العدمية كانحطاط والعدمية كأفق
محمد أندلسي |
| |
لا نبالغ إن قلنا بأن العدمية تعتبر بمثابة أكبر وأعظم حدث عرفه الغرب الحديث على الإطلاق. هي الحدث الأكبر في الغرب، لأنها تطبع الثقافة الغربية في مختلف مظاهرها بطابعها، ولأنها من جهة أخرى تمثل ضرورة تاريخية وسيكولوجية من حيث هي النتيجة المنطقية لسيادة وهيمنة القيم والمثل العليا للحضارة الغربية. كما تعتبر العدمية بمثابة أعظم حدث عرفه الغرب الحديث، لأن ظهورها سيشكل إيذانا بحدوث انعطاف جذري في التاريخ الغربي، وفي صورة الحضارة الغربية، بحيث لن يعود الغرب مركز الكون ومهد الحضارة الإنسانية ومحورها. المظهر الأول للعدمية يمكن نعته بالمظهر السلبي، من حيث هو علامة على مرض خطير ألم بالحضارة الغربية يلقبه نيتشه تارة "بالانحطاط" La décadence [1]، وتارة أخرى "بالانحلال" La dégénérescence[2]. أما المظهر الثاني للعدمية فهو يمثل مظهرها الإيجابي، وهو الذي ينعته نيتشه بالعدمية الانتشائية Le nihilisme extatique[3]. وهي تمثل اليوم –في نظر بعض الفلاسفة المعاصرين- الأفق الجديد للتفكير في الغرب المعاصر[4]. وهذه المقالة هي محاولة لتحليل المظهرين المتناقضين للعدمية، مع الوقوف بشكل خاص عند المظهر الثاني، -بما هو الفضاء الجديد للفكر الفلسفي الما بعد-حداثي La poste modernité philosophique وذلك بهدف إبراز قيمته ودلالته بالنسبة للفكر الفلسفي المعاصر. 1 – العدمية بما هي انحطاط الغرب الحديث: يلخص نيتشه نقائص عصره في عبارة واحدة هي "إنكار الحياة". على أن تفهم الحياة هنا بمعناها الواسع، من حيث هي المبدأ الكامن وراء الحضارة والمعرفة والسلوك، وهي أصل كل القيم الفكرية والأخلاقية والسياسية والعقدية. وتجد هذه الصيغة تعبيرها في هيمنة "الروح الإنكارية" على الحضارة الغربية، وسيادة "مبدأ تبخيس الحياة والوجود"[5]؛ حيث يصبح السلب هو المظهر الأساسي للوجود، والنفي أو الإنكار هو المظهر الأساسي للإرادة؛ فيصبح النموذج الارتكاسي Le modèle réactif هو النموذج المهيمن على الحضارة والإنسان. إن هذه السمة الإنكارية التي تسم الثقافة الغربية في مختلف مظاهرها، إن كانت تضرب بجذورها إلى مرحلة الانقلاب الذي أحدثه سقراط في الفلسفة، ثم إلى الديانتين اليهودية والمسيحية؛ فإنها مع ذلك تعثر على أساسها الراسخ والعميق في العصر الحديث، وفي طبيعة الحداثة الغربية. حيث أصبح نمط التفكير المهيمن آنذاك هو نمط القلق والتوتر الذي طال الفكر والهوية، وذلك بحكم الطابع المتسارع لعملية التحديث التي كانت تسم الحضارة برمتها بالطابع الانتقالي، في اتجاه صيرورة وعصر جديدين لم تكن عناصره الأساسية قد اكتملت بعد. بل إن بعضها لم تكن قد ظهرت بوادره أصلا. في ظل هذا المخاض لم يكن من المستغرب أن تظهر نماذج من الثقافة واتجاهات في التفكير سمتها الأساسية هي الهجانة والفوضى والشذوذ والتطرف والرفض وتعدد المقاصد وتداخلها: كالدعوة إلى العقلانية المطلقة، أو إلى الفردية المطلقة، أو إلى التطرف القومي…الخ. وهكذا فإن اضطراب التفكير وعدم استقراره كان هو الطابع المميز لعصر انتقل فيه العالم الغربي من نمط تقليدي راكد للحياة والتفكير والثقافة، إلى نمط آخر مغاير ساخن ودينامي لكن معالمه لم تتضح ولم تتحدد بعد. هذه الحركية المتسارعة للتغيير، والتي أخذت عاصفتها تخلخل الركائز الأساسية للحضارة الغربية؛ بدت للكثيرين وكأنها تحول كارثي باتجاه الأسوء، حيث بدا التاريخ وكأنه يتدهور، وأن القيم تنهار، وأن هذا العصر الجديد لن يكون سوى عصر التفاهة والسطحية والابتذال. لكن العدمية التي يعاني منها الغرب كمرض وانحطاط، ليست منحصرة في المظاهر الفكرية أو الثقافة وحدها، بل هي ظاهرة شاملة تطال كافة المستويات، وتضرب بجذورها في أعماق المدنية الحديثة؛ كما تسم الحياة اليومية في مختلف مظاهرها وتجلياتها، حيث تلمس في طريقة الأكل والإحساس والذوق وأسلوب التفكير…الخ. بل إن صاحب "هكذا تكلم زرادشت" لا يتردد في اعتبارها الهواء الذي يستنشقه الأوروبي صباحا ومساء. فهو يقول "لقد أصبحنا الآن في أوروبا نخجل من الراحة (…) لم نعد نفكر إلا ونحن ننظر إلى الساعة في أيدينا، ونتناول وجبه الغذاء ونحن محدقون في نشرات البورصة (…) لم يعد لدينا وقت لأوقات الفراغ عموما. ذلك لأن حياة الجري وراء الربح، تدفع الإنسان إلى استنفاد كل طاقاته الذهنية، إذ أصبح شغله الشاغل هو السعي إلى المواربة والفوز بالسبق: إن الفضيلة الأساسية الآن هي إنجاز شيء ما في وقت أقل مما يتطلبه ذلك عند الغير"[6]. يعرف نيتشه العدمية على النحو التالي: هناك تناقض بين العالم الذي يقدسه الغرب ويباركه، وبين العالم الذي يحيى فيه ويشكل واقعه الفعلي. وهذا التناقض يقتضي ترجيح أحد الموقفين: فإما التخلي عن العالم المفارق، وإما التخلي عن العالم المحايث الذي يشكل فضاء الذات الغربية؛ وليست العدمية في صورتها الأولى سوى اختيار الموقف الثاني[7]. بيد أن هذا الاختيار ليس إراديا وإنما هواضطراري، إذ هو تعبير عن حالة سيكولوجية مرضية تتخذ ثلاثة مظاهر أساسية هي بمثابة أحكام مسبقة[8]: المظهر الأول يتمثل في سعي الفرد إلى سحب الثقة من الصيرورة بل وإلى نفي وجودها. المظهر الثاني هو إدراك عدم خضوع الصيرورة لوحدة وكلية عليا أو لنظام صارم، وهذا ينتهي بالفرد إلى فقدان الثقة في الذات، وفي الكل الذي ينتمي إليه ويستمد منه قيمته. أما المظهر الثالث فهو نتيجة لتبخيس الذات والوجود وفي الوقت ذاته هو بديل عنهما: إنه اعتبار عالم الصيرورة والحياة بمثابة ظاهر ووهم، والاعتقاد في وجود عالم وراء الصيرورة هو العالم الحق. وهكذا فالعدمية –من الوجهة السيكولوجية- لا تعني العدم، أي لا تعني اللاوجود أو اللاقيمة أو حتى اللمعنى؛ بل هي "قيمة عدم". والحياة تأخذ هذه القيمة بمقدار ما يجري نفيها وتبخيسها. والحط من قيمة الحياة يفترض وجود أوهام، لأنه بالوهم يحدث التزييف ويتحقق الحط من القيمة؛ بالوهم تتم معارضة الحياة الواقعية بحياة وهمية، بعد أن يتم تقديمها في صورة ظاهر فتأخذ بمجملها قيمة عدم. يقول نيتشه: "إن الأخلاق والدين يستندان كلية على سيكولوجية الخطأ، ففي كل حالة تختلط العلة بالمعلول: إما أن الحقيقة تختلط مع مفعول ما نعتقد أنه حقيقي، وإما أن حالة من حالات الوعي تختلط مع الخاصية العلية لهاته الحالة"[9]. تعني العدمية إذن الطابع الإنكاري لإرادة الحياة وهيمنة صفة النفي على إرادة القوة[10]. وهو نفس المعنى الذي يورده هيدغر حين يعتبر أن العدمية ليست رأيا مذهبا، وليست مجرد تاريخ ولا حتى بمثابة الخط الأساسي للتاريخ الغربي؛ وإنما هي منطق الحضارة الغربية وقانونها المتمثل في إرادة النفي الكامنة وراء تلك الحضارة. تتشكل العدمية –حسب هيدغر- من عدة لحظات وتمر بعدة أطوار: تبتدئ بلحظة تأسيس القيم العليا، ثم لحظة تبخسيها وسخوفها، مرورا بلحظة الوجود الفارغ من المعنى والفاقد للقيمة، وانتهاء بالدعوة إلى تأسيس قيم جديدة تحل محل القيم البالية[11]. وهكذا يمكن التمييز في العدمية بين أربعة أطوار أو أشكال أو معان: ـ العدمية السالبة أو النافية Le nihilisme négatif وهي تقوم على إنكار الحياة والوجود وتبخيس الجسد وكبت الغريزة وحجب الرغبة باسم قيم مطلقة ومثل عليا مفارقة، أي باسم تقويمات وتأويلات تقدم ذاتها باعتبارها التقويم أو التأويل الحق. ـ العدمية الارتكاسية Le nihilisme réactif وهي بمثابة رد فعل ضد العالم المفارق، وتبخيس للقيم المقدسة والمثل العليا، حيث ينفي العدمي وجود المتعالي والخير المطلق والحقيقة المجردة، أي كل أشكال التعالي والمفارقة؛ كل هذا يتم باسم قيم "إنسانية مسرفة في إنسانيتها"، حيث يتم إحلال الأخلاق محل الدين، وقيم المردودية والفائدة والتقدم والديمقراطية والعقلانية محل القيم والمثل العليا الزهدية. لكن استبدال قيم إنسانية بقيم لاهوتية لا يعني تغيرا في جوهر العدمية، لأن الأمر يتعلق بنفس الحياة الارتكاسية وبنفس العبودية التي كانت قد انتصرت في ظل هيمنة القيم اللاهوتية، وهي تواصل استمرارها في ظل سيادة القيم الإنسانوية. بل لربما تكون هذه العدمية الثانية قد توغلت بنا خطوة إضافية في صحراء العدمية، فنحن نتوهم بأن رؤيتنا أصبحت أكثر وضوحا مما مضى، ومعرفتنا أكثر إحاطة وتملكا للواقع؛ لكننا في الحقيقة لا نحتضن إلا ما تركته القيم العليا البائدة من بقايا القوى الارتكاسية وإرادة العدم[12]. ـ العدمية السلبية Le nihilisme passif وهي تقوم على تبخيس الحياة والوجود مفارقا كان أم محايثا. تعثر هذه العدمية على صورتها الواضحة في الصيغة التالية: "العدمي هو المرء الذي حينما يكون أمام العالم كما هو موجود يحكم عليه بأنه لا ينبغي أن يوجد، وحينما يكون بصدد العالم كما ينبغي أن يكون يحكم عليه بأنه غير موجود"[13]. ويرى دولوز بأن هذا المعنى الثالث للعدمية لن يفهم إلا إذا أدركنا كيف يتفرع عن المعنيين السابقين ويفترضهما في الوقت ذاته. ففي المعنيين الأول والثاني يتم تبخيس الحياة باسم قيم عليا لاهوتية تارة ووضعية إنسانوية تارة أخرى. أما في المعنى الثالث فالإنسان يبقى وحيدا في الحياة، مع حياة جرى تبخيسها وهي تتواصل الآن في ظل عالم بدون هدف وخال من القيمة والمعنى. فمن قبل كان يتم معارضة الظاهر بالجوهر، والشر بالخير، وكان يجعل من الحياة ظاهرا ومن الجسد شرا؛ أما الآن فيجري نفي الجوهر، لكن مع الاحتفاظ بالظاهر[14]. فالعدمي بهذا المعنى الأخير، هو ذلك الذي يرى أنه لا طائل ولا جدوى من أي شيء، والأفضل هو الخمود الهادئ، وعدم الإرادة أفضل من إرادة العدم. ويلقب نيتشه هذا العدمي "بالإنسان الأخير" le dernier homme، وهو الذي أدرك زيف العالم المفارق وتحرر من إكراهه، ولكنه عاجز عن إبداع قيم جديدة فيعيش في العدم المحض. فهو يفهم "أفول المتعالي" بأنه دعوة إلى التنصل من الأخلاق والواجب؛ وبأنه لم تعد هناك أي قاعدة تسير على هديها الحياة. إنه بعبارة واحدة يخلط بين اللاأخلاقية L’immoralité واللاأخلاق L’immoralisme[15]. ويرى هيدغر بأنه خلال هذه العدمية يتم إنكار كل شيء بنفي مضاعف: العالم كما هو معطى، والعالم الما فوق حسي. لكن خلف هذا النفي يوجد التوكيد الوحيد لعالم صار واحدا، ويرفض كل ما كان مثمنا إلى حد الآن، ويتأهب لإقامة ما هو جديد انطلاقا من ذاته[16]. أي خلف هذه العدمية السلبية توجد العدمية الفاعلة. مما يعني بأن العدمية لا يمكن تجاوزها وتصعيدها إلا عبر تحقيقها والدفع بها إلى حدودها القصوى. 2 – العدمية كأفق: الشكل الرابع والأخير من العدمية يسميه نيتشه بالعدمية الفاعلة Le nihilisme[17]، وهو الذي يعتبره إيجابيا وفاعلا ولا يتردد الإعلان عن انتمائه إليه. فهو يقول عن نفسه بأنه بمثابة أكبر عدمي في أوروبا، "الذي جرب العدمية وعاشها، وذاق مرارتها، وأحسها واستشعرها في داخله ومن حوله ومن تحته ومن فوقه"[18]. تحت مظهرها الإيجابي تؤكد هذه العدمية ليس ما هو معطى وسائد، وليس مثالا أو نموذجا مفارقا (المثل الأعلى الزهدي)؛ ولكن مبدأ حيويا لتقدير القيم؛ أي إرادة قوة بما هي معيار جديد للتقويم والتأويل، أي من حيث هي تيبولوجيا وسيميولوجيا تتعامل مع الخطابات والنصوص والظواهر، كشبكات من الاستعارة والمجاز، أو كنسيج من العلامات والأعراض أو كألاعيب من القوة والرغبة، أو كأفخاخ من الخدع والفجوات[19]. ويرى نيتشه بأن العدمية حينما تدرك على هذا النحو تكون قد عثرت على ماهيتها التوكيدية، فيصبح لها مفعولا تطهيريا يمكنها من تصعيد المظاهر التي تجعلها غير مكتملة وهي ثلاثة مظاهر أساسية: الذحل Le ressentiment والوعي الشقي La conscience malheureuse والمثل الأعلى الزهدي L’idéal ascétique[20]. بل إن العدمية حينما تصل إلى هذا المستوى من التحول والتصعيد يمكن أن تشكل فضاءا جديدا للتفكير[21]، وإمكانا جديدا للحياة والوجود[22]. وحسب هيدغر فإن تجربة نيتشه الفكرية ومشروعه الفلسفي برمته هو محاولة جادة لفهم العدمية بهدف تجاوزها من حيث هي أكبر حدث عرفه الغرب الحديث. وتجد هذه المحاولة صيغتها الناضجة والمكتملة في مقولة "أفول المتعالي وخسوف المعاني الكبرى المقدسة". وهي ليست صيغة إلحادية بالمفهوم الساذج للإلحاد، ولكنها تعبر عن تجربة تاريخية أساسية على ضوئها يجب أن تفهم الصيغة النيتشوية الأخرى التي يعلن فيها بأن فلسفته هي "أفلاطونية مقلوبة"[23]. وفي علاقة بهذا المظهر الانقلابي يجب فهم وتأويل النزعة العدمية في فلسفة نيتشه. ويمكن أن أستبق التحليل وأعلن بأن تلك النزعة موجهة أساسا ضد الميتافيزيقا، وهي دعوة لإزالة الأقنعة وكشف الأوهام La démystification التي تنطوي عليها قيمها ومثلها العليا. كما أنها تعتبر بديلا لمفهومها المركزي المتمثل في مفهوم الحقيقة، والذي لا يتردد نيتشه في اعتباره أرقى أشكال المثل الأعلى الزهدي[24]. إن العدمية بما هي "قلب للأفلاطونية" تتخذ مظهرين: الأول هو أنها تعبر عن الحديث الأكثر تشكيلا لتاريخ الغرب، حيث أصبحت القيم والمثل العليا للغرب مبخسة، ووضعت موضع تساؤل ونقد جذريين، فغدت كل الحقائق بمثابة أحكام قيمة متناقضة، والصيرورة التاريخية سلسلة من الكوارث والمفاجئات بدون هدف أو غاية. أما المظهر الثاني فيتمثل في أن "قلب الأفلاطونية" هو قلب لأولوية العالم ما فوق الحسي بما هو النموذج أو المثال الأنطولوجي المفضل. لا يعني هذا القلب جعل الأفلاطونية تسير على قدميها بعد أن كانت تسير على رأسها –على غرار القلب الذي أحدثته الماركسية بالنسبة للهيجلية- لأنه عند هذا المستوى من القلب يتم استبدال العوالم، أما الأمكنة والمواقع فتبقى ثابتة لم يطرأ عليها أدنى تغيير، فهناك أعلى وأسفل؛ وبدل أن يكون الأعلى هو المعقول يصير هو المحسوس، وبدل أن يكون الأسفل هو المحسوس يصير هو المعقول. وطالما يظل الثنائي الأعلى/الأسفل، الفوق/التحت، النموذج/النسخة، هو المحدد لبنية البناء الميتافيزيقي؛ فإن هذا البناء سيبقى محافظا على ماهيته. "قلب الأفلاطونية" إذن لن يؤدي إلى تصعيد العدمية وتجاوزها إلا إذا كان قلبا جنيالوجيا يسعى إلى استئصال الميتافيزيقا من جذورها؛ وهذا لن يتم إلا بعد تفكيك وحذف الأعلى والأسمى. ذلك لأن إلغاء "عالم الحق" يؤدي في المنظور الجنيالوجي إلى إلغاء "عالم الظاهر"[25]. يقول نيتشه: "العالم الحقيقي فكرة لم تعد صالحة لأي شيء، لم تعد تدعو إلى شيء، فكرة غير نافعة، غير مجدية، فكرة مرفوضة، لنبطلها (…) لقد أبطلنا العالم الحقيقي: فأي عالم تبقى؟ لعله الظاهر؟ كلا! لقد أبطلنا عالم المظاهر مع العالم الحقيقي في الوقت ذاته!"[26]. وهكذا تقتضي العدمية في مظهرها الإيجابي ومن خلال التأويل الجنيالوجي إرساء جغرافية جديدة للتفكير الفلسفي، فضاؤها ليس سماء المثل الأفلاطونية، وليس كهف الفلسفة ما قبل السقراطية، وإنما هو سطح المحايثة حيث يحدث الحدث وتتدفق الحياة. يقول نيتشه: "نحن نروم ونستهدف أرضا بكرا لا أحد وضع حدودها، إنه ما وراء كل الأراضي والخبايا المعروفة إلى حدود الآن، عالم يفيض بأشياء جميلة، غريبة، مرعبة وإشكالية؛ وهناك كثير من الأراضي البكر التي يجب اكتشافها. لقد حان الوقت أيها الفلاسفة فلترضعوا مدادكم"[27]. تعني العدمية –هنا داخل هذا الفضاء الجديد- استحالة تأويل الطابع الكلي والعام للوجود انطلاقا من القيم الأساسية الثلاث: الغاية والوحدة والحقيقة، لأن الطابع التعددي والكاووسي للوجود يكذب ادعاء خضوعه للنظام أو للوحدة أو لأي غاية أو مبدأ كيف ما كانت طبيعته[28]. مما يعني أن الطابع المميز للوجود وبالتالي للحياة، ليس هو الصدق وإنما الكذب والوهم. وهذا هو معنى الشذرة السادسة من نص "أفول الأصنام" التي تحمل عنوان "كيف صار العالم الحق خرافة". وهكذا فالقيم العليا التي كان الغرب يستمد منها معناه وقيمته قد تعرضت للتبخيس والخسوف، فأخذ العالم الغربي يبدو في عريه التام خلوا من القيمة[29]. هكذا تبدو العدمية الجذرية كأفول للتأويل الميتافيزيقي للعالم بما هو تأويل يجد مصدره في "ميتافيزيقا الذات" بما هي مركز للكون ومعيار لجميع أشيائه وحقائقه. كما تبدو أيضا كأفول للاعتقاد في الأخلاق، على اعتبار أنه خلف القيم العليا توجد تقويمات أخلاقية تقوم على اتهام الوجود وإدانته، وعلى سلب إرادة الحياة[30]. يقول نيتشه: "فخلف ما يبدو لنا كمنطق طبيعي للعقل الإنساني، والذي تتأسس عليه الخطابات الفلسفية، توجد دائما تقويمات، وهي مستمدة من متطلبات فيزيولوجية ضرورية من أجل الحفاظ على نمط محدد من الحياة"[31]. الميتافيزيقا أو الأخلاق –وهما مترادفان في لغة الجنيالوجيا- هي على المرض الحديث للغرب، والذي لا يتردد نيتشه في اعتبار الحداثة ذاتها عرضه الأكبر. ذلك لأن الميتافيزيقا بما هي سيميولوجيا وتيبولوجيا، ترتبط عبر مسالك مختلفة بالعنف المميز للمجتمع الحديث، ذلك العنف الذي هو أحد مفاعيل العقلانية الغربية ومثلها العليا الزهدية. تجاوز الميتافيزيقا أو العدمية لا يقتضي فحسب تشخيص أعراضها une symptomatologie وتفكيك آليات اشتغالها une déconstruction –وهي المهمة الأساسية التي اضطلع بها المشروع الجنيالوجي في جزئه الكبير وخاصة في نصوص "فيما وراء الخير والشر"، و"جنيالوجيا الأخلاق"، و"أفول الأصنام"- وإنما يتطلب أيضا إقامة علاقة نقدية خاصة مع المجتمع الحديث والحداثة الغربية بما هما تجسيد وتحقيق للميتافيزيقا. وإذا كانت جذور العنف الميتافيزيقي تكمن –في آخر التحليل- في العلاقة السلطوية التي يقيمها الأساس –كمبدأ وكأصل نهائي وأخير- مع ما يتأسس عليه، أو في العلاقة التي يقيمها العالم الحق مع العالم الظاهر، أو في علاقة الهيمنة التي تقيمها الذات مع الموضوع؛ فإن تجاوز الميتافيزيقا لا يتم بالبحث عن أساس آخر جديد انطلاقا منه يتم إقامة بناء جديد، بل يتعلق الأمر بالتخلي بصفة نهائية عن هذا المنطق التأسيسي والأصولي. يقول نيتشه: "الحق أن التساؤل عن أصل الفلسفات وكيفية نشأتها هو أمر لا قيمة له على الإطلاق، وليست هناك إجابة عنه تفضل الأخرى مطلقا، إذ أن بداية كل شيء كانت اختلالا يفتقر إلى النظام والتحدد، وكانت فراغا واضطرابا؛ ولا ينبغي أن نهتم في الأشياء إلا بمراحلها المتقدمة وحدها (…) فالطريق المؤدي إلى كشف أصول الأشياء يؤدي دائما إلى البدائية والهمجية". إن السؤال المتعلق بما بعد الميتافيزيقا أو بما بعد الحداثة –كما يحلو للبعض تسميته[32]-، ليس سؤالا نظريا يتعلق ببلورة مبادئ نظرية تستخلص منها نتائج، سواء كانت بمثابة معايير أحكام حول العالم الموجود كما تفعل "النظرية النقدية"، أم كانت مبادئ عملية تسعى إلى تغييره وتحويله[33]. تجاوز الميتافيزيقا يقتضي إقامة علاقة جديدة مع تاريخ الفلسفة ومع عالم الميتافيزيقا بما هو في المنظور الجنيالوجي عالم الجدلي الغربية، علاقة يجب أن يكون أساسها هو سوء التفاهم Le malentendu وغياب الأساس. ويرى فاتيمو بأن نيتشه من خلال إعلانه "أفول المتعالي" يكون أول فيلسوف أدرك وضعية التجاوز هاته، وحدد مهام الفكر المابعد ميتافيزيقي La pensée postmétaphysique[34]. فالأفول الذي يعلن عنه زرادشت ليس نفيا للمتعالي وإنما إثباتا لخسوفه الحقيقي. بحيث لم يعد يشتغل كمبدأ للعقلنة والتنظيم يمكنه من الانتقال بحياة الإنسان من شروط وجود سديمي إلى آخر أكثر تنظيما وعقلنة، ويمده بمعرفة علمية عن الطبيعة، وقدرة تقنية هائلة لإخضاعها، وبنيات اجتماعية قارة وثابتة تحقق له الطمأنينة والتقدم. لقد أصبح الإنسان هو النوع الذي لم تتحدد بعد خصائصه ولم تتضح ملامحه، وذلك بعد أن تم تجريده من إمكانية اللجوء إلى أي مبدأ متعال أو أساس ميتافيزيقي يحقق له المواساة ويجلب له الطمأنينة في الأوضاع المتأزمة والأحوال التي يحتد فيها الشعور بالخطر والتهديد. هكذا فإن كانت نهاية الميتافيزيقا تجد بدايتها في مقولة "أفول المتعالي"، فإنها تعثر على تحققها واكتمالها في "تجربة العدمية" كما عاناها نيتشه واختبرها في فلسفته. يقول نيتشه: "إنها حقا لفكرة مرعبة أن تتخيل الوجود كما هو بدون معنى وبدون هدف، ولكنه يعود باستمرار كما كان، وكما هو؛ كقدر (…) يؤدي إلى العدم. إنه العود الأبدي"[35]. إن اتخاذ العدمية فضاء للتفكير يشترط إزالة الطابع اللاهوتي عن الكون، وتجريد العالم والإنسان من المعاني المقدسة التي أضفتها الميتافيزيقا عليهما. وذلك –من جهة- من أجل اكتشاف غنى العالم أو الوجود المتمثل في تعدد منظوراته واختلافه وصيرورته، ومن جهة أخرى السعي لإزاحة عوائق انطلاق الفاعلية الإنسانية وتمجيد القدرة الإنسانية على الخلق والإبداع والتجاوز الذاتي، "لأن ما هو عظيم في الإنسان أنه جسر لا غاية، وما يمكن أن نحبه في الإنسان هو أنه تجاوز وفي الوقت ذاته أفول"[36]. وليس مفهوم "الإنسان الأرقى" سوى ما يجب أن يكونه الإنسان بعد "أفول المتعالي". فهو لن يكون روحيا خالصة كما يريد اللاهوت والميتافيزيقا، "إذ لا يتعلق الأمر بإجبار الإنسان على تدمير نصف طبيعته لجعل النصف الآخر ينتصر، بل بدعوته إلى التنمية الكاملة لوجهي طبيعته كليهما". إن العدمية بما هي فضاء جديد للتفكير، تعمل على تأزيم دلالة الوجود وتطرح بشكل جذري إشكالية المعنى والقيمة. وبحكم ذلك فهي تقتضي القيام بتحويل جذري يطال سلم القيم ومعيار التقويم Transmutation et transvaluation؛ كما تقتضي القيام بعملية قلب مضاعفة: قلب سؤال القيمة حول القيمة، وقلب سؤال الفلسفة حول سؤال فلسفة الفلسفة. وهذا القلب المزدوج هو ما يشكل بالنسبة لنيتشه "الفعل النقدي"، ويطلق عليه "التفلسف بواسطة ضربات المطرقة". إذن يقتضي ذلك القيام بقلب للقلب الذي أحدثه سقراط ومن بعد أفلاطون، حيث أحلا المعرفة محل الحياة والأخلاق محل الجسد. والقلب النيتشوي المضاد يتمثل في إرجاع المعرفة إلى الحياة (وحدة أبولون وديونيزوس)، والحقيقة إلى إرادة القوة[37]. وهكذا وتحت تأثير العدمية تقودنا فلسفة نيتشه –على أنقاض الميتافيزيقا- إلى طرح سؤال الجسد، لأن مرجعية الفكر والخطاب والعلامة –لدى الجنيالوجيا- ليست هي مبادئ العقل أو قوانين المنطق، وإنما هو الجسد بما هو لعبة قوى ورغبات. فالوعي العقلي أو المنطقي لا يمثل بالنسبة لنيتشه سوى الجزء الصغير من النشاط الجسدي: "فأنا أعرف بأنني لا أعرف شيئا عن ذاتي، لأن النشاط الأساسي هو نشاط لا واع"[38]. وما دمنا لا نعرف ما الذي يستطيعه الجسد، ولا نوع النشاط القادر عليه؛ فيجب علينا باستمرار تحرير قواه وطاقاته، لأن نشاط الجسد متفوق على العقل والوعي بنفس الكيفية التي يتفوق فيها الجبر على جدول الضرب[39]. أما تبيان كيف يتفوق نشاط الجسد على نشاط الوعي، وما هي مفعولات ذلك التفوق وانعكاساته على التفكير الفلسفي اليوم؛ فهذا يحتاج إلى حديث آخر. [1] - Nietzsche (F), Le nihilisme européen, introduction et traduction par Angèle Kremer-Marietti, aph 13, p38 et p51, édition Kimé, Paris, 1997. [2] - Nietzsche (F), La généalogie de la morale, troisième dissertation, p245, préface de Henri Birault, éditions Nathan, 1981. [3] - volonté de puissance, p15, op.cit. [4]- Vattimo (G), De la justice du droit au droit à la justice, de p98 à p103, Magazine littéraire, n°402, octobre 2001. Et Lyotard (G.F), la poste modernité, p7, éditions de minuit, 1979. [5] - Le nihilisme européen, aph2, p33, op.cit. [6] - Nietzsche (F), Le gai savoir, aph329, p312-213-214, introduction et traduction de Pierre Klossowski, 10/18, 1957. [7] - Le nihilisme européen, p31, op.cit. [8] - Ibid, aph12, chute des valeurs cosmologiques, p36-37. [9] - Nietzsche (F), Le crépuscule des idoles, aph6, p55, introduction Henri Albert, Denoèl/Gontier, 1899. [10] - Deneuze (G), Nietzsche et la philosophie, p169, PUF, 1970. [11] - Heidegger (M), Nietzsche, t.2, p224, traduction Klossowski, éditions Gallimard, 1971. [12] - يطلق نيتشه لقب "الإنسان المتفوق" على العدمي الذي بلغه نبأ "أفول المتعالي"، لكنه لا يتوصل للاقتناع بذلك في قرارة نفسه، وسيستمر في التصرف كما لو كان المتعالي موجودا؛ وبالرغم من استبداله للأساس المتعالي للقيم بآخر إنساني، إلا أن التحول لن يحصل بعد، حيث نقع مجددا تحت هيمنة القيم ذاتها. [13] - Volonté de puissance, p14, op. cit. [14] - Nietzsche et la philosophie, p170, op.cit. [15] - بيار هيبر سوفرين، زرادشت نيتشه، ص150 و151، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1994. [16] - Heidegger, Nietzsche 2, p225, op. cit. [17] - Le nihilisme européen, aph4, p25, op.cit. [18] - aph, p29, ibid. [19] - للاطلاع على مظاهر الجدة التي استحدثتها الجنيالوجيا في قراءتها لنصوص الثقافة وخطاباتها يمكن الرجوع إلى الأطروحة التي تقدمت بها لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة تحت عنوان "الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد/النص الجنيالوجي لدى نيتشه كنموذج"، تحت إشراف الدكتور سالم يفوت، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، السنة الجامعية 2000-2001. [20] - يعتبر دولوز بأن هذه المقولات الثلاث هي التي تشكل التيولوجيا النيتشوية وهي تمثل بحق أحد الاكتشافات العظيمة لسيكولوجيته. وتجسد هذه المقولات المراحل الأساسية لانتصار العدمية السالبة. ولا يتردد دولوز في اعتبار هذه المفاهيم بمثابة المقولات الكبرى للفكر الغربي على غرار مقولات الوجود والكوجيطو والعلية والغائية…إلخ. يمكن الرجوع بصدد هذه المفاهيم إلى مؤلفي دولوز بالفرنسية: "نيتشه" و"نيتشه والفلسفة"، كما يمكن الرجوع إلى مؤلف نيتشه "جنيالوجيا الأخلاق". [21] - La volonté de puissance, p14 et 15, op.cit. [22] - Le nihilisme européen, p25, op.cit. [23] - Heidegger, Nietzsche 2, p144, op. Cit. [24] - La généalogie de la morale 3, aph24, op.cit. [25] - Heidegger, Nietzsche 1, p182, op.cit. [26] - Nietzsche (F), Le crépuscule des idoles, comment le monde vérité devint enfin une fable, aph5 et aph6, p36 et p37, introduction Henri Albert, Denoél/Gonthier 1899. [27] - Nietzsche (F), Paul Rée-lou Von Salomé, Correspondance, tra. De l’allemand par Ole Hansen-Love et Jea, Lacostes, p294, PUF, 1979. [28] - Le nihilisme européen, aph12, p37, op.cit. [29] - Volonté de puissance, p38, op.cit. [30] - Ibid, p41. [31] - Nietzsche (F), Par delà le bien et le mal, aph3, 10/18, union général d’éditions, Paris, 1973. [32] - يمكن الرجوع بصدد هذا المفهوم إلى مؤلف فرانسوا ليوتار المذكور سابقا "ما بعد الحداثة". [33] - Vattimo (G), Une ontologie de l’actualité, p163 et p164, in Que peut faire la philosophie de son histoire?, recherches réunies sous la direction de Gianni Vattimo, éditions du seuil, 1989. [34] - Ibid, p167. [35] - Volonté de puissance, p44, op.cit. [36] - Nietzsche (F), Ainsi parlait Zarathoustra, T1, traduction et préface Genèviève Blaquis Aubier, Flammarion, aph4, p63, Paris, 1969. [37] - Nietzsche et la philosophie, p15, op.cit. [38] - Alain Touraine, La destruction du moi, in critique de la modernité, p132, Fayard, 1992. [39]