|
“إن اراد احدٌ ما أن يجمع تاريخ الروح الإنسانية في مساحة صغيرة، في بيتٍ واحد ، أو في غرفة واحدة، لتكون له وحده .. يمكنه فقط أن يجمعها على هيئة مجموعة من الكتب” قررت مؤخرًا تعليم نفسي الكتابة باليد اليسرى ، لمعت فكرة هذه الهواية الغير تقليدية بشكل جزئي بعد قراءتي للمرة الثانية التحفة الفنية “مقالات عن اليد اليسرى ” للرائد في علم النفس في جامعة هارفرد جيروم برنر، أحد أجمل وأكثر الكتب قيمة في القرن الحادي والعشرين . وحيث أنه كان الشهر العالمي للشعر ،قررت كتابة قصيدة في كل يوم من أبريل بيدي اليسرى ، ما وراء الإحساس بالرضا من إتقاني للمهارة بصعوبة ولكن بتقدم ملموس ، كانت المحاولة ذات تأثير سحري بشكل غير متوقع.. تفتحت أمامي أبواب غريبة ومذهلة عبر الزمان والماضي ، أعادتني التجربة إلى نفسي التي كانت تتعلم القراءة والكتابة في طفولتي في بلغاريا . بشكل عام أفتقد الكثير من ذكريات الطفولة هناك ، لذا كنت متفاجئة بذلك الوجود الحي ، بتلك الذاكرة الحية النشطة ، بالاعتزاز الطفوليّ والفرح بالكلمات المكتوبة ، من الصراع في عالم لا محدود من المعاني المحشوة في صفحات مخطوطة بالحروف المتعرجة بتلك الطريقة. عندما كبرنا وتعلمنا القراءة وصارت بين أيدينا ، تصلبت روعة القراءة وتحولت الى عادة ، بعدها تركنا سحرها يسقط إلى القاع. انتهينا أخيرًا إلى اعتبار هذه القدرة المدهشة أمرًا عاديًا وحدثا من المسلّمات. لم يقم أحد بإعادة مكانة وأهمية الكتب أكثر جمالًا مما فعل هيرمان هيسه(July 2, 1877–August 9, 1962) الكاتب والفنان السويسري والألماني الأصل ، في مقاله العظيم الذي كان قد كتبه في 1930 بعنوان ” سحر الكتاب ” والذي وجد في تحفته الفنية ( اعتقادي : مقالات عن الحياة والفن ) الذي نشر بعد وفاته . يكتب هيسه : ” من بين العوالم العديدة التي لم يتلقاها الانسان من الطبيعة، ولكن خلقها في عقله، عالم الكتاب هو الأعظم ، بدون الكلمات ، ولا كتابة الكتب لم يكن ليوجد تاريخ ولا حتى مفهوم الإنسانية. إن اراد احدٌ ما أن يجمع تاريخ الروح الإنسانية في مساحة صغيرة، في بيتٍ واحد ، أو في غرفة واحد، لتكون له وحده .. يمكنه فقط أن يجمعها على هيئة مجموعة من الكتب” المسألة حول عمل الكتاب ولمَ وجد الكتاب بالأصل ، هي بالتأكيد ثابتة ومستمرة. الكتب بالنسبة لكافكا : ” هي الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا” ،ولكارل ساجان ” الدليل على أن البشر قادرون على عمل السِّحر” ، اما ل جيمس بولدوين ” وسيلة لتغير مصائرنا” ، ولنيل جايمان ” وسيلة لإظهار أعمق الحقائق الإنسانية” ،و للحائز على جائزة نوبل البولندية فيسوافا شيمبورسكا فيقول عن الكتب :” حدودنا القصوى من الحرية” وإذا اقتربنا اكثر من غاليلو نلاحظ أنه رأى القراءة كوسيلة لامتلاك القوى الخارقة ، كما اتخذ هيسه بعين الإعتبار الدور التاريخي الذي مثلته الكلمة المكتوبة ويقول عن ذلك : ” الكتابة والكلمات لدى كل الشعوب مقدسة وسحرية، اعتبرت الكتابة والتسمية بالأصل عمليات غامضة ، إخضاعات الطبيعة السحرية من خلال الروح ، ولطالما اعتُقد في كل مكان أن هبة الكتابة كانت من أصل إلهي .ولدى معظم الشعوب ، ظلت القراءة والكتابة محفوظةً لتكون لغزًا وسرا غامضا ووفنًا مقدسًا للكهنوت وحده “ “اليوم ، على مايبدو تغير كل شيء تمامًا ..اليوم يظهر جليًا أن عالم الكتابة والفكر مفتوحٌ للجميع ، أن تكون قادرا على القراءة والكتابة أصبح شبيها بقدرتك على التنفس .. الكتابة والكتب سُلبت بوضوح كامل من كل معنى للمهابة الخاصة ، من كل روعتها ، من كل سحر .. من وجهة نظر الحرية والديموقراطية هذا هو التقدم وهو مقبول كأساس لعجلة التغيير ، غير أن هذا بالتأكيد هو إسقاط وتقليل من أهمية ومكانة الروح المعنوية للكتب والكتابة” قدم هيسه رأي متفائل عن الأدب الحديث البائس ، والذي ساهم في ضياع القيمة الحقيقية للكتب في القرن الحادي والعشرين، قدمها عبر مقالاته التي نشرها بعد عدة سنوات من مناهضة فرجينيا وولف الحماسية ضد شرور السينما – معارضا ذلك بقوله أن وسائل الإعلام الحديثة من راديو وأفلام – والإنترنت اليوم- لا يشكلون خطرًا على أهمية الكتاب . وفي تأكيده على تلك قيمة الكتاب المعنوية للإنسان ، يكتب هيسه : “ليس علينا الخوف من القضاء على مستقبل الكتب. على العكس فكلما أشبعت الحاجات من تعليم وترفيه عبر الاختراعات الأخرى ، كلما ارتفعت مكانة الكتاب وزادت قوة حضوره. حتى أكثر الناس تأثرًا بصبيانية هذه الاكتشافات سوف يضطر للاعتراف أخيرا بأبدية الكتابة والكتب. ولسوف يتضح وضوح الشمس أن صياغة الكلمات وكتابتها لن تساعدنا فقط ، بل هي في الواقع الوسيلة الوحيدة التي تمكن الانسانية من امتلاك الوعي المستمر والتاريخ “ وفي جملة متبصّرة فائقة الروعة يقول ” لم نصل بعد تمامًا الى تلك النقطة حيث المنافسين الأحدث كالراديو والسينما وغيرهم قد أخذوا تماما كل شيء من الكتاب المطبوع ، فقط ذلك الجزء من وظيفته والتي بالطبع ليست ضرورية” يتضح أيضا في الوقت الحاضر أن صنع الثقافة ونشرها متأثر للغاية بالفرق بين الكتّاب والفنانين من جهة ، وبين صنّاع المحتوى من جهة أخرى . وهذا أيضًا ينبئنا بخلو جوهر الثقافة من المضمون . يضيف : ” تراجعت القيادة من أيدي الكهنة والمفكرين إلى مكانة ما، حيث لا يتم محاسبتها و جعلها محل مسؤولية ، الى حيث لايمكن لأحد جعلها أداة للشرعية والمطالبة بسلطتها المطلقة. لذلك قامت مجموعة من المثقفين والكتّاب ممن يشكلون الرأي العام أو على الأقل يشكلون بعض مطالب الشعب بالقيادة ، بالرغم من أن طبقة المثقفين هذه ليست مماثلة لطبقة المبدعين” أما عن طبقة الإبداع ، كما يقول هيسه إنها تتشكل من الأعمال الخالدة التي استمرت بإبهار الخيال لعقود وقرون أو حتى لآلاف السنوات بعد إنشائها . سواء كانت من الفلسفات الشرقية القديمة والتي تبناها الغرب حديثًا ، أم من أعمال نيتشه العظيمة ، والذي قد رُفض من قبل شعبه بالإجماع، وبعد ان تلقى رسالته البعض من العقول القلة ، أصبح بعدها الأديب المفضل ذو الكتب التي لاتكف المطابع عن طباعتها ونشرها . استعار هيسه لفظ ( شاعر ) من الرائع جيمس بولدوين هنا، ليوصلنا إلى ماوراء حدود حياته ، ويقف شاهدا على وجهة نظره الخاصة : ” كل يوم نلاحظ أكثر كم هو عجيب ومدهش وخياليّ هو عالم الكتب؛ كيف يكون للكتاب كل هذا السحر العظيم وفي لحظة واحدة يختفي كله. يولد شعراء ويموتون ، قد يعرفهم البعض او لا أحد يلتفت إليهم ، لنرى أعمالهم تزدهر فجأة بعد عشرات السنين من موتهم .. يرتفع ألقهم من قبورهم ليبدو الزمن وكأنه لم يوجد بعد غيابهم.” هذا ماقدموه لنا الشعراء تحديدا ، سحر الكتاب ، سحر خالد يستحيل إخماده . مع ذللك سهل النسيان ويعتبره الغالبية من المسلّمات ، في ذلك يضيف هيسه : “اذا كانت القدرة على القراءة جزء يمتلكه الجميع ، يظل القليل منهم يعرف قيمتها وحجم القوة التي وضعت بين يديه . يفخر الفتى في طفولته بمعرفته للأبجدية التي أتاحت له قراءة الآيات والأقوال ، بعد ذلك قراءته لأول قصة قصيرة خيالية. وبين أولئك العالقين في قراءة تقارير الأخبار في الصحف اليومية ، يظل هناك عدد لابأس به مبهور دائما بالدهشة المصاحبة لقراءة الرسائل والكتب (والتي هي بالتأكيد قد أبهرت الجميع من قبل ) ، من هذه القلة يأتي القراء الحقيقيون . يكتشفون القصائد والقصص بدهشة الأطفال ، وبدلا من أن يديروا ظهورهم لها بعد تمكنهم من القراءة ، يمضون قدما في عالم الكتب، خطوة بخطوة يكتشفون كما شاسعا، متنوعا وعظيما هو عالم الكتب. اتخذوا هذا العالم في البداية كحديقة أطفال جميلة مفروشة بالتوليب في وسطها بركة سمك صغيرة ، الحديقة أصبحت متنزه كبير ، ثم أضحت المشهد الكامل ، جزء اصيل من الأرض ، من العالم. أصبحت جنة وساحل من العاج . هذا العالم يفتننا باستمرار بسحره المتجدد ، بألوانه المزهرة التي لم توجد من قبل . وما بدأ بالأمس كجنينة ، حديقة أو غابة .. يصير اليوم أو غدا كالمعبد. معبد بآلآف الحجرات والساحات ، حيث روح الأمم والأزمان القديمة حاضرة دائما ، في انتظار مستمر للحظة احيائها ، على استعداد دائم لجعلها ظاهرة موحدة . ولكل قارئ حقيقيّ يبدو هذا العالم اللامنتهي من الكتب مختلفا ، لكل واحد منهم طريقة في إيجاد نفسه عبرها ., هناك آلاف الطرق عبر الغابة والتي تؤدي لآلاف الأهداف المختلفة ، كذلك الكتب. ليس هناك طموح منتهي بطريق ما ، لأنه مع كل خطوة ينفتح امامنا مدى واسع من المساحات والأحلام ، تنتظرنا لنحققها” بعد نصف قرن من تصريح بوب دايلن ” لا نحتاج المزيد من الأغنيات ، لأن هناك مايكفي من الأغاني لكل الناس إن أرادوا يوما الاستماع لها” ، ومن ذلك المنطق ، يضيف هيسه : ” حتى وإن لم يتم نشر كتاب جديد واحد على الأقل ، يمكن للقارئ الحقيقي أن يقضي عشرات السنين بل قرونًا من الدراسة والكفاح والاستمرار بالاستمتاع بثروة تلك الكتب الموجودة بالفعل لدينا.” مرة أخرى ، مالذي أضفى على القراءة تلك المتعة والسحر المطلق؟ يؤكد لنا هيسه أن السبب يكمن في أن تلك المجموعة الهائلة من الكلمات ، متنوعة للغاية ومختزلة في آن واحد إلى أبسط وأكثر الحقائق الإنسانية عالميةً. الشيء العظيم والغامض حول تجربة القراءة هذه ، هو ببساطة : أنها كلما ازدادت تميّزا ، أصبحت بالتالي أكثر تأثرا ، وكلما ارتبطنا أكثر بالقراءة ، كلما ازداد وضوح رؤيتنا لكل فكرة ولكل قصيدة في تفردها وتميزها وفي تفاصيل حدودها الدقيقة ، لرؤية كل الجمال والسحر المتعلق بهذه الفردية والأصالة. ندرك مع الوقت أكثر كيف تسعى مئات الأصوات كل يوم من كل مكان نحو الأهداف نفسها ، تدعو الإله نفسه بأسماء مختلفة ، تحلم بأمنيات متشابهة ، تعاني الآلام ذاتها ، عبر صفحات مكتوبة بلغات لا تعد ولا تحصى وكتب الموجودة منذ الاف السنوات ، ليطل وجه الإنسانية بلحظات حالمة ، محدقًا بنبل فائق الروعة بوجه القارئ ، مفتونًا بالوحدة. وحدتنا بالرغم من ملامحنا المتناقضة. في النهاية ، يبقى اعتقادي بأن لا حدود لعبقرية هيسه ، ذلك الكنز المتوهج بحكمته المضيئة في كل شيء. من الفن ، للسعادة ، حتى الشيخوخة ونهاية بالوصول الى إرث جبابرة الابداع أمثال غوته ، ديستويفسكي ، وايتمان ، هانز اندرسون ، د.هـ.لورانس ،كارل يونغ ، لتكملها مجموعة المراسلات الرائعة بين هيسه وتوماس مان ، اي.بي. وايت في كتابه “مستقبل القراءة ” و نيل جايمان”لماذا نقرأ ونروي؟