|
السؤال كبير والإجابة عنه أكبر، وأعرف سلفا أن المثقف العربي عموما ليست لديه مرجعية علمية لفهم نفسه وما حوله. استنتجت ذلك في مناقشات عدة مؤخرا حول موضوع محدد ربطته مباشرة بقيمة الحب والجنس على معلم الزمن. كل ما سمعته من تنظير كانj لديه مرجعيات أدبية، وإن كانت أعمق بقليل فهي لفلاسفة أقربهم إلينا غادر الحياة في أواسط القرن الماضي. في لحظة وخلال أحد تلك النقاشات الساخنة هبّت إحدى الصديقات لتعطي رأيها العلمي بالموضوع، فثار صديق كان قد أمسك بدفة المناقشة ولمّح ولو مزاحا إلى أنه سيغادر إن دخل النقاش هذا الباب. أي باب؟ من الواضح أن باب العلم في مواضيع لا تزال فضفاضة عندنا مغلق. وإن فتح فإنه يفتح على جهل صاحبه فيغلق ثانية. لماذا هذا الخصام بين النخبة والعلم؟ هذه النخبة التي تعتبر نفسها صفوة المجتمع، والتي يصفها آخرون بعيون بسيطة أنها «أولئك الناس الذين يدخنون في المقاهي ويثرثرون في السياسة ويكتبون الشعر» لماذا لم تكن فعّالة بالمعنى الصحيح للكلمة؟ لماذا لم تندمج مع الأدمغة المحرّكة فعلا للحياة؟ لعلّ نخبتنا هي الواردة في القرآن الكريم «الشعراء يتبعهم الغاوون» من منطلق واقع عربي محض، ظلّ ثابتا على المعطيات نفسها فيما العالم خرج من ثقب الإبرة ذاك إلى فضاء أوسع. النخبة التي تجهل من هم علماء الفيزياء والرياضيات والطب في محيطها نخبة جاهلة. النخبة التي لا تطرح الأسئلة الكبيرة حول مصير الشعوب ومستقبلها وطرق حمايتها نخبة لا يليق بها لقب «صفوة المجتمع». النخبة التي تتخذ من أعضائها موضوعا لنميمة منظمة لا ترقى لمستوى النخب. النخبة التي تنقسم بين معارض وموالٍ نخبة لا تعرف أن تكون في موقع القيادة، بل في مواقع التبعية، وكثيرا ما تنتهي مائعة في الاتجاه الذي تصب أموال السياسة، وبذلك فهي عاجزة، ولا تأتي بأي شكل من أشكال الحلول، بل تأخذ دفة الشجارات السياسية وتمثل مرؤوسيها. شيء واحد يخطر على بالي وهو أننا أخطأنا في تصنيف النخبة مع خلط سيئ للأدوار، فالنخبة هي الطبقة التي ينبعث منها النور لقيادة مجتمع، ولا يمكن أن تكون سوى زبدة أدمغة أهل البلد الذي تنتمي إليه. هي علماء يبحثون في جعل حياة المجتمع أجمل بما يملكون من معارف، ولا بأس إن كان بينها الحالمون الذين يصورون ذلك عبر أشعارهم ورواياتهم ومسرحياتهم وقصصهم. أقول لا بأس لأن الأحلام لا تتحول إلى حقيقة دون أدمغة تنفذ، وما يجهله العقل العربي اليوم هو أن «الأدمغة المنفذة للفكرة» لا يمكن إيجادها في حقل السياسة والأموال المرهونة في «خصامات الورثة»، وهذا المصطلح الأخير أحب أن أستعمله للإشارة لوضع سائد منذ آلاف السنين عندنا رغم تطور الرجال الذين يمثلونه من حملة سيوف إلى حملة أسلحة متطورة مقتناة من الغرب. أكثر من 800 عالم من أفضل علماء أوروبا وأمريكا يجتمعون سنويا في أوكسفورد، ليعرضوا أفكارهم التي خرج منها الكثير مما نجهله. ثلث أشجار العالم سيختفي بسبب التصحُّر في نهاية القرن فما الحل؟ تطرح الحلول وتناقش فيلتقطها المستثمرون بكل أنواعهم، ومن بينهم الكتاب وشركات الإنتاج السينمائي ودور النشر، ويصبح الموضوع إبداعيا لنشر الوعي وتغيير أجندة الأطماع السياسية تحت ضغط الرأي العام، في غياب كامل لتغطية إعلامية عربية للموضوع تبدو المقاطعة. الأصوات الهامسة التي تقول إن أطماعهم السياسية وخططهم للاستيلاء على ثرواتنا أكبر بكثير مما أتخيله أُذكِّرُهم بأننا لسنا محصنين، وهشاشتنا لا تفتح الأبواب للشياطين التي تسكننا فقط، بل لكل ذي أطماع تقوم غايته للحصول على ما يريد على التخريب كمبدأ. نحن مجرّد أخشاب مبعثرة في بحر ويصعب جمعها لتركيب سفينة من طرف غارق. نرتب قائمة الأشياء المهمة في حياتنا بشكل عشوائي، فقبل الوعي نضع المال، وقبل المال نضع «عصبيتنا القبلية» التي حظيت بألقاب مختلفة على مر السنين. حتى حين كنا تحت استعمارات أوروبية مختلفة، كانت ثوراتنا تنبع من هذه العصبية التي خدمتنا مؤقتا ثم انقلبت علينا في أيام السلم. المثقف ابن النخبة لم يتخلّ هو الآخر عن هذه العصبية، وهو يحمل عصبيته عبر القارّات، وحيثما حلّ نصب خيمة قبيلته الأولى، وأخرج عتاد أجداده ليحارب كل من يتربص بخيمته ودابّته وسيفه وحريمه. وهو إن ناضل من أجل الحريات فهو حتما لا يعني حرية زوجته الشرقية، وإن ارتدى البدلة وربطة العنق وشرب النبيذ في كؤوسها ذات الأعناق الرّفيعة فلئلا يتّهم بالرّجعية والتخلف، وإن حفظ عن ظهر قلب كيف يستعمل ثلاث شوك وثلاث سكاكين مرصوفة على مائدة سفرة فلكي يبدو بمستوى أسياده الذين يستخدمونه. مسلسل الميوعة هذا أصبحنا نعرفه جيدا، ونعرف أنه يخفي أمورا ثابتة في رأسه تجعله جاهزا دائما لارتداء معطف بداوته متى ما تطلّب الأمر. فما الذي ينقصنا إذن؟ إن كان الكاتب والشاعر وغيرهما من أهل الفن والإبداع سادة التعبير فأعتقد أن هذه الأداة يجب أن تسخر لأهل العلم، ليرى مجتمعنا أفكارا مضيئة في أدمغة محاصرة بالجهل واللامبالاة، وترى حكوماتنا ما ينقص شعوبنا الضالة. فالصحيح أن النخبة هي حلقة الربط بين المجتمع ومن يمسكون بزمام التطور والإدارة، ومصائرنا في أيديهم. وليس من الحكمة أن نرمي بهذه الحلقة في فضاءٍ سياسي غير منتج، أو محفّز للاختلافات الحادّة. وليس عدلا أن تتحول تلك الطاقة الإيجابية إلى آلة للكلام مجرّدة من تأثيرها السحري لطرح الأفكار ومناقشتها والقيام بوظيفة أعظم مما تمارسه حاليا. فنحن نعرف سلفا أن اللغة وكل أدوات التعبير روابط لتقريب المختلف ببعضه بعضا، وهذا يعني بالمجمل أن حلقتنا الضائعة هنا، في سر التخاطب والتحاور ولمّ الشمل. ملاحظة على سبيل المثال قبل الحديث عن حرية العلاقات الجنسية واختبار الجسد لاكتشاف طلاقته وأمور أخرى يؤمن بها «الذكوريون» على المثقف الذي يطلق هذه الفكرة أن يشبعها بالحقيقة العلمية والحكمة التي تحفظ الجسد من مخاطر هذه المغامرة. إننا أبناء اليوم ولسنا أبناء سبعينيات القرن الماضي. أبناء العلم الذي بحث في أخطاء السلوك البشري وكشف أن أجسادنا تعيش في عالم مليء بالفيروسات والكائنات اللامرئية، التي قد تحوّلنا إلى مزارع تقتات عليها إن لم نتعامل مع هذا العالم بالحكمة العلمية لا الدينية. لأن المفهوم الديني حسب مفسري العصور الغابرة يدعون لتلك الحرية التي تحطم جسد المرأة وتستعمله كمتاع للمتعة، دون التقيُّد بأدنى إرشاد وقائي وبالإمكان استبداله متى ما انتهت صلاحيته. أعرف في النهاية أن الموضوع شاسع، ولا يطرح في مقال واحد، لكني أتمنى على نخب