المخرج السينمائي اوليفر ستون
حسام عاصي |
| |
الفردية هي روح الإنسان وليس من حق أي مؤسسة سلبها منه خدمته في حرب فيتنام حولته إلى أحد أشد منتقدي السياسة الأمريكية ما يميز اوليفر ستون عن زملائه من مخرجي هوليوود هو أنه بدلا من مدح وتبجيل الولايات المتحدة وحكومتها وإثارة عواطف الوطنية والقومية في افلامه، دأب دائما على كشف عيوب دولته، فاضحا تورط مخابراتها في اشعال الصراعات الدموية والمدمرة ودعم الدكتاتورية في دول جنوب أمريكا (سلفادور 1986)، وارتكاب جيشها جرائم حرب بشعة في فيتنام (بلاتون، 1986، وولد في الرابع من يوليو، 1989 ) ومسلطا الضوء على فساد رؤسائها (نيكسون 1995، ودبليو 2008) ومتهما حكومتها بالتعتيم على حقائق اغتيال الرئيس جون كينيدي عام 1963 (ج.ف.ك 1991) وبالكذب على شعبها»“التاريخ غير المروي للولايات المتحدة، 2013». لهذا كان طبيعيا أن يكون هو المخرج الذي يقوم بصنع فيلم عن عميل المخابرات الأمريكية السابق، ادوارد سنودن، الذي كشف برنامجا تجسسيا سريا للحكومة الأمريكية لمراقبة اتصالات الهواتف والانترنت في الولايات المتحدة وخارجها بعد لجوئه إلى روسيا. ولكن ستون رفض هذه الفكرة عام 2013 عندما عرضها عليه صحافي جريدة «الغارديان»، غرينوود، الذي نشر تسريبات سنودن. “لم أرد أن أخوض في هذا المشروع لأنني مرهق من صنع أفلام مثيرة للجدل»، يقول لي ستون في مقابلة أجريتها معه في فندق الفور سيزونس في بيفيرلي هليز. «هناك ثمن تدفعه عندما تأخذ موقفا معاديا للولايات المتحدة وتصنع هذا النوع من الأفلام». أنا شخصيا لا أعتقد أن هذا كان هو السبب وراء رفضه إذ عندما أجريت معه مقابلة تلفزيونية في مكتبه في غرب لوس انجليس في كانون الثاني/ يناير 2014 وجدته محبطا ومرهقا وذلك لأن عائلة الزعيم الأمريكي الاسود، مارتن لوثر كينغ، كانت قد رفضت سيناريو الفيلم، الذي كان يستعد لصنعه عن حياته، بعد أن كدّ عليه أكثر من عامين. كما أنه أخبرني عن إلغاء مشروع عن حياة مؤسس الجزائر الحديثة، الأمير عبد القادر، كان يشرف على انتاجه. وفي عام 2008، اضطر لتوقيف تصوير فيلم من بطولة بروس ويليس في آسيا عن مذبحة ما لاي عندما جف الدعم المادي بسب الأزمة الاقتصادية. بعد أسبوع من لقائنا اتصل به منتجه، بورمان، في آخر كانون الثاني/ يناير 2013 وعرض عليه مرة أخرى مشروع فيلم سنودن. بداية تردد المخرج الهوليوودي ولكنه وافق عندما رتب له محامي سنودن الروسي مقابلة مع زبونه. وخلال أيام كان على متن طائرة متجهة إلى موسكو. «وجدته منهكا وقلقا جدا، ولكنه قال لي إنه كان يتوقع أن فيلما عن حياته كان لا بد منه. وكان يأمل في أن الفيلم يكون لائقا وليس فيلما تلفزيونيا رخيصا،” يقول ستون، الذي كان بداية يفكر في صنع فيلم إثارة خيالي مستلهم من قصة سنودن، لأنه لم يكن معنيا بصنع فيلم عن خبير كمبيوتر. «أنا أجد هذا النوع من الأفلام مملا»، يعلق ستون، الذي عادة يدجج أفلامه بالإثارة والتشويق والحركة والمعارك الملحمية. وتساءل كيف يمكن صنع فيلم مثير عن مهندس لا يملك سمات بطولية ويقضي جل وقته أمام الكمبيوتر؟ ولكن بعد ثلاثة لقاءات مع سنودن على مدى ثلاث زيارات إلى موسكو، تعرف خلالها عليه عن قرب، فقرر أن يسرد قصته الحقيقية ويحوّلها إلى مغامرة تجسس إلكتروني يخوض فيها البطل معركة مشوّقة ضد المخابرات الأمريكية. كما أنه استخدم علاقته الرومانسية مع حبيبته، ليندزي ميلز، من أجل أنسنته وخلق أزمات عاطفية وشخصية تقربنا منه وتربطنا به على غرار تفاوت آرائهم تجاه حرب العراق، التي كان هو يؤيدها وهي كانت تخرج في المظاهرات ضدها. وبينما كان هو يعيش حياة خاصة وسرية، كانت هي تعمل كمصورة وتنشر صورها على الملأ. «هي كانت الرابط الوحيد بينه وبين الإنسانية، وهذا مهم جدا، إذ أن آراءه الوطنية تتغير تماما في نهاية الفيلم»، يوضح المخرج الحائز على ثلاث جوائز أوسكار. وهكذا شعر ستون بأن سنودن قد يكون فرصة له لإعادة مجده الذي هفت منذ بداية التسعينيات من خلال صنع فيلم مشوّق يفضح فيه تصرفات دولته ومؤسساتها اللاخلاقية واللاشرعية ويطرح نظرته المضادة الليبرالية، كما فعل في أفلامه الأولى. «ربما تذكر الستينيات، كانت فترة خيبة أمل في الولايات المتحدة، ولهذا كنا نشاهد أفلاما تنتقد حكومتنا ومجتمعنا، ولكن تدريجيا وخاصة منذ ريغان، اختفت تلك الأفلام وصرنا نشاهد أفلاما حربية مدججة بشعور الوطنية، أحيانا تكون مموّلة من قبل المخابرات المركزية والبنتاغون. كما لاحظنا تغييرا كبيرا في الإعلام الذي تحوّل إلى ناطق بلسان الحكومة منذ ايلول/سبتمبر 2001، وهذا ما نشاهده الآن في أمريكا،» يعلق ستون بتذمر. فعلا، فبينما كانت استوديوهات هوليوود تتسابق لدعم مشاريع ستون في بداية سيرته المهنية، لم يوافق أي منها على تمويل أو توزيع فيلم «سنودن»، مما دفع المخرج العريق إلى قبول عروض دعم وتوزيع من شركات صغيرة غير قادرة على منافسة استوديوهات هوليوود في دور السينما. ويقول ستون إن ما واجهه من عقبات خلال صنع هذا الفيلم يثبت بلطجية الحكومة الأمريكية، التي بسطت نفوذها ليس فقط في الولايات المتحدة بل في كل أنحاء العالم، ما عدا إيران، الصين وروسيا، وهذا ما دفع سنودن للجوء إلى روسيا. فعلا، فإن كل الدول الأوروبية منعت طائرة الرئيس البوليفي صيف عام 2013 من المرور عبر أجوائها في طريقها من موسكو إلى بوليفيا وتم إنزالها في النمسا للبحث عن سنودن فيها لأن الولايات المتحدة كانت تشك بأنه كان على متنها. «هذا مخيف جدا»، يقول ستون، «وكأن هناك حكومة واحدة في العام ولا يمكنك أن تخالف الولايات المتحدة. في الخمسينيات والستينيات كانت الدول الأوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة ورفضت مؤازرتها في حرب فيتنام. ولكن الآن لا تتجرأ على فعل ذلك. الشعوب كلها مؤيدة لسنودن ولكن الحكومات تقف ضده. هذه أيام مرعبة وأنا شخصيا خائف جدا». خوف ستون انعكس في شغله على مشروع «سنودن» إذ أنه استأجر شركة أمن لتمشيط مكتبه من أجهزة تنصت وامتنع عن التواصل مع طاقم الانتاج بالتلفون أو بالايميل. وعندما كان يبعث رسالة بالبريد استخدم مغلفات تكون كلها فارغة ما عدا واحدة تحمل الرسالة. كما أنه قام بتصوير الفيلم في ألمانيا بدلا من الولايات المتحدة لكي يتفادى المخابرات الأمريكية المركزية. «أعتقد أنني وُلدت مجنونا بالشك»، يضحك ستون. من المفارقات أن ستون، الذي كان محافظا في بداية حياته، يعتبر بطلا أمريكيا حاز على نجمة الوشامة البرونزية مرتين خلال خدمته في حرب فيتنام في أواخر الستينيات. تلك هي الحرب التي فتحت عيونه على تصرفات حكومته اللاخلاقية واللاشرعية وحولته إلى أشد منتقديها، وجعلته يكرس حياته ومهنته لفضحها. وفي الثمانينيات والتسعينيات ألهمت أفلامه الشباب في أمريكا والعالم وشجعتهم على مواجهة المؤسسات الرسمية وعلى رفض الرأي السائد، الذي تمليه الحكومات الغربية عليهم. ولكن في الوقت نفسه تعرض لاتهامات بتزييف الحقائق وإعادة كتب التاريخ. ورد ستون على متنقديه مصرا على أنه كاتب روايات وليس مؤرخا. أنا شخصيا كنت من المعجبين بهذا المخرج المخضرم منذ نعومة أظفاري، وواظبت على مشاهدة كل أفلامه ودراستها. ففضلا عن كونه فنانا عظيما وداعيا للعدالة كان لا يخشى انتقاد سياسة إسرائيل ودعم كفاح الشعب الفلسطيني على الملأ، رغم التهديدات بسحب التمويل من مشاريعه. ففي عام 2008، ألغت شركةHBO فيلمه الوثائقي»شخص غير مرغوب فيه» لأنه طرح المقاومة الفلسطينية بصورة أيجابية. وفي عام 2012 هددت شركة CBS بإلغاء مشروعه الوثائقي «التاريخ غير المروي للولايات المتحدة» عندما صرح في لقاء صحافي أن إسرائيل تسيطر على هوليوود وسياسة الولايات المتحدة الخارجية. من المفارقات أن ستون نفسه تراجع مرات عدة عن مبادئه السياسية من أجل حماية مشاريعه. فعندما هُدد بإلغاء مشروع «التاريخ غير المروي للولايات المتحدة» بعد انتقاد اسرائيل في لقاء صحافي، اعتذر علنا لإسرائيل من إجل إرضاء هوليوود. كما أنه تفادى ذكر إسرائيل وتأثير نفوذها على السياسة الأمريكية في الفيلم لكي يؤمن تمويله وتوزيعه. ولكنه أنكر هذه الحقائق عندما واجهته بها. «ما عرضته في أفلامي عن حرب فيتنام، نيكسون وجي.اف.كي كانت اكتشافات جديدة لي وربما كل ما أباح به سنودن هو كذب وافتراء، وفي هذه الحالة أنا ارتكبت فشلا ذريعا في قراءته. علي أن أثق بحسي للحقيقة، وهذا ما أضع في أفلامي»، يعلق ستون. «اخترت أن لا أثق بحكومتي وأراها كذابة» يضيف ستون. «أرفض صفقة التخلي عن حقوقي الفردية مقابل الأمن الوطني. هذه كارثة ضخمة وعلينا أن نكافحها. ولكن للأسف أنا أقابل الكثير من الأمريكيين الذين يقبلون تلك الصفقة. ولكن أنا أكره أن أذكرك بأنك لن تكون آمنا أبدا في حياتك، وسوف تموت ولن يكون هناك أحد ليمسك بيدك. الحياة هي مخاطرة. الشباب هذه الأيام لا يفقهون خطورة هذا الواقع، ولكن عندما يبلغون سوف يدركون أهمية خصوصياتهم وأن هناك أمورا لا يريدون كشفها للملأ. الفردية هي روح الإنسان وليس من حق أي مؤسسة سلبها منه.» يُلاحظ أن ستون لم يدجج فيلم «سنودن» بخطابات حماسية وانفعالية كما فعل في إفلامه السابقة، وطرح شخصية العميل بصورة حيادية بدون أن يملي على المشاهد نظرته الخاصة. المخرج المخضرم نجح فعلا في صنع فيلم شيق ومثير عاطفيا وفكريا، متفاديا الوقوع في فخ العظة وتاركا للمشاهد حرية الحكم على تصرفات بطله أن كانت جريمة أو فضيلة. «هذا يسعدني»، يبتسم ستون ويضيف: «ولـكن