| |
جدوى الأدب من جدوى الحياة، والذين يعرفون قيمة الحياة، في استطاعتهم معرفة جدوى الأدب في الحياة، لا في تغيير الذهنيات وتشكيل أنساق جديدة في المعرفة والعقل وممارسة الحياة ذاتها حسب، بل إن الأدب النابع من الحياة يجعل هذه الحياة مُدْرَكَة بمتعة وجذل ووهج جمالي، لذلك دَعُونا ممن يهونون قيمة ما لا يعرفون، فهؤلاء يروجون للقيم الاستهلاكية ويغضبون ممن لا يشاركهم نزعة الحياة الاستهلاكية، وحَرِيٌ بنا أن نوثق الصلة بين أدبنا وواقع حياتنا الفكرية والاجتماعية، بما فيها هذه الحياة الاستهلاكية التي تحاصرنا، وتكاد تنسينا قدراتنا الخلاقة في الإبداع والابتكار والإنتاج الرمزي، فكيف نخلق في أدبنا ونقدنا وعيا جماليا وفلسفيا، به نصل وعينا الإنساني بوعينا الأدبي المثمر الخلاق؟ ما يعوز أدبنا العربي الحديث هو الجانب النظري الفلسفي والعلمي، خاصة فلسفة العلم القائمة على كشوفات الفيزياء المعاصرة، هذه الكشوفات التي غيرت الاتجاهات العلمية بجميع فروعها في الحضارة القائمة. إننا نعاني، في العالم العربي، من قصور فظيع في الاطلاع على هذه الكشوفات والإنجازات الفيزيائية المعاصرة، وليس في مكنة أحد أن يطور النظر إلى الأدب وإلى أهميته في الحياة العامة العربية، إلا إذا عمل (عمل جماعة البحث العلمي) على الإفادة من معارف الفيزياء المعاصرة وإنجازاتها، وقد تكون فلسفة العلم في مقدمة ما نحتاجه، لنشترع في آدابنا ونقدها آفاقا جديدة تتيح التأمل والعمق اللازمين لكل راغب في معرفة زمانه ومعاشه، وما يتصل بهما من ميادين الحياة العامة التي يعيش في كنفها الإنسان العربي. إننا بحاجة إلى الأدب، لأننا بحاجة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة التي نحياها، هذه الحياة المنفلتة الهاربة الممتلئة بالثقوب والخدوش، الحياة السائلة في الصراعات من كل نوع، التي تلقي بالإنسان، في مجتمعاتنا المعاصرة، إلى دَرَكِ الهوان والضعف واستجداء المعارف، بدل إنتاجها وتوسلها في الحياة العامة، بكل أشكال ممارسة هذه الحياة. كيف السبيل إلى ابتكار أفق جديد لأدبنا ونقدنا؟ ما من سبيل سوى سبيل التمثل الواعي القوي لكل ما يطور علومنا وآدابنا تطويرا كاملا يجعلنا نعي أنفسنا وعيا جديدا يضاهي الحياة الجديدة التي صرنا نحياها، بطاقة استهلاكية تفوق بكثير مقدار إنتاجيتنا في الحضارة الإنسانية المعاصرة. الجمال قوة محتشدة، تعمل عملها عن طريق الاشتغال الفني الأسلوبي في الأدب ِكلِه – شعرِه ونثرِه- فنحن عندما نقرأ الرواية لا نبحث عن إدراك جديد للحياة التي نحياها، أو نهيم بها حَسْب، بل نبحث عما يمتعنا في تمثل هذه الحياة وإدراكها الإدراك الصحيح الشفيف. أليس في هذا ما يؤكد جدوى الأدب وضرورته للإنسان. ما مِنْ أحد، في هذه الحياة، لا يخالجه وَجْدُ هذه الحياة، فمحبة الحياة غريزة دفينة في الإنسان، ولا يبرح الإنسان هذه الحياة إلا بعد أن يكون قد غنى للحياة وترنم بمواجده لها، أو حكى عنها وحكى ما جرى له فيها، فكيف نتحدث عن جدوى الأدب، وكأَن لا حاجة لنا بالأدب، هل يستطيع الإنسان نفض اليد من مواجده بالحياة وحكاياتها، بل إنه لا يستطيع التخلي عن اللغة في عيش الحياة، وما دامت اللغة مسكن الوجود الإنساني، فإن الأدب المنبثق عن تلك اللغة سيبقى وسيزداد أكثر مما كان، لأن فاعلية اللغة تتطور عند الإنسان بتطور حياته. في حوار مع عبدالفتاح كليطو ضَمَنَهُ في كتاب «مسار» تحدث عن موسوعية قاموس «لسان العرب» وعبر في ذاك الحوار عن إعجابه العميق والكبير بهذه الموسوعة. إن رؤيتنا للحياة في هذا العالم مرتهنة باللغة التي نملك، وبازدياد معارفنا اللغوية تزداد معرفتنا بالعالم وبالحياة فيه، أما إذا كانت لغتنا موسوعية، فإن معرفتنا ستكون موسوعية. وفي الأدب نضع المعرفة التي تمثلناها بأشكال عديدة تعدد المعارف التي تلقيناها وتعلمناها وأدركناها، ولهذا- قد يكون هذا وحده كافيا- تضفي العلوم الحديثة، وفي مقدمتها الفيزياء التي غيرت مسار العلم الحديث، على المعرفة عامة، ومنها المعرفة الأدبية، رؤية عميقة ثاقبة، تجعل إدراك الكون الهائل ممكنا، وإدراكه بوساطة الأدب، مما يحقق الإشباع الجمالي لدى الإنسان المتعطش بطبعه للجمال بكل ألوانه وأشكاله. إن الذين يتحدثون عن جدوى الأدب اليوم، يَجْدُرُ بهم أن يتحدثوا- بالأحرى- عن جدوى الحياة، أَمَا وَأَن عيش هذه الحياة مُجْدٍ وجميل، فكذلك الأدب مجد وجميل، وبدل الحديث عن جدوى الأدب، من الأنسب أن نتحدث عن أدب الحياة الذي نحتاجه في حياتنا، لأنه يرافقنا في دروب الحياة وفي مواجهة أخطارها وملماتها، وعند فهم هذا الأدب بجمالياته، نزداد فهما لحياتنا ولذواتنا، فالحياة هي (هنا- والآن)، وهي (في مكان آخر)، ليس بعيدا كما قد يذهب تخميننا، هي في مكان آخر نسافر إليه بخيالنا، إِنْ لم نسافر إليه بمراكبنا- أيا كانت هذه المراكب التي نركبها- قليلون، هم الذين يضعون حدا لحيواتهم (كأنهم يقولون أَلا جدوى من هذه الحياة). والذين تعاطوا للأدب وتعاطوا هذا المصير إنما فعلوا ذلك لموقف إنساني، كان دافعهم ومحفزهم إلى اقتراف النهاية. جيرار دي نيرفال وسيرغي يسنين وسيزار بافيزي اقترفوا النهاية لموقف أو لحالة شعورية غالبة. بيد أننا حين نقرأ أدب هؤلاء، نلفي فيه احتفاء رائعا بالحياة. كتب يسنين الشعر منذ الخامسة عشرة من عمره القصير، وقد كتب عن الحياة في القرية التي عاش فيها زمنا جميلا من عمره وبمحبة إنسانية عالية، يقول في القصيدة الأولى التي تؤرخ لبداياته شاعرا: القمر الكبير فوق سقفنا تماما. ومن مكان بعيد تصلني أغنية عندليب» لقد خالج وَجْدُ الحياة يسنين منذ يفاعته، وظل هذا الوجد ملازما له مدى الحياة القصيرة التي عاشها. ورغم أنه عاش في ضنى ومسغبة وكدح وانفلات فإنه ظل (يقدس) الحياة: «في تلك الأطراف، حيث القراص الأصفر وأسيجة الغصون اليابسة المجدولة، تلتجئ أكواخ القرى كاليتامى متشبثة بأشجار الصفصاف» هي أكواخ القرى الشبيهة باليتامى تحتضن الحياة بتمسكها بأشجار الصفصاف، وعلى الرغم من أنها أكواخ فهي لا ترفض الحياة بل تنغرس في عمق الحياة، في الطبيعة التي نحيا في فضاءاتها. هذا المجتمع القروي نموذج للحياة الأولى التي عاشها- ولما يزل في مناطق كثيرة- الإنسانُ في العالم. وها هو الشاعر يخاطب أمه بمحبة: «غدا أيقظيني ساعة الفجر ياأمي الصابرة. عَلَي أن أغدو عبر تلال الطريق لألقى ضيفا عزيزا» كثيرون، هم أولئك الذين أوصووا هذه الوصية، وخاطبوا أمهاتهم هذا الخطاب، لكن عندما يعلن الشاعر هذه الوصية المعتادة يتحول المألوف المعتاد إلى شيء غض طري كأنه يقال لأول مرة، ونحن الذين نقرأ هذا الشعر، تحتدم في نفوسنا انطباعات الموقف ذاته الذي مررنا به لكننا لم نكتب أدبا عنه، قلناه وصمتنا ولم يصمت الشاعر، لأنه يعيش الحياة من جديد بتجربة اللغة، ونحن نشعر معه بهذه التجربة التي كادت تضيع، لولا اللغة، فلغة الأدب هي لغة الحياة الخاصة – وهي لغة مفعمة بالغرابة- حياة الشاعر- الأديب- الذي يحتفي بالحياة بلغة تتدفق غرابتها: «أيقظيني غدا ساعة الفجر وأوقدي في الغرفة الضوء(…) أتغنى بكِ أنتِ.. أتغنى بالضيف، بالديك والموقد والمأوى.. وعلى أغنيتي يندلق حليب بقراتك الشقراوات طاب مساؤك أيتها السكينة الذهبية حيث تنطرح ظلال البتولا على الماء. وجمعٌ من الزاغ فوق السقف يتلو صلاته المسائية على مسمع النجوم». فالشاعر إِذْ يخاطب السكينة- ظلال البتولا على الماء، الظلال الوارفة، يرى أن (الزاغ) فوق البيت، حيث يقيم يتلو صلاته على مسمع النجوم، وعلى مرأى ومسمع الشاعر ذاته الذي يتأمل هذا المشهد الرائع من الحياة اليومية في القرية.. ويتملى الحياة ويحياها ويخوض في تجارب الحياة إلى درجة يعلن فيها: «ولا شيء يبعث القلق في نفسي. لا شيء يبعث أي ارتعاشة. من أحب ليس بمقدوره أن يحب ثانية. ومن احترق أنى لك أن تحرقيه». ولم يغادر يسنين هذا العالم، إلا بعد أن ترك خلفه خمسة مجلدات أدبية، وهو لم يبلغ أكثر من الثلاثين سنة، وقد ترجم منها الشاعر العربي حسب الشيخ جعفر كتابا شعريا تحت عنوان (قصائد مختارة). إن جدوى الأدب من