هشاشة الحكمة وتماسك المغامرة
إبراهيم غرايبة |
| |
يتيه الجدل في فهم الصراعات والحالة العربية القائمة اليوم في السؤال عن الصواب والحق بين حكمة عدم اليقين بما هي في بنيتها وجوهرها مترددة تتشكل حول الشكّ والحيرة وبين الإجابة الحاضرة والقوية والمتماسكة لدى جماعات الاستبداد والتطرف مدعومة بقوة الحجة والتنظيرات الفكرية والفلسفية والتحليلات السياسية، وفي ذلك ثمة سؤال بديهيي وطريقتان في الإجابة. ما الحق والصواب والجمال؟ في طريق الحكمة يحور السؤال إلى: كيف نقترب من الصواب والجمال؟ بمعنى أنه غير موجود أو لا يكاد يكون موجوداً، وإنما ننشئه أكثر مما نكتشفه، أو هو صواب يظل نسبياً وغير يقيني، وفي السياسة والإيديولوجيا فإن الصواب موجود ولا نحتاج سوى اكتشافه ومعرفته، ليس من مشكلة سوى نقص المعرفة! وفي ذلك أيضاً كثير من القدرة الحجاجية والديناميكية في البحث عن الأدلة والشواهد والتي كثيراً ما تكون صحيحة أو متماسكة ويشغل بها عقل مغامر من فلاسفة وعلماء وباحثين ومحللين وخبراء وإعلاميين يملكون فائضاً من المعلومات والأخبار والمعرفة. ولشديد الأسف فإن السلوك الأول حائر غير يقيني، فالنزاهة تقوم على عدم اليقين، والسلوك الثاني يقيني، يستمد مصيره ووجوده من المؤكد. واليقين أشد تماسكاً وصلابة وقوة وأكثر جلداً وعناداً وثقة، وعلى رغم حكمة عدم اليقين وجماله وضرورته فإنه أقل جاذبية، تنفر منه الجماهير ووسائل الإعلام، ولذلك فإن الذين يجيبون أكثر تأثيراً وحضوراً من الذين يتساءلون، والذين يبحثون عن الإجابة يقصيهم طوفان الجماهير والعواطف والإعلام والصور، والأغرب أن المجيبين والمستجيبين بلا ذاكرة ويقدرون على التغيير والانقلاب بلا تردد ولا ذاكرة، يتشكلون بالنسيان، لكن المتسائلين تثقلهم الذاكرة! والحال أنه لا يكاد يكون ثمة خير أو صواب مطلق وشر أو باطل مطلق، وفي الجدل الدائر اليوم حول ما يحدث في الدول العربية جميعها (تقريباً) فإن أنصار كل موقف أو فكرة يجدون أدلة صحيحة تؤيد موقفهم ولكن المقدمات الصحيحة لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج صحيحة، فالموقف النهائي دائماً يكون ترجيحياً يضع في الاعتبار كل الأسباب المحيطة والمشكلة للمشهد، والتحليل والتفكير العلمي يعتمدان أساساً على عدم الالتزام المسبق بصواب أو خطأ وعلى النزاهة والأخلاق الرفيعة والقدرة على التخلي عن الشخصنة والأدلجة أو تحييدهما قدر الإمكان أو بمستوى معقول. فالصواب لا يُعرف ولا يتشكل بقوة الحجج، إذ يستطيع كل شخص ملتزم مسبقاً بموقف أو فكرة ان يجد أدلة صحيحة ومقنعة لدعم موقفه أو فكرته ومعتقداته، وقد يملك بعض المثقفين والأكاديميين قدرات معرفية وتحليلية تؤهله لتفسير أي موقف (تقريباً) وجعله صحيحاً، لكن تقدير الحق أو الباطل والخطأ أو الصواب والقبيح أو الحسن مستقل ومختلف عن الاعتقاد المسبق بالصواب، فالقيم في البحث والسؤال وليس في الإجابة، والحكمة والتقدم نحو الصواب مرتبطان بالشعور بنقص المعرفة وليس المعرفة، ووظيفة العلم والبحث هي السؤال وليس الإجابة، وبذلك فإن الأفكار والمعتقدات يجب أن تظل مستقلة عن الهوية الفردية أو الجمعية، ليست جزءاً منّا أو تشكل انتماءنا مثل الحياة والأمكنة والمدن والمصالح، والجدل في حقيقته وجوهره ليس مجرداً او مستقلاً حول الأفكار والمعتقدات صوابها او خطئها، الدفاع عنها او مهاجمتها، الإيمان بها أو التخلي عنها، ولكنه في تحسين حياة الناس بما هي أساساً تقوم على الحرية والعدل والاحتياجات والأولويات الأساسية ثم الارتقاء بها على نحو متواصل يجعلها متجددة ومتعاظمة. وبما أننا لا نعرف أو لسنا متأكدين بالنسبة إلى ما هو الأفضل أو الأكثر صواباً فلا نملك سوى تهذيب مشاعرنا ومواقفنا من الكراهية والاشمئزاز أو الشعور بالتميز والأفضلية، وليس لدينا سوى ذلك طريقاً لتسوية الصراع أو إدارته أو محاولة تحسين الحياة أو الاقتراب من الصواب ومراجعة ما لدينا، ولأجل ذلك فقد غلب على الصراعات والحروب فرص التسوية والمصالحات اعتقاداً بأن أحداً