والمقدّس والدنيويّ، ومُحاولة غربنةِ العالَم وأمركته، وموقع العالَم العربيّ من هذه الرؤية التساؤلات كلّها. الحداثة الدائمة يعتبر مطاع صفدي أنّ العقل الغربي منذ عصر التنوير في حداثة دائمة. فمن مزايا هذا العقل أنّه لا يتورّع من نَقْدِ ذاته، إذ لا يركن إلى أيّة أنظومة ثقافيّة أو مُجتمعيّة، بل يُعمِل فيها النقد والتفكيك كي يصون نفسه من «كلّ جهاز يُحاول احتباسه»(1) . ولعلّ سِرَّ نَجاحه أيضًا أنّه لا يستسلم للغرور من جرّاء نَجاحاته الباهرة، و«لا يغرق في منتجاته»(2)، وكأنّه تَعلّم من الحضارات الأخرى، التي انْهارت الواحدة تلو الأخرى، أنّ التعايش دومًا «مع واقعة الانْهيار»(3) خيرُ وسيلة لتفاديه. ومع أنّ العقل الغربيّ كان السبّاق في نَشْر الإيديولوجيّات في المجتمع المعاصر، إلاّ أنّه كان أيضًا من «أكبر مكتشفي ألعابِها، وأشجع المتصدّين لقلاعِها، والمدّمرين لِهياكلِها»(4) . لا شكّ أنّ المشروع الغربيّ الثقافيّ وَقَعَ في نَموذج «فكرة الواحد وسلطانه المثاليّ المطلق، سواء في صفحته الميتافيزيقيّة التيولوجيّة، أو في صفحته… الواقعيّة»(5)، إلاّ أنّ تَمرّد العقل وقدرته الدائمة على النَقْد، أسهم إلى حدّ كبير في زعزعة هذه الأحاديّة وحَملها على مراجعة ذاتِها. وهذا ما كشفه هيغل في منهجه الجدليّ، إذ انتقل الفكر من قطيعة إلى قطيعة ومن انفصال إلى انفصال (من دون أن ندخل في نقاش مع هيغل) في حركة نفي دائِمة، وكأنّ القطيعة باتت «إيقاعًا دائِمًا لأزمانه المتغيّرة المتقلّبة»(6) . ما يُميّز العقل الغربيّ عن سائر الحضارات الأخرى أنّه كان أوّل من أحدث «قطيعة كبرى مع الواحد اللاّهوتيّ»(7) وأخرجه من دائرة بنيته السياسيّة والاجتماعيّة. «هذا الانفكاك عن الواحد اللاّهوتيّ، على حدّ تعبيره، هو منطلق الحداثة». إلاّ أنّ هذا النفي للواحد اللاّهوتيّ اتّبعه أيضًا نفيٌ للآخر. فقد استخدم العقل الغربيّ الشعوب الأخرى فاغتنى بِها ثُمَّ رماها بعيدًا، مفتّشًا عن بديل آخر. فإذا بالحداثة تتحوّل إلى حداثويّة، استخدمها الغرب في المجالات كلّها، إلى حدِّ استنْزاف مضمونِها النيّر والنبيل. فَظَنَّ أنّه بِمشروعه الثقافيّ سيستوعب حركة التاريخ العالَميّ. لقد «ضَمِنَ بذلك ألاّ يدع أحدًا سواه يَمتلك الوعي والفعل في لَحظات ضعفه، وأن ينتزع منه زمام المبادرة، واحتكار القيادة. وأكثر من هذا فإنّه استخدم عثراته كمناسبات لعودته إلى ذاته، وإعادة النظر في كلّ ما تفَهمه وخَطَّطَ له»(8) . في هذه القراءة المقتضبة للحداثة وللعقل الغربيّ، حاول مُطاع صفدي أن يُبيّن أيضًا كيف يواجه هذا العقل مرحلة دقيقة من تطوّره. إنّه اليوم في مرحلة نَقْد النَقْد، أي في مرحلة نَقْدِ مكتسباته، إذ اكتشف أنّه لَمْ يَعُدْ كما كان من قبل مِحور كلّ شيء. وهو الآن في مرحلة تفكيكيّة جديدة لنفسه لإعادة انتشاره بطرق مُختلفة… وهذا ما يَجعله، على الرغم من تنامي ثقافات أخرى تضاهيه، في طليعة الثقافات العالميّة. ويتساءل مطاع صفدي عن موقع العالَم العربيّ من خطاب المشروع الثقافيّ الغربيّ. هذا العالَم كان، وما برح حتّى الآن، ساحة لبطولات الغرب الدونكيشوتيّة، وفرصًا لفتوحاته العلميّة والاستعماريّة؟ يستاءل، وفي قلبه مرارة الكاتب العارِف والناقد، وفي الوقت عينه، العاجز عن إحداث تغيير فيه، إذ يَعتبر أنّه طالَما لَمْ تتوفّر فيه العناصر التي قام عليها العقل الغربيّ، عنيت بِها النَقْد الصريح، وتَخطّي الموروث، ووضع حدّ لتدخّلات الواحد التيولوجيّ في أدقّ تفاصيل الحياة، سيبقى هذا العالَم، حتّى بعد استقلاله، خاضعًا للغربنة أو للأمركة، ينتقل من عزلة إلى أخرى.(9) صراع مطاع صفدي مع الخطاب الفكريّ العربيّ صراعٌ جوهريّ. فهو يَعتبر أنّ مِحنة هذا الفكر تَكمن في الأجوبة الجاهزة عن كلّ شيء. خطابٌ يفتقر إلى «سؤال واحد»(10)، على حدّ تعبيره. خطابٌ فكريّ يتفّصح في الكلام لتقديم الحلول قبل طرَح الإشكاليّات. «هذا الخطاب يُهاجم العالَم بكلّ اليقينيّات والوثوقيّات التي لديه قبل أن يَطرح على ذاته وعلى العالَم من حوله، من يكون هو، ومن يكون الآخر الذي عليه أن يستوعبه قبل أن يعرفه»(11). هذا الخطاب الجاهز، في رأيه، بات خارج حركة الزمن المعاصر. إنّه خطاب يرفض الانْخراط في التاريخ، بل يَخاف من مواجهة الفكر النقديّ والتفكيكيّ، لأنّه يعتبر نفسه فوق التاريخ، وفي منأى عن النقاشات الفكريّة التي تعمل دومًا على ضبط المفاهيم بغية تأوينها، كي تكون أكثر ملائمة مع العصر. خطابٌ أجاب عن أسئلة لَمْ يطرحْها، لا هو ولا أحد، عليه، ومع ذلك يطرحها على نفسه برتابة لفظيّة عقيمة. ويتابع في السياق عينه: «هذا الخطاب أَعدّ عُدَّته الكاملة ليجعلها أبستيميةَ الإبستيميّات (أو معرفة المعارف). وبذلك أخرج نفسه من حلقة البحث. ولَمّا كان هو الموجود وحدَه فقد فَرَضَ ماضيه الدائم باعتباره ذاكرةً مستقبليّة، ذاكرة للمستقبل كلِّه… اعتبر هذا الخطاب أنّ كلامه هو كلام الواحد، والآخرين هم المستمعون الذين لا كلام لَهُم»(12). ولعلّ أهميّة الفكر الغربيّ أنّه تَمكّن من خلال ما يُسمّى بالقطيعة أو بالتفكيك من خَلْقِ مناخ فكريّ متجّدد، إذ أحدث ثورة لسانيّة مهمّة، حرّرت «اللغة من سلطان كلّ أمر مطلق»(13). مهمّة التفكيك والاختلاف والقطيعة اهتمّ العقل الغربيّ بتَحرير اللغة من سلطان كلّ أمرٍ مطلق. فمنذ بروز الفكر التأويليّ التفكيكيّ، سقطت المحرّمات والغيبيّات، وتَحوّل النصّ الدينيّ إلى نصّ قابل للنقاش في تركيبته كلّها. فالدراسات اللسانيّة أسهمت كثيرًا في تفكيك الخطاب اللغويّ ووضعته في مساره الصحيح(14). التفكيك هو تَمرّدٌ على كلّ منهجيّة، بل تَمرّد على العقلانيّة، ولو أنّ التفكيك يَحتاج إلى العقل ليستند إليه. التفكيك، كما فهمه مطاع صفدي مُحللاً جاك دريدا، «استراتيجيّةُ مُمارسةٍ مُختلِفة تأتي في الوقت الذي تَهافتت فيه كلُّ الخطط، وقيل كلّ ما يُقال، وفُعِلَ كلّ ما يُمكِن أن يُفعَل. الخطاب المطلق قد أُنْجز وانتهى سلطانه». التفكيك هو تلك اللحظة بالذات التي يُقال فيها شيئًا مُختلفًا، ويُعمَل عملاً مُختلفًا.(15) انشغل دريدا بذات الهمّ الكبير الرهيب الذي حَمله جيله النيتشويّ (نيتشه هو أوّل فيلسوف مفكِّك للأفاهيم) من جيل دولوز إلى ميشال فوكو. فهؤلاء جَميعًا أرادوا أن يَخرجوا من القوى المسلطِنة عَبْرَ المفاهيم، إلى القوى المباشَرة التي لا تنتمي إلاّ إلى ذاتِها(16). «التفكيك هو إنزال الأفكار الإطلاقيّة من عليائِها، هو اغتصاب مشروعٍ لكلّ الأطُر المنهجيّة والمعقولات الشموليّة المدّعية للشرعيّة المطلقة في مَجال المنطق كما الرياضة نفسها، كما الإبستمولوجيا بكلّ خلفيّاتِها الأنطولوجيّة الباطنة أو الظاهرة»(17). منهج التفكيك إذًا يشير إلى أنّ ثَمّةَ ما هو مُختلف فيما هو ظاهر وليس بظاهر تَمامًا (différance)(18)؛ أمّا المنهج الكلاسيكيّ فيعتبر أنّ كينونة النصّ مَحمولة كلّها في نصّه. وفي السياق عينه، ولكن ضِمْنَ رؤية مُغايرة، يطرح جيل دولوز مسألة المختلف والاختلاف عَبْرَ الثورة النيتشويّة، مستعيدًا أطروحته الأساسيّة التي تُريد أن تُشدِّد على «قدسيّة الحياة»(19) وعلى عالَم الواقع فحسب، لتضع حدًّا لسيطرة عالَم القِيَم (الدين والأخلاق). فالاختلاف هنا هو تَنقية منهج النقد وحِمايتُه من النقديّات المزيّفة التي جاءت بعد كانط. فقد حاولت هذه النقديّات أن تُقيم أنظمة جديدة من القيَم من دون أن تَتمكّن من إحداث قطيعة حقيقيّة في بنية النظام القيميّ ذاته. في حين يعتبر جيل دولوز أنّ النَقْد يَجب أن يطول نظام الأنظمة، أي القيَم التي تُزيّف عالَم الأشياء القائم على قوى الحياة(20). هذا الفكر ينسجم تَمامًا مع تصميم نيتشه وهيدغرعلى إعلان نِهاية الميتافيزيقا، إذ هناك تَحوّل رئيسيّ أطاح بنظام الأنظمة المعرفيّة الذي هو أساس المشروع الثقافيّ الغربيّ. إصرار نيتشه على موت الله لا يَعني فحسب أنّ الإيمان بالله قد انتهى، بل أنّ فكرة العالم الماورائيّ قد انْحسَرَتْ في المجتمع الأوروبّيّ الحديث. لن أخوض كثيرًا في مسألة القطيعة (rupture) التي طبعت فكر ميشال فوكو، فقد أفرد لَها مطاع صفدي دراسات مُسهبة ليشدّد على أنّ الحداثة عاشت على أطروحة القطيعة. فالحداثة ناضلت من أجل تغيير جذريّ وشامل لنظام الأنظمة المعرفيّة السائد. فكان عليها أن تستحضِر نقيضها دائًما من أجل أن تثور عليه وتُجدِّد نَفيها المستمرّ الملحاح السائد. سأتوسّع بفكر ميشال فوكو لاحقًا من خلال مسألة المعرفة التسلّطيّة. ويطلّ مطاع صفدي على يورغن هابرماس في كتابه (نقد العقل الغربيّ) ليتتبّع استراتيجيّته الفكريّة القائمة على الفعل التواصليّ (agir communicationnel) من أجل تشييد بنية جديدة للحداثة بغية توظيفها في الواقع الاجتماعيّ. فقد جرّد هابرماس اللغة من أوامرها اللاّمتناهية، معتبرًا أنّ المذاهب الفلسفيّة والانتاجات الإبداعيّة، من فلسفة دينيّة، وأنظمة السلوك ومعايير الأفعال الفرديّة والجماعيّة هي تَحقيق لنظريّة الفعل التواصليّ.(21) هذه المسائل الخطرة والدقيقة التي تَطرح رؤية جديدة للمجتمع الغربيّ والتي تُعبِّر عن الفضاء التفكيكيّ السائد، قد احتلّت حيّزًا مهمًّا في كتابات مطاع صفدي، إذ عرضها مُحلّلاً ومُنتقدًا في أسلوب عربيّ خاصّ به، فالمصطلحات التي استخدمها كلّ من دريدا ودولوز وفوكو ليست مُصطلحات مألوفة، حتّى في اللغة الفرنسيّة، ومع ذلك، تَمكّن مُطاع صفدي من تطويعِها، إذ تَمكّن من إيجاد المصطلح المناسب أو الأقرب إليها في اللغة العربيّة. المقدّس والدنيويّ يتطرّق مطاع صفدي في كتابه نقد الشر المحض بحثَا عن الشخصيّة المفهوميّة للعالَم إلى مفهومَي المقدّس والدنيويّ ضِمْن رؤية تفكيكيّة جديدة، كيما يضع المقدّس في مسيره الصحيح. المقدّس، كما يقول، هو هذا المغيوب الذي دَخَلَ عالَم الناس وصار أليفًا ومألوفاً […] هو السماويّ الذي يصير أرضيًّا […] يُمسك بزمام الكنائس والجوامع والصوامع في المجتمعات والحضارات. إنّه المستحيل الاستثنائيّ الوحيد من بين سواه من الاستنثاءات الذي باستطاعته أن يصير مُمكنًا. ويبقى مع ذلك مستحيلاّ. ذلك هو سحره الخاصّ. إنّ ترتيب حَدّي العبارة، يُقدّم المقدّس على الدنيويّ. هذا التقويم يرمز إلى أسبقيّة زمنيّة وأولويّة دلاليّةٍ مرتبطة بالخطاب الأنتروبولوجيّ، أكثر من ارتباطها بالمفهمة المعرفيّة […] المقدّس جاء في أول الزمن ولا يزال يتابع تَحقيب التاريخ من حقبة إلى حقبة. أمّا الدنيويّ فَلَمْ يَبْرز للعيان إلا في منعطف معرفيّ متأخرّ.(22) من هنا رفض العقائد الكليّانيّة والأديان عبارة المقدّس/الدنيويّ في تشكيلها الثنائيّ المتوازن. إنّ حدّ المقدّس هو اجتياح حدود الآخر دائمًا. وبالتالي لا يُمكن لشيء أن ينبت قُبالته أو في جواره. وتبْرُز أهميّة الدين من حيث أنّه تقنيّة تعمل على توطين المقدّس في صميم حياة الناس. يكافح الدين من أجل تَحرير المغيوب من غربته وسكونيّته، وحياديّته، وجذبه تَحت طقوس التقديس لجعله حيًّا بين الأحياء، والفاعل الأكبر. ولذلك فإنّ الانسحاب التدريجيّ من المجتمع الذي نادى به ماكس فيبر يُعيد المقدّس إلى منفاه القديم في حيّز المغيوب. منذ ماكس فيبر، ولاسيّما في كتابه العالِم ورجل السياسة، ساد تفكير في أوروبّا أنّ الدين انسحب كلّيًّا من التداول وحلّت مكانه تقنيّة التكنولوجيا، فغدت رمز التقديس الشامل للعصر الحاليّ. إلاّ أن هناك رأيًا آخر لمارسيل غوشيه في كتابه خيبة أمل العالَم يعتبر أنّ انسحاب الدين من المؤسّسات لا يعني اضمحلال الدين(23). انْهيار الدولة الدينيّة ومعها المؤسّسة اللاهوتيّة، شكّلَ قطيعة كبرى في العلاقة بين الدين والسلطة السياسيّة والتراتب الاجتماعيِّ(24) في تاريخ أوروبّا الحديث من دون أن يعني ذلك اختفاء المقدّس من حياة الفرد أو المجتمع. لقد فَقَدَ المقدّس في الغرب هيبة الوازع الأعلى واقتنع بِحيّز متواضِع من هذا الخيال إلى جانب الخلقيّ والفنّيّ والإبداعيّ… إنّ انْحلال الدين كمؤسّسة سلطويّة سَمَحَ بعودة الدينيّ إلى حَجمه الطبيعيّ من المخيال الإنسانيّ، صار الدينيّ يتأرجح على حدود تأرجح كلّ من الجماليّ والأخلاقيّ. يُخالط إتيكا الفرد الحداثويّ. يُحرّر المقدّس من الطقسنة الرتيبة وقواعدها الصارمة. إذًا، لَم تُعلن الدنيويّة إنْهاء المغيوب، بل حاولت تدجينه، ليُصبح قابلاً للمجاورة(25). ومع أنّ المجتمعات الأوروبّيّة تَحرّرت من سلطان المغيوب(26)، إلاّ أنّ مطاع صفدي يُبيّن استغلال الدين وتوظيفه من أجل مآرب سياسيّة، في العالَم الذي يُفترض أن يبقى أمينًا لمكتسبات الحداثة: «إنّ النظام العالَميّ الجديد (السياسيّ) الذي يُراهن على قطيعة عدوانيّة كاملة بين الشمال والجنوب لن يَجد بين يديه غير المقدّس الدينيّ كإيديولوجيا انبعاثيّة تَحمي الشعوب والقوميّات والعنصريّة مقابل جنوب أصوليّ وإسلاميّ»(27). في ضوء هذا التوجّه، يُمكننا القول بأنّ هناك استعدادًا لاسترداد المقدّس كغلاف للسياسيّ على كل من ضفتي خط القطيعة الشماليّ والجنوبيّ(28). دينٌ مُعَلْمَن ومُسيّس في الشمال، ودين مُأدلج ومُسيّس في الجنوب. إنّه استرداد دنيويّ كلّيًّا للمقدّس. سوف يَجري تلعيبه واستخدامه في مشروع تقسيم العالَم القادم حسب ثنائيّة مصطنعة. فعالَم الشمال سيتابع خطاب الحداثة البعديّة، لكنّه يقع تدريجيًّا في تصنيم الفرديّة الانعزاليّة، مِمّا سيغرقها في العنصريّة، تَحت ستار الدفاع عن ديمقراطيّة المجتمع المتقدّم الصناعيّ. وأمّا الآخر الجنوبيّ فإنّه يجري تعجيزه عن بلوغ الديمقراطيّة بتدمير موارده الاقتصاديّة، والإمعان في إفقاره وإذلاله، ممّا يزيده تعلّقًا أصوليًّا بالمقدس السلفيّ، الذي بدوره يُثَمِّره الغرب كوسيلة جديدة للتمايز عنه. وهكذا يفقد مدلول المقدّس تسميته المباشرة في كلّ عصر. فتذهب دلالته إلى تسميات أخرى من نوع التكنولوجيا في العلم الماديّ، والديمقراطيّة المعلمنة في خطاب العلوم الإنسانيّة(29)، والدين المؤدلج الراديكاليّ وغيرها من التسميات، بدل أن يكون أداة للتعاون والتآخي بين المجتمع. هذا الواقع الدينيّ يُسعفنا على فهم علاقة المقدّس بالدنيويّ، في مُجتمع لبنانيّ يُهيمن عليه المقدّس في جميع مرافقه. الفيلسوف الذي غالبًا ما يبقى خارج ترسيمة المقدّس/الدنيويّ يعرف أنّه يَجب إرجاع الثنائيّة إلى واحديّتها الأصليّة. هناك الدنيويّة وحدها ولا شيء سواها. وحتّى عندما تسود اعتقادات خطابات عمّا خارج العالَم فإنّها تظلّ خطابات لألسنة أرضيّة، ومن هذا الكوكب الحيّ وحده، على وجه التحديد والدقّة(30). وبالتالي، وحده الفيلسوف قادر على وضع الأمور في نصابِها الصحيح، للحدّ من الهيمنة والتسلّط. نقد المعرفة التسلّطيّة حاور مطاع صفدي ميشال فوكو في مسألة المعرفة والسلطة. وتَجدر الإشارة هنا إلى أنّ مطاع صفدي ترجم بعضًا من كتابات ميشال فوكو وراجع البعض الآخر منها. ففي الفصل الذي يَحمل عنوان المعرفيّ/السلطويّ، من كتابه نقد العقل الغربيّ، تساءل مطاع عن تَحقّق السلطة ومُمارستِها وليس عن مصدرها. «السؤال عن السلطة: كيف هي، وليس ما هي… السلطة ليست مَخفيّة. بل هي معروضة للرؤية منذ أن تكون»(31). طريق واحد أمامنا هو النُزول من السلطة إلى السلطاويّة. إلى شبكة الممارسات اليوميّة… في التقسيمات الإداريّة والفئويّة والطائفيّة وسواها(32). ويعرف الأخصائيّون بميشال فوكو كيف وضع العلوم الإنسانيّة على بساط البحث، ذلك أنّ «السيطرة هي شكل ممارسة السلطة في فضاء العلوم الإنسانيّة»(33). ترك ميشال فوكو مؤلّفات ضخمة يشرح فيها شروط بروز بعض خطابات المعرفة، ولا سيّما في كتاباته أركيولوجيا المعرفة، وتاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ والكلمات والأشياء. ويشرح مطاع صفدي هذه المؤلّفات بدقة مبيّنًا أنّ فوكو لَم يرمِ من خلال كتاباته إلى أن يكون مؤرّخًا (وهو ردّ على جان بول سارتر)، بل اعتمد منهج الأركيولوجيا أو الحفريات ليبيّن كيف استخدمت السلطاويّة المعرفة للسيطرة على كلّ من يَخلِق بلبلة في النظام العامّ. فقد احتزجت المتهتّكين والمجانين والملحدين، أي كلّ من يسيئ إلى النظام القائم. وقد تطور خطاب مفاده أنه ينبغي أن ننقيّ هؤلاء سواء بإطعامهم الصابون أو بإلزامهم على الاستحمام قسرًا. حاول أن يصف الانتشار الشموليّ الرهيب للمعرفيّ،السلطويّ، والسلطويّ،المعرفيّ الذي يسود كلّ مظاهر وآليات البنى الاجتماعيّة والفرديّة المعاصرة وعلاقاتِها المرئيّة الملفوظة، المسمّاة والمضمرة. إنّ للسلطات تقنيّات (تكنولوجيا كما يسميها فوكو) للانتشار والترابط والسيطرة. ومما لا مرية فيه أنّ ميشال فوكو تأثّر كثيرًا بفكر نيتشه في هذا الموضوع بالذات، فقد بدّل مفهوم إرادة القوّة لنيشته بإرادة المعرفة(34). ويعرف المتعمّقون في فكر نيتشه أنّه اتّهم المسيحيّة الغربيّة بِمسؤوليّتها عن بناء المجتمع الصناعيّ الحديث بمساعدة البورجوازيّة الصاعدة، ورأى في هذا المجتمع النموذج الأعلى لاتّحاد السلطة بالمعرفة ابتداء من توظيف العِلْم في خدمة الطبقة المسيطرة، وصولاً إلى ذلك التحويل النوعيّ الهائل الذي أصاب مؤسّسة القيَم والعلاقات الاجتماعيّة. وهكذا أنزل فوكو الفلسفة، ومذهب إرادة القوّة، إلى حفريّات الثقافة والممارسة الاجتماعيّة. الاركيولوجيا تقصّ علينا قصة النشوء والتطوّر لهيكلات البُنى الاجتماعيّة. أخذ فوكو على عاتقه أن يشرح كيف سقطت القوّة من تاريخانيّتها لتتحوّل إلى سلطة مركزيّة تتفرّع سلطات وشبكات من الرقابات الداخليّة والضمنيّة عبْر تاريخ الثقافة والحضارة معًا. إنّ كلاًّ من مؤسّستي العقاب والحجْر (السجن، المصحّ) إنّما تكشفان في تاريخهما الخاصّ إحدى التقنيّات البارزة للكيفيّة التي يُمارس فيها المجتمع سلطته.(35) وهكذا وجد فوكو أن المشروع الثقافي الغربيّ شارف في تطوّره الحافل المنعطَف الأخطر. فهو وَحَّد بين القوّة والسلطة اعتقادًا منه أنّه يستطيع أن يشقّ طريق السعادة أمام إنسانه. لكن السلطة امتصّت القوة واستخدمت رموزها البطوليّة لصالح أنظمة المعرفة الموجّهة للتراتبيّة السائدة. فكان أن وصل المشروع الثقافيّ الغربيّ إلى واقعه الراهن: مجتمع الرفاهيّة غير السعيد، والفردانيّة المجرّدة من جسد الفرد؟ ولكن هل نلقى القوة دونما سلطة؟ ذلك هو السؤال الذي لَم يطرحه فوكو على نَهجه الأركيولوجيّ… ذلك أنّ نَهج الأركيولوجيا التزم الوصف أو القاء الضوء، وجانب التفسير. إلاّ أنّه حاذر أن يقع ما أمكنه في شراك التعليل الشموليّ خوفًا من الأدلجة. ولكن «حَسبُه أن يتستعيد دور زرادشت، على حدّ قول مُطاع صفدي، في ذروة المعاصرة الراهنة، بأسلوب المحَقِّق التأويليّ، يَحمل الفانوس ليُنير ظلام النهار مُجدّدًا، منذرًا مرّة أخرى بذلك الخلل المتمادي الذي تصنعه المعاصرة الغربيّة، ما بين إرادة القوّة وإرادة المعرفة، حيث تفتقد القدرة المطابقة بينهما إلاّ عَبْرَ ذلك الوسيط الدخيل: السلطة»(36). الإنسان المرآويّ ونِهاية التاريخ في خطاب الأمركة (فوكوياما) وفي كتاب نقد الشرّ المحض. نظريّة الاستبداد في عتبة الألفيّة الثالثة، حاول مطاع صفدي أن يُبيّن كيف حادت الحداثة التنويريّة عن انطلاقتها من خلال غربنة العالَم. تَمكّنت حركة الغربنة من تقسيم العالَم إلى عالَمين: عالَمٌ مُغلق (العالَم الغربيّ) يتحكّم في عالَم آخر منفتح أُرغم على الانفتاح من خارج حدوده، إلى حدّ الاستباحة. وقد سعت هذه الغربنة إلى الحفاظ على انغلاقِها، أي حافظت بأنانيّة على مكتسباتِها وغناها وفرضت على الآخر أن يستمرّ مفتقرًا دائًما إلى دفاعاته الطبيعيّة. وهكذا وجدت الدول التي استقلّت عن الاستعمار الأوروبّي نفسها بين انغلاقَين أحدهما من ماضيها التراثيّ، والآخر انغلاقُ معاصريها الذي يَمنعها من اكتساب حقيقة المعاصرة، وليس من أوهامِها وأشباحِها المِرآويّة فحسب.(37) استمرّت الدول المستقلّة حديثًا في حال فقرٍ من دمِها الطبيعيّ، إذ باتت في انفصام في بنيتها، تعيش بين انغلاقَين: انغلاق الماضي وانغلاق المعاصرة. وقد مارست الغربنة حركة الانفتاح والاجتياح معًا، بحيث تدعم انغلاق ذاتيّتها على واحديّة أقنومِها مقابل تعدّد الثقافات التي جعلت منها تكرارًا كمّيًّا خالصًا. لقد نَجحت الغربنة في تدمير التعدّديّة، وتعميم نَموذج الشتات على الكيانات المسلوبة من أيقوناتِها الذاتيّة. هذه المركزيّة الغربيّة، بدأت تتشقّق في بنيتها الخاصّة. فخضعت لمنطق الحداثة البعديّة (post modernité) التي لا تعترف بالمناطقيّات المغلقة داخل مَجالِها الاستراتيجيّ الثقافيّ، بل تسعى إلى خلق تقابس جديد بين الثقافات المتنوّعة. الغربنة منعت الآخرين من إشراكهم في صنع التاريخ فترة طويلة، وهذا ما تفعله الأمركة التي تسلّمت زمام الأمور بعد أن تسلّمت عَلَمَ الغربنة من خلال سياسة مِرآتيّة تَحجب الخصوصيّات من جديد. شَيّعت الأمركة أنّها مستقبل العالَم. هذا الشيوع تَمظهر في تطوير نَمط استهلاكيّ، بَنْيَنَته، مستندة إلى أنقاض الغربنة في النصف الأول من القرن العشرين، ثُم طوّرت هذا النمط إلى حدّه الأقصى مع المِرآويّة. فغدا الاستهلاك جاذبيّة مرآويّة مطلقة، وأضحت المرآويّة سلطةَ غواية مطلقة، قادرة على تَحويل كل شيء إلى بضاعة، بما فيها الحروب والمجاعات والأوبئة العصريّة، تبيعها للمستهلكين في جَميع أنحاء العالَم، صورًا برّاقة خلابة، معروضة عبر وخلال أحداث آلات القتل والتسلية وإزجاء أوقات الفراغ.(38) وفي هذا السياق، ينتقد مطاع صفدي مشروع فرنسيس فوكوياما في كتابه نِهاية التاريخ والإنسان الأخير، إذ يعتبره تصنيمًا لإيديولوجيا الرأسْماليّة الأمريكيّة بالذات. مشروع فوكوياما ليس سوى إيديولوجيا بالية تُجدّد نفسها باستعارة هيغليّة من خلال قراءة ألكساندر كوجيف. نِهاية التاريخ هو خطاب أمريكيّ يُعيدنا إلى كتابة تأريخ واحد مصدره الغرب، من دون الأخذ بالاعتبار بخصوصيّات الشعوب الأخرى وتراثاتِها وثقافاتِها. كتاب فرنسيس فوكوياما نِهاية التاريخ والإنسان الأخير يؤسّس لإيديولوجيا جديدة تقوم على الليبراليّة الأمريكيّة بعد الشيوعيّة، وبالتالي، يعيدنا إلى تصنيم تأريخ واحد يريد أن يفرض مفهومه الكليانيّ تَحت اسم الديمقراطيّة من خلال الاحتكار والإستثمار والاجتياح.(39) خاتِمة: يسير العالَم اليوم، ولو بخطى بطيئة، نَحو تعدّديّة التأويلات. فقد تَهاوت الإيديولوجيّات وبدأت ترتسم ملامح نَماذج معرفيّة جديدة لتَحِلّ مَحلّ الفكر الواحد، سواء جاء هذا الفكر من الغربنة أم من الأمركة أم من الدين أم من التكنولوجيا. التأويل النقديّ يكسر علاقات الاستقطاب. والحدود المتقابلة والمتناحرة ينبغي لَها أن تتغيّر إلى علاقات تَعدّديّة تُجاور تَعدّديّة التأويلات وتتحاور معها. الإبستمولوجيا الجديدة تفرز نَمطًا معرفيًّا جديدًا تلتقي فيه المجتمعات كلّها من دون تفريق أو تَمييز. ولا عجب، فحينما نكسر حديّة النموذج المعرفيّ الواحديّ يُرفع الستار فوريًّا عن ثقافات المجتمعات الأخرى وتنوّعها الغنيّ، ويُشرك لغاتِها في تعبيريّة اللسان الإنسانيّ. التأويل يُمَشْهِدُ قبول الآخر ويفترض قيام أخلاق التبادل، والتجاور والمشاركة. هذه هي رؤية مطاع صفد المستقبليّة. أيّها الصديق، منذ بضعة عقود، لَمْ تكِلّ عن الكتابة والنضال في سبيل ترقية العقل العربيّ إلى مستوى الاستقلال الصحيح. اهتميّت بالفكر الغربي وأحببته حتّى الشغف به، إلاّ أنّك لَمْ تنصاع له، بل حاورته وانتقدته ولُمته لانزلاقه في متاهات السياسة، إلى حدّ التبعيّة لَها عند البعض منهم، فكنت تردّد دومًا أنّ الغرب لَمْ يستخدم المعرفة للمعرفة، وبالتالي خَرَجَ عن التقليد الإغريقيّ، واستخدم المعرفة للسيطرة على العالَم، مستعنيًا بإبستيمية تعكس مصالح الطبقة المسيطرة، وتسحق الآخر الذي لا ينتمي إلى دائرته. تُنادي في مؤلّفاتك أنّ موت الفلسفة (أي غياب الإشكاليّات والنقد والتأويلات المتعدّدة) وانتصار الفكر الشموليّ في بُعدَيه السياسيّ والدينيّ، يعني انتصار الرأي الواحد. هذا ما بدأت ترفضه الأجيال الجديدة في العالَم العربيّ التي انفتحت على التواصل وعلى ما يَجري في العالَم من تطوّرات مُهمّة. هل بدأت الأجيال الجديدة تُنتج لغة جديدة وعقليّة جديدة متحرّرة من هيمنة التراث والماضويّة؟ لقد قلت لي في لقائي الأخير معك بأنّ هناك ثلاث نَهضات في العالَم العربيّ، ولو بقيت متشابكة ومتعثّرة بعض الشيء: نَهضة عربيّة أولى كانت تبشيريّة خصوصًا في مصر ولبنان. نَهضة عربيّة ثانية هي نَهضة الاستقلال وإقامة الدول أو أشباه الدول، ونَهضة عربيّة ثالثة ما برحت في بدايتها هي تساقط الفرعونيّات في مُختلف توجّهاتِها. واعتبرت النهضة الأخيرة نقلة نوعيّة تبشِّر بمستقبل واعد في المجتمعات العربيّة. تدعو في مؤلّفاتك إلى إيكولوجية عقليّة أي إلى تنقية العقل من انْحرافاته التسلّطيّة على الآخر من أينما أتت. المشروع الغربيّ الثقافيّ بدأ بالصراع ضد الطبيعة، ثُمّ غدا صراعًا اجتماعيًّا، وانتهى سياسيًّا عالَميًّا يقصي كلّ من يقف أمام مشروعه… هذا الصراع يشهد اليوم بداية اندماج بيئة جديدة. نَحن نعبُر من التأريخ الغربيّ ذي النظرة الأحاديّة إلى التاريخ التعدّديّ على صعيد كوكب الأرض. هذا يعني أنّه حان الوقت أن يلتقي الفكر الجديد مع حقوق الإنسان وألاّ تبقى هذه الحقوق حقوقًا مُجرّدة، نتذكّرها بين الحين والحين. العالَم بدأ يفلت من الغربنة كنمط حياتيّ وحيد، وبدأ يتطلعّ إلى التحرّر من الأمركة التي فرضت ذاتَها كنمط للإنسانيّة جَمعاء بقوّة السلاح والاقتصاد. من هنا ضرورة تبنّي إبستمولوجيا حضاريّة تقوم على النقد والتجدّد تكون في خدمة الإنسان. عسى هذه الثورات العربيّة أن تُبلسم قلبك، فقد أسهمت بقلمك الغنيّ في بناء مدماك في هذه العمارة الجديدة التي بدأت ترتسم ملامِحها شيئًا فشئًا، ولكن حذار أن تُخطف هذه الثورات على يد القوى الظلاميّة، فإنّها ستعيدنا إلى نقطة الصفر. ولكن، أتَجاسر وأقول: أنت لَها بالمرصاد مع ضيفنا جورج طرابيشي والنخبة الفكريّة الحاضرة والغائبة، علنا ننعم ببناء مُجتمعات ناضجة تدبّر أمورها من دون العودة إلى وصيّ. المصدر مجلة الفكر العربي المعاصر