|
هل ما تركه أبي خير وكفاية، أم من الضروري إخضاع هذا الميراث للسؤال ونقده وتنقية شوائبه، حتى لا نكون كمن ورث الريح؟ هذه هي القضية التي تطرحها مسرحية «المحاكمة» المعروضة حالياً على خشبة المسرح القومي المصري في القاهرة والمأخوذة عن «ميراث الريح»، تأليف جيروم لورنس وروبرت لي، إعداد وإخراج طارق الدويري المشغول دائماً بمناقشة القضايا الإشكالية كما فعل مع «غاليليو غاليليو»، و»الزومبي والخطايا العشر»، وغيرهما. تجنب الدويري في معالجته النص الاصطدام بعنف مع المجتمع، وبدا كمن يمشي على الحافة، متجنباً السقوط في فخ المباشرة، أو فخ التحديد الواضح والصريح. فرجل الدين هنا لا نستطيع تحديد ديانته، ودار العبادة التي يرد ذكرها هي دار في المطلق لا نستطيع تحديد هويتها. فقط كانت المدينة التي تدور فيها الأحداث هي «المدينة السماوية»، في إشارة إلى أن الناس فيها يؤمنون بديانة سماوية بغض النظر عن قوة إيمانهم أو ضعفه، أو عن فهمهم أو عدم فهمهم طبيعة الدين الذي يؤمنون به. يدعو العرض إلى فهم الدين على نحو صحيح، ويستمد منه الدعوة إلى إعمال الفكر وطرح السؤال. فالمدينة، بسكانها الذين لا يعرفون من الدين سوى قشوره، ترفع لافتة: «ما تركه أبي هو خير لي وكفاية». ومن يجرؤ على التفكير والسؤال مصيره المحاكمة والتشويه والطرد من جنة «وارثي الريح» الذين يعيشون في حال برمجة ضبطت موجاتها على التسليم بما هو كائن، أو بما هو موروث من دون الاقتراب من جوهره وتأمله والتحديق فيه بعمق. وعندما تجرأ أحد المعلمين (عماد الراهب) وقرأ على تلامذته فصلاً من كتاب يطرح مؤلفه بعض الأسئلة عن طبيعة الكون، وعلم «الرجل المحترم» (حمادة شوشة) و «الرجل الفاضل» (أشرف عبدالغفور) بالأمر، دفعاً في اتجاه محاكمة المعلم. محاكمة هنا تتحمس إحدى صحف المعارضة قضية المعلم وتوكل له محامياً هو «الرجل الوقور» (سامي عبدالحليم) الذي يتوجه إلى المدينة ومعه مندوب يمثل الصحيفة ذاتها لمتابعة الحدث. وتختار المحكمة مجموعة من أفراد الشعب الذين يرفعون لافتات «ما تركه أبي هو خير لي وكفاية» ليشكلوا هيئة المحلفين، ومن خلال أسئلة محامي المتهم التي خضعوا لها، نكتشف أن أحداً منهم لم يقرأ كتب الدين، ولم يقرأ كذلك الكتاب المتهم بشأنه المعلم. فهم مدفوعون فقط بما يقوله الساسة ورجال الدين المزيفون الذين نكتشف أيضاً عدم معرفتهم الوثيقة بأمور دينهم ليصبح الأمر عبثياً ومضحكاً. تدور المحاكمة وسط سُخط الجميع على ذلك المعلم الذي تجرأ وسأل، لكن المبارزة سرعان ما تنقلب لمصلحته بعدما أظهر محاميه جهل «الرجل الفاضل» بالدين وبما جاء في الكتاب الممنوع. وفي النهاية، وأمام الأدلة والبراهين التي يقدمها المحامي تتهاوى حجج المحكمة ولا تستطيع سوى الحكم على المعلم بالغرامة، لكن الأهم أن الشعب، من خلال حضوره المحاكمة، يحدث له نوع من الاستنارة ويبدأ وعيه التفتح والنضج، ويقبل طرح الأسئلة، ويدرك أن ما تركه الأب ليس خيراً في إطلاقه وأنه لا بأس بمساءلته. في عرض كهذا قد يقع بعض المخرجين في فخّ الخطابة، لكن المخرج الذي يدرك أن العرض المسرحي لا تقوم له قائمة من دون التشكيل الجمالي وإلا تحوَّل إلى مسلسل إذاعي، حشد طاقته لتقديم صورة تعين الدراما على تحقيق غايتها وتمثل داعماً أساسياً لها، وهكذا استغل الخلفية كشاشة عرض سينمائي قدَّمت بالتوازي مع التمثيل، مشاهد بعضها هو نفسه ما يقدم أمامنا على الخشبة مع استخدام اللقطات القريبة، لتعكس بدقة انفعالات الممثل التي كان من الضروري الاقتراب منها. الابتعاد من الخطابة وكان الديكور (محمد جابر ولينا علي) عبارة عن سلم عال وضع في الخلفية أيضاً أمام الشاسة مباشرة من غير أن يحجبها، واستخدم كزنزانة للحبس وكوسيلة يعرض بواسطتها الممثلون ألعابهم، وبدا كما لو أنه يؤدي عبر السؤال والتفكير إلى الصعود عالياً. وفي مشهد دالّ في نهاية العرض، يصعد المحامي عالياً، بينما يقف في الأسفل رجل الدين المشغول بتحقيق مصالحه ومصالح الساسة المولعين بحب الظهور وسرقة الأضواء. استغل المخرج خشبة المسرح الدوّارة في مشهد المحاكمة حيث دارت القاعة بالقاضي وممثلي الادعاء، بينما ظل المحامي ثابتاً في دلالة على حيرة المحكمة وعدم قدرتها على الإمساك بدليل إدانة المتهم. وفي أحد المشاهد تتحول القاعة إلى ما يشبه حلبة المصارعة التي يتبارى فيها المحامي مع «الرجل الفاضل» الذي بدا مهزوماً وغير قادر على مقارعة الحجة بالحجة. أيضاً، استغل المخرج مجموعة الممثلين معه في إحداث حالة من الحركة المسرحية المبهجة عبر الرقص والممارسات الحياتية التي تظهر طبيعة أعمالهم وظروفهم الاجتماعية السيئة، ما يخفّف كثيراً من ثقل العرض الذي يستمر نحو ساعتين ونصف ساعة، لم نشعر خلالها بالملل سوى في الدقائق الأخيرة التي أفرط فيها المخرج في ما يشبه الحديث المعاد الذي يؤدي إلى التراكم لا التصاعد. أما الموسيقى (تامر كراون) والإضاءة والملابس (أبوبكر شريف) فأدت دوراً فاعلاً في الدراما، وفي معظم اللحظات نسمع مويسقى أشبه بصفير الريح، بتنويعات مختلفة، وكأن المخرج يحذرنا من ميراث الريح. وفي الفواصل، وعند تحريك الديكورات من دون اللجوء إلى الإظلام، هناك عزف حي على الأكورديون، وسط إضاءة تستجيب دائماً لطبيعة المشهد وتعمل على تعميقه وإبراز دلالاته. وتم توظيف الأزياء كذلك في إبراز طبيعة الشخصيات، وخصوصاً وكيل النيابة الذي كان يرتدي ملابس أقرب إلى ما يرتديه رجل الشرطة لا رجل القانون، فضلاً عن ملابس أفراد الشعب التي تعكس طبيعة أعمالهم وأوضاعهم الاجتماعية، وحتى طبيعة تفكيرهم. «المحاكمة» عرض فيه من المتعة الفكرية والبصرية الكثير، ما يعيدنا إلى عراقة المسرح القومي المصري. وفيه كذلك من الجرأة التي تُحسب