[rtl]إشكالية مصطلح الحيّز في الكتابة النّقدية عند عبد الملك مرتاض.[/rtl] [rtl]تحليل رواية زقاق المدق لنجيب محفوظ نموذجا[/rtl]
[rtl][size=15]د. عبد الرحمن بن زورة [/rtl][rtl]جامعة عبد الحميد بن باديس مستغانم (الجزائر)[/rtl][/size]
[rtl]ملخص : [/rtl]
[rtl]تجلّى استخدام مصطلح الحيّز في النّقد الجزائريّ على الخصوص، فقد أولاه عبد الملك مرتاض اجتهادا خاصًا بدأ بضبط المصطلح على المستوى المعجميّ ثمّ مارس مفاهيمه في أعماله وإجراءاته النّقديّة،لقد آثر عبد الملك استخدام مصطلح الحيّز مقابلا لمصطلحl’espace/spaceمن بين عدّة مصطلحات ذات مفاهيم متقاربة ومتداخلة ومنها: الفراغ الّذي نجده من حول الأرض، وعبر الكون الخارجيّ، فهو أخصّ من الفضاء الّذي هو أشمل وأكبر مساحة .وبعزف عن لفظ المكان لأنه استعمال تّقليديّ يشيع سذاجة في الدّراسات النّقديّة الرّوائيّة ويقف عاجزا عن احتمال الأخيلة في تحليقاتها المجنّحة،وعليه فإنّ اختيار عبد الملك مرتاض للفظ الحيّز قناعة راسخة ومسعى لا رجعة فيه.[/rtl]
Résumé :
L’utilisation du terme « Haïz » dans la critique arabe algérienne s’est faite grâce ã Abdelmalek Mortad. Ce Dernier s’est spécialement penché sur ce terme ̦en commençant par le définir au niveau lexical et préciser son sens ̦ puis en ayant recours à ses notions dans ses travaux et procédures critique. Aussi il a opté pour l’utilisation du terme « Haïz » comme synonyme des termes Espace /Space ̦ le préférant à plusieurs autres termes avec des significations rapprochées et entremêlées comme :le vide ̦ lequel est plus spécifique que l’espace et moindre en superficie ̦ et aussi :le lieu ̦qui n’est autre que de la géographie et une utilisation traditionnelle répondue dans l’éventualité de l’imaginaire.
Par conséquent ̦le choix de Abdelmalek Mortad du terme « Haïz » est la manifestation d’une démarche irréversible .
[rtl]الكلمات المفتاحية: الحيّز/الفضاء/ المكان/ الفراغ/ التكامل المكاني/الرواية / النقد/التحليل.[/rtl]
[rtl]يمثل "عبد الملك مرتاض( [size=16][1]) قامة عالية في ساحة النّقد العربي المعاصر عموما، وفي النّقد الجزائريّ خصوصا، بل إنّه ليجدر الاعتراف بما له من سبق في إرساء قواعد الحركة النّقدية العربية المعاصرة، ومحاولة رسم ملامح المدرسة النّقدية الجزائرية المتميّزة.[/rtl][/size]
[rtl]فقد ظلّ منذ ثمانينيات القرن الماضي منشغلا بالدّراسات الحديثة الّتي تجمع بين التّراث والحداثة، وتعالج الشّعر والسّرد، حيث مكّنته ثقافته من الاطّلاع على المناهج النّقدية الغربية، والاستفادة منها أيّما استفادة، وظهر ذلك جليّا في خوضه مجال التّنظير والتّطبيق في أبحاثه ودراساته ومؤلّفاته الغزيرة، هذه الغزارة، رافقتها غزارة تعميق المنهج لمسايرة النّضج والتّحوّل الفكريّ رغبة منه في تجاوز التّقليد، وذلك باستثمار النّظريات النّقدية العربية القديمة، مع الحرص على تأسيس نظرية عربية حداثية أصيلة متفتّحة، تواشج بين آليات التّعامل مع النّص الأدبي، وتمزج بين تقنيات مقاربته الإجرائيّة، «فعبد الملك مرتاض لم يترك منهاجا نقديا ألسنيا أو إجراء سميائيا إلاّ واعتمد عليه في مدارسة النّصوص الأدبيّة»([size=16][2]) بل إنّه تطرّق بمنهجه هذا إلى جميع أشكال الأعمال الأدبيّة قديمها وحديثها، شعريّها وسرديّها كما أولى اهتماما بالغا بالأدب الشّعبيّ.[/rtl][/size]
[rtl]1 / اصطناع المصطلح لدى عبد الملك مرتاض: لقي المصطلح على يد عبد الملك مرتاض اهتماما بالغا، ونال رواجا لا نظير له، فما فتئ منذ عهده بالنّقد يؤسّس له، يرسي قواعده، ويسعى إلى تأصيله مستثمرا قوّته اللّغوية ومُكنته البلاغية، وسعة اطّلاعه على الثّقافة الغربية حتّى غدا «أكثر النّقاد الجزائريين اهتماما بالمصطلح اللّسانياتيّ، يحاول التّعامل معه بكلّ ما أوتي من ثروة لغويّة هائلة تمتدّ قواعدها إلى التّراث العربي القديم ببلاغته وموروثه الأدبيّ الزّاخر، ويخوض في تفرّعاته محكوما بالحدود العامّة الّتي حدّدها النّقاد القدماء. أو كما هو في المعاجم اللّسانية الغربية، كما نجده ينحت مصطلحاته باستمرار، بلغته التحفة ذات الأدبية الخارقة والخصوصيّة المتفرّدة، وقاموسه اللّغوي الثّري، فخصوصيته خصوصية الرّجل المبدع المطّلع على خبايا اللّغة العربية وأسرارها».([size=16][3])[/rtl][/size]
[rtl]وظلّ مرتاض وفيا لمشروعه الأصيل من خلال منجزاته المتراكمة، والممتدة طوال ثلاثة عقود من الزّمن ، وإدراكا منه أنّ نواة المنهج ولبّه هي المصطلح فقد «كان من أكثر النقّاد العرب وعيا بأهميّة المصطلح، ومكانته داخل الخطاب النّقديّ».([size=16][4])[/rtl][/size]
[rtl]ولذلك وفّق في الجمع بين التّراث العربي والحداثة الغربية في ازدواجيّة ثقافية تراثية حداثية عبر رؤية «تمثّل قفزة نوعية، وإنجازا مهمّا في الدّراسات النّقدية الغربية الحديثة، سواء من حيث صرامتها المنهجية، أو من حيث تماسكها الفكريّ وفاعليتها العلمية، ووجاهة طروحاتها أو من حيث تأصيلها النّقدي وتبييئها المعرفي، ولغتها المقبوليّة الواصفة،والّتي تنضح نصاعة وفصاحة وإشراقا».([size=16][5])[/rtl][/size]
[rtl]2 / إشكاليّة مصطلح الحيّز عند عبد الملك مرتاض: تبرز إشكاليّة مصطلح "الحيّز" لدى عبد الملك مرتاض في طليعة اهتماماته المصطلحيّة البنيوية والسّميائية، ولذلك فإنّ الدّارس لأعماله النّقدية الحداثية، يجدها عامرة بمناقشة شؤون الحيّز في اللّغة، وفي الاصطلاح وفي الدّلالة، فما فتئ يقلب مفاهيمه ومعانيه، ويفحص استخدام النّقاد له، ويمحّص حدود الفرق بينه وبين عدّة مصطلحات تحيط به وتتداخل معه، لقد بدا إصراره على تأكيد خوضه في شأن الحيّز في جلّ أبحاثه، وعلى درجة من التّفاوت في الإلحاح والأهميّة، ومن النّماذج النّقدية الّتي كرّر فيها الوقوف على مسألة الحيّز وما يرادفه كالفضاء، أو يرتبط به كالمكان ،أعماله الآتية: سواء في الخطاب الشّعري أو الخطاب السّردي:[/rtl]
[rtl]1-الخطاب الشّعري([size=16][6]):[/rtl][/size]
[rtl]عنوان الكتاب[/rtl] | [rtl]الفصل المخصص لدراسة الحيّز مع الترقيم[/rtl] |
[rtl]1-بنية الخطاب الشّعري، دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمانية ط1991[/rtl] | [rtl]الفصل الثالث: خصائص الحيّز الشّعري من ص77 إلى ص107.[/rtl] |
[rtl]2-ألف، ياء، تحليل مركّب لقصيدة أين ليلاي لمحمّد العيد آل خليفة ط2004.[/rtl] | [rtl]الفصل الرابع: الحيّز الشعري في نصّ أين ليلاي من ص173 إلى ص179.[/rtl] |
[rtl]3-التّحليل السميائي في الخطاب الشّعري، تحليل مستواتي لقصيدة شناشل ابنة الحلبي ط2001[/rtl] | [rtl]المستوى الثاني: الحيّز والتّحييز في اللّغة الشّعرية لدى السيّاب من ص113 إلى ص148[/rtl] |
[rtl]4-الأدب الجزائريّ القديم دراسة في الجذور ط2005.[/rtl] | [rtl]القسم الثالث: ثانيا المستوى الحيّز من ص166 إلى ص181.[/rtl] |
[rtl]2-في الخطاب السّردي:[/rtl]
[rtl]عنوان الكتاب[/rtl] | [rtl]الفصل المخصّص لدراسة الحيّز مع الترقيم[/rtl] |
[rtl]1-الألغاز الشّعبية الجزائرية ط198[/rtl] | [rtl]الفصل الثالث:الحيّز في الألغاز الشّعبية من ص67إلى 79[/rtl] |
[rtl]2- الأمثال الشّعبية الجزائرية ط.1982[/rtl] | [rtl]القسم الثاني: الفصل الأوّل: الحيّز في الأمثال الشعبيّة الجزائرية من ص59 إلى ص70.[/rtl] |
[rtl]3-القصّة الجزائرية المعاصرة ط1990.[/rtl] | [rtl]الفصل الثاني: خصائص الحيّز في القصّة الجزائرية المعاصرة من ص99 إلى ص133.[/rtl] |
[rtl]4-ألف ليلة وليلة –تحليل سميائيّ تفكيكي لحكاية جمال بغداد- ط1993.[/rtl] | [rtl]المستوى الرابع: الحيّز في حكاية جمال بغداد من ص113 إلى ص151.[/rtl] |
[rtl]5-تحليل الخطاب السّردي معالجة تفكيكيّة سميائيّة مركّبة لرواية "زقاق المدق" ط1995.[/rtl] | [rtl]الفصل الثالث:ثانيا: المكان: من ص245إلى ص260.[/rtl] |
[rtl]6-في نظرية الرواية ط2004.[/rtl] | [rtl]الفصل الخامس: الحيّز الروائي وأشكاله من ص185 إلى ص214.[/rtl] |
[rtl]7-نظرية النّص الأدبي ط2(2010).[/rtl] | [rtl]الفصل السابع:الحيّز الأدبي ص295إلى ص335[/rtl] |
[rtl]3 / تحليل مرتاض لرواية زقاق المدق: فهرس عبد الملك مرتاض كتابه: تحليل الخطاب السّردي:معالجة تفكيكيّة سميائية مركّبة لرواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ، في قسمين كبيرين مسبوقين بمدخل مطوّل عالج فيه سؤالا جوهريا حول: التّحليل الرّوائيّ بأيّ منهج؟ أو كما يقول:هل يوجد منهج ثابت للتّحليل الرّوائيّ؟ أي هل يمكن تأسيس منهج ثابت لجنس أدبيّ متحوّل؟[/rtl]
[rtl]أمّا القسم الأوّل من الكتاب فقد تناول فيه البنى السّردية في رواية "زقاق المدق" عرضها في ثلاثة فصول.[/rtl]
[rtl]وأمّا القسم الثّاني فقد عالج: التّقنيات السّردية والّتي فصلها في أربعة فصول كاملة.[/rtl]
[rtl]وكما نستشّف من عنوان الكتاب، فإنّ عبد الملك مرتاض يوضّح منذ البداية ومن خلال العنوان، عدم اكتفائه بمنهج واحد كما يفعل غيره من النّقاد إذ يجد حرجا من إطلاق العنوان دون تذييله بعنوان فرعيّ يحدّد مسار التّحليل ويوسّع دائرة الإجراء إلى أكثر من منهج واحد وقد ألفنا ذلك عنده في كثير من أعماله([size=16][7])[/rtl][/size]
[rtl]وقد عبّر عن ذلك بهذا التّصريح: «أصبح من المفروض،بل من المفروغ منه، أنّ تحليل نصّ سردي معقد، غنيّ، عميق، متشعّب العناصر، متعدّد الشّخصيات ...أي عالم بدون ما حدود، وأفق بلا نهاية: لا يمكن أن يستوفيه حقّه منهج يقوم على أحادية الخطّة، والرّؤية، والأدوات، والإجراءات كأن يكون أسلوبيا فقط، أو بنويا فقط، أو حتّى بنويا أسلوبيا، أو اجتماعيا فقط... أو نفسيا فقط ... أو سميائيا فقط، وهو نشاط لا ينهض في أساسه إلاّ على الوصف التّحليلي، لا على التّعليل التحليليّ»([size=16][8])[/rtl][/size]
[rtl]وفق هذا التّصوّر والتخلّص من أحادية المنهج، يعلن عبد الملك مرتاض عن انسياقه بقصد أو بغير قصد نحو خطّة "التيّار البنوي السّميائي" مضيفا :«وتجنّبت ما أمكن، الانزلاق إلى التيّار الاجتماعي النّفسي، وقد رفضنا في منظور تحليلنا، المناهج التّقليدية العتيقة لاعتقادنا بإفلاسها».([size=16][9])[/rtl][/size]
[rtl]وعلى الرّغم من أنّ الرّواية المتناولة بالدّراسة مندرجة ضمن الرّواية الواقعية الّتي يلائمها منهج البِنوية التّكوينية، إلاّ أنّ ناقدها يعدل عنه لاعتقاده أنّ «هذا المنهج المهجن لا يبرح، لدى التّطبيق، غير دقيق، وأحسبه غير قادر على استيعاب كلّ جماليات النصّ، وبناه... وإذن فإنّنا عدلنا عن البِنوية التّكوينية وآثرنا بِنوية مطعمة بتيارات حداثية أخراة،وخصوصا السّيميولوجيا الّتي أفدنا منها لدى تحليل ملامح الشّخصيات، ولدى تحليل خصائص الخطاب السّردي».([size=16][10])[/rtl][/size]
[rtl]وفي موضع لاحق من الكتاب، يطلعنا عبد الملك مرتاض عن تبنّيه المنهج الإحصائي مبيّنا مزاياه، ذكر إيجابياته في التّحليل خاصّة في تعامله مع شخصيّات الرّواية، فقد مكّنه الإحصاء بشيء من الدّقة من معرفة مدى تواتر هذه الشّخصيات، وتحديد الشّخصية المحورية أو الشّخصيات المحورية «بفضل هذا الإجراء أتيح لنا أن نصنّف شخصيات "زقاق المدق" وهذا الأوّل مرّة في تاريخ دراسة نجيب محفوظ».([size=16][11])[/rtl][/size]
[rtl]تتجلّى قناعة عبد الملك مرتاض واضحة في اعتبار المنهج الواحد عاجزا عن تناول النصّ انطلاقا من رؤية أحادية. وحسب وجهة نظر حميد لحمداني «فإنّ التّركيب النّقدي قدر النّاقد العربي على الأقّل في الوقت الرّاهن من خلاله يستطيع إبراز عبقريّته وبمساهمته في النّقد المعاصر».([size=16][12])[/rtl][/size]
[rtl]إنّ معالجة قراءة عبد الملك مرتاض لرواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ ،فرصة لمعاينة مدى مطابقة تلك التّصورات والرّؤى النّقدية الّتي اتّخذت صبغة خاصّة عنده، بواقع التّحليل وحقيقة الإجراء ،كما أنّها سبيل مثلى للوقوف على مدى تمثّل مقولاته الّتي خالف فيها غيره من النّقاد، وإنّ الرّواية لحقل خصب لبسط منظوراته حول الحيّز، تجلية لمفاهيمه ومدلولاته وتجسيدا لحيّز روائيّ يوافق تصوّراته.[/rtl]
[rtl]فبعد حديثه المستفيض –في الفصل الثّالث- عن البناء الزّمني في الرّواية والّذي يصفه بأّنّه كان ضعيفا وحافلا بالتّناقضات، شرع يتناول العنصر الثّاني وهو "المكان" وكلّ ما يتّصل به في حدود خمس عشرة صفحة، وأوّل ما يصادفنا في مقاربة عبد الملك مرتاض استخدامه مصطلح "المكان" بدل مصطلح "الحيّز" باعتباره حامِلا للفضاء الرّوائيّ، وحتّى يضع القارئ في الصّورة يوضّح قائلا: «أطلقنا المكان على هذا العنوان الفرعي، من باب التّغليب الّذي لم نجد منه بدّا. وإلاّ فإنّنا لا نرتاح إلى هذه التّسمية الجغرافية في النّقد الروائيّ، حيث إنّ المكان يصبح قاصرا أمام إطلاقات أخراة أشمل وأوسع وأشسع، مثل الحيّز أو الفضاء، بيْد أنّا تجنّبنا قصدا اصطناع الحيّز هنا لوجود أمكنة جغرافية حقيقيّة في النصّ مثل: القاهرة، وسيدنا الحسين، والأزهر وهلمّ جرّا».([size=16][13])[/rtl][/size]
[rtl]وليس في هذا النّص سوى تبرير ناقدنا لموقفه، وبيان أسباب اختياره لمصطلح المكان بديلا عن الحيّز –على غير عادته- إذ كان يفترض أن يطال التّحليل الحيّز الرّوائي عموما أو فضاء (حيّز الحرب العالمية الأولى) للرّواية، لكن ما حال دون ذلك حصره النّاقد في عاملين:[/rtl]
[rtl]أوّلا: طبيعة الأمكنة الحقيقية الواقعية الجغرافية في الرّواية.[/rtl]
[rtl]ثانيا: العامل التاريخيّ فالحيّز –في منظوره- لم يكن قد تبلور مفهومه في ذهن نجيب محفوظ أثناء الحرب العالمية الثّانية، والّذي يصادف ويزامن وقوع أحداث رواية "زقاق المدق"، وغيره من الرّوائيين وإذن فالمكان «الّذي "يحيل إلى الجغرافيا"، والّذي "يشيع سذاجة في الدّراسات النّقدية الرّوائية"، والّذي هو اسم لحدوث الكينونة الماديّة فيقف عاجزا عن احتمال الأخيلة في تحليقاتها المجنحة»([size=16][14]) إلى غير ذلك ممّا لحقه من نعوت عبد الملك مرتاض الّتي تحدّ من خطورته أمام مصطلح الحيّز، نجد هذه الأوصاف تتلاشى فجأة ويحلّ محلّها الاستعمال القويّ الّذي يعيد للمكان سطوته، ويمنحه القدرة على تحليل "زقاق المدق" وأخذ الرّيادة، فيكون المكان في المقام الأوّل، ويكون الحيّز في المقام الّذي دونه أو يليه.[/rtl][/size]
[rtl]لكنّه تصريح مبكّر أجهض مشروع الحيّز، وجعله يتبّخر قبل أن يرى النّور، ممّا يزيد في تعقّد إشكالية الحيّز عند عبد الملك مرتاض على المستويين التّنظيري والإجرائي، فقد سبقت الإشارة إلى حالة الانفرادية التي أحدثها النّاقد، وهو يحيط الحّيز بهالة من المفاهيم، جعلته مظنّ تفضيل فوق الفضاء والمكان.[/rtl]
[rtl]لكنّه –ومن غير المنتظر- ينزل إلى ساحة الإجراء، فيعدل فجأة عن الخوض في تحقيق مخطّطه حول الحيّز، إلى النّزول نحو "المكان" من حيث هو آلية مقاربة يحلّل بها رواية "زقاق المدق"، متحجّجا بخلوّ الرّواية من الحيّز، معتبرا أماكنها واقعية حقيقية، وهذا يضعنا أمام مسلك لا يخلو من التّناقض فكيف يكون ذلك وهو القائل: «لا يجوز لأيّ عمل سرديّ (حكاية، خرافة، قصّة، رواية...) أن يضطرب بمعزل عن الحيّز، الّذي هو من هذا الاعتبار عنصر مركزيّ في تشكيل العمل الرّوائي، حيث يمكن ربطه بالشخصية واللّغة والحدث ربطا عضويا»([size=16][15])[/rtl][/size]
[rtl]فالحقيقة أنّ عبد الملك مرتاض آثر هذه المرّة أن يلجأ إلى "المكان" الّذي تحدّه الحدود، "وينتهي إلى نهاية"، وترك "حيّزه" الّذي لا تحدّه الحدود، وليس له انتهاء، ورغم كونه المجال الّذي يتبارى في مضطربه كتّاب الرّواية، فيتعاملون معه بناء على ما يودّون من هذا التعامل.[/rtl]
[rtl]ومن تمّ، يكون مرتاض قد مسّ بقدسيّة مصطلحه "الحيّز" تنظيرا، وتراجع تراجعا يزيد من غموض وانغلاقية حيّزه تطبيقيا.[/rtl]
[rtl]يضاف إلى ذلك أنّ العمل النّقدي لا ينتظر من التّاريخ أن يبلور له مفهوما كي يتعرّض له، فما أكثر الأعمال الأدبية القديمة الّتي كشف النّقد المعاصر فيها عن آخر تجليّات المصطلحات والمفاهيم.ثمّ إنّ الفضاء أو الحيّز-بالمصطلح المرتاضي- هو في الأخير إستراتيجية قراءة، فليس ضروريا أن يكون مفهوم الفضاء (الحيّز) مفهوما متبلورا في فترة الحرب العالمية الأولى،كي تتوفّر عليه الرّواية أو تعدمه، إنّما حذاقة القراءة ونباهة النّاقد كفيلان باختلاق الفضاء وتشْيِيء الحيّز.[/rtl]
[rtl]فكأنّنا بناقدنا قد نسي قوله: «ولمّا جاء العرب يكتبون الرّواية في القرن العشرين،لم يَفُتهم التّعامل مع الحيّز بوعي فنيّ كامل، ففي حين كان الحيّز يعني لدى نجيب محفوظ وروائيين آخرين كثيرين، كلّ شيء، فكانوا يبالغون في وصفه، ويبرعون في بنائه، حتّى لا يشكّ أحد من المتلقّين في أنّه حيّز حقيقيّ (مكان جغرافيّ)» ([size=16][16]) فكيف لهذه الرّواية "زقاق المدق" أن تشذّ عن هذا الوعي الكامل؟ وتعدم الحيّز، وتخلو من عبقريّة نجيب محفوظ؟[/rtl][/size]
[rtl]وقريبا من هذا السّياق فإنّ رواية "زقاق المدق" وبخلوّهما –افتراضيا- من الحيّز تكون قد فقدت موردا لا يمكن تعويضه، فالحيّز أساسي في بناء العمل الرّوائي، وأنّه مصدر إمداد بالجماليات الفنيّة الّتي تستثير المتلقيّ، وتحيله على التّأويل، وتحرّر خيالاته الجامحة. ومن ثمّ فإنّ هذه الرّواية المشكّلة من أماكن جغرافية واقعية حقيقية، رواية فاقدة لجماليات العمل الفنّي، قاصرة على تمكين القارئ من هذه الأدوار، فقد ركّز الرّوائي على الأمكنة –حسب رأي مرتاض- إلى درجة أنّ «رسْم المكان يمثلُ في شيء من الدّقة عجيب لدى نجيب محفوظ في جملة من أعماله، ومنها "زقاق المدق"، حيث إنّ الكاتب أراد أن يصوّر لنا بالعدسة القلمية، إن صحّ مثل هذا التّعبير ، هذا الشارع الشّعبي البسيط حتى كأنّنا نراه، ونذرع مساحته، ونقطع مع حميدة مسافته، ونعرف ما يجاوره من شوارع وأحياء...من أجل كلّ ذلك لا يجد القارئ شيئا ممّا يريد أن يعرفه إلاّ عرّفه إيّاه صاحب النّص فيكسل فكره، ويتلبّد ذهنه، فلا ينطلق خياله»([size=16][17])[/rtl][/size]
[rtl]ولنركّز على آخر هذا النّص، ونتساءل مع ناقدنا عبد الملك مرتاض، فما هو الهدف المرجوّ من هذه القراءة النّقدية المتخصّصة، إذا كانت نتائجها كسل الفكر، وبلادة الذّهن والانغلاق في أفق الخيال ؟؟ وهل يمكن أن نعدّ هذه الرّواية إذا صدقت عليها كلّ هذه النّعوت عملا روائيا محترما فنيّا؟أليست هذه الرّواية التّحفة "زقاق المدق" هي الّتي أثارت إعجاب ناقدنا مرتاض منذ كان طالبا في كليّة الآداب بالرّباط سنة ستين، وارتبط بها حنينه ؟ وهي الّتي "قرأها خمس مرّات متتالية" وهي الرّواية التّي اختار أن يقول فيها: «إنّ "زقاق المدق" تعدّ في رأينا إحدى قمم الأعمال الرّوائية العربية إطلاقا،فباعتراف بعض المستشرقين أنفسهم، حيث ألفينا مثلا:فيال كما يقول أندري ميكائيل:تعتبر هذه الرّواية واحدة من أفضل ما أنتجه نجيب محفوظ من روايات معروفة في هذا اليوم».([size=16][18])[/rtl][/size]
[rtl]إنّ تجريد أستاذنا مرتاض هذه الرّواية من فضائها (حيّزها الرّوائي)، والانتهاء بها عند الاقتصار على دراسة ورصد أماكنها الجغرافية تقصير إجرائي، وإجحاف تحليلي، في حقّ رواية يصفها هو نفسه بقوله:«لو اقتصر نجيب محفوظ على كتابة "زقاق المدق" وحدها لما حيل بينه وبين أن يكون، بها وحدها، أكبر روائي عربي معاصر».([size=16][19])وإذن، فإنّ رواية كبيرة بهذا الحجم لجديرة بأن ينال فضاؤها (حيّزها) درجة لا تقلّ عن عظمتها خطورة وخصوبة وشعريّة.[/rtl][/size]