[rtl]من النظر إلى العمل:[/rtl]
[rtl]يعرف منظرو الغرب ومثقفوه أكثر من غيرهم، أن القرن العشرين -الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة- عاش عالة على القرن التاسع عشر. فالنظريات الكبرى التي حاولت تفسير الطبيعة والمجتمع على السواء، ولدت في القرن الماضي. الماركسية مثلا هي بنت القرن التاسع عشر وكذا العلوم الاقتصادية والاجتماعية الأخرى؛ التحليل النفسي ولد في نفس القرن وكذا العلوم النفسية الأخرى؛ النظريات البيولوجية والفيزيائية الكبرى ظهرت في نفس القرن: لقد كان القرن التاسع عشر بحق عصر العلم. أما القرن العشرون فليس عصر العلم(1) بل هو عصر التقنية، أي عصر التفنن في الصناعات. التقنية هي تغيير الأحجام والأشكال والألوان، بينما العلم هو إنتاج نظري أساسا.[/rtl]
[rtl]لقد عاش القرن العشرون مستهلكا للأفكار وليس منتجا لها، في حين كان منتجا للتقنية واضعا الاستهلاك نصب عينيه لتكتمل الدورة الاقتصادية. وبما أن آليات الاقتصاد ليس لها حد ولا تعرف نهاية معينة، فقد كان لزاما عليها أن تدور بأقصى سرعة ممكنة. وكلما حدث عطب ما في عصب الاقتصاد إلا واقترب المجتمع الصناعي من الكارثة، فتاريخ الاقتصاد هو تاريخ أزماته. وبما أن زمن الأفكار قد ولى، فإن الآثار الاجتماعية التي كانت تتركها الأزمات الاقتصادية كانت تحل بالحروب. وعادة ما كانت تجري تلك الحروب تحت غطاء إيديولوجي متخلف، فالقرن العشرون لم يجد بين يديه سوى بقايا أو فضلات الإيديولوجيا. إن هذه الفضلات الإيديولوجية (الفاشية/النازية/اليمين المتطرف/ وسائر المذهبيات الصغرى التي عجزت عن تحديد مقاصدها بدقة…الخ)، هي دليل على الفقر النظري الذي أصيبت به مخيلة إنسان القرن العشرين.[/rtl]
[rtl]2 - مثال من التاريخ:[/rtl]
[rtl]كان الأمل معقودا على بداية النصف الأول من القرن الحالي، لتخليص الإنسانية من المأزق الذي وصلت إليه صورة المجتمعات الرأسمالية. وذلك بفضل ظهور بشائر الثورة الاشتراكية في روسيا، حيث كانت الآمال والطموحات أكبر من الوقائع والماجريات. فمن بين الاجتهادات النظرية التي أفرزها القرن التاسع عشر، هناك الاجتهاد الماركسي الذي طرح بديلا لتغيير مسار العصور الحديثة. لكن الفكرة لم تجد مجال تطبيقها في موطنها الأصلي -وهذه إحدى مفارقات التاريخ- بقدر ما وجدته في تربة غريبة تماما عن حقلها النظري! لقد انحرف التاريخ جهة الشرق، في حين كان الهدف هو تطويره على أرضية الغرب![/rtl]
[rtl]لكن التجربة السوفياتية انتهت إلى أهداف مغايرة لتلك التي وضعتها في البداية، إذ وجدت نفسها تتسابق مع الغرب في مجال التسلح والفضاء. بمعنى أنها حادت عن الأهداف الاجتماعية التي جاءت من أجل تحقيقها، حيث تم توجيه الجهد الوطني وثروات البلاد نحو أهداف غير اجتماعية. لقد حققت هذه التجربة كل شيء، ما عدا الهدف الذي رسمته لنفسها. لأن التصنيع أصبح هدفا في حد ذاته، في حين كان الأولى أن يكون مجرد وسيلة لتحقيق مجتمع العدل والمساواة. هكذا وجدت التجربة الاشتراكية في صيغتها السوفياتية نفسها تدور في حلقة مفرغة مشابهة للحلقة الرأسمالية، ألا وهي الدوران في نفس المكان: التصنيع من أجل التصنيع استجابة لإرادة التفوق عل الخصم. وهذه هي المنافسة التي تقوم عليها التجربة الرأسمالية، أي السباق الذي لا يكمل، والزيادة من سرعة الدورة الاقتصادية التي لاتنتهي. فلماذا لم تتمكن هذه التجربة من الدخول في الزمن الغربي؟ ولماذا لم تلاحق وتيرته رغم دخولها في منافسته؟[/rtl]
[rtl]يلاحظ كولوزيمو J. Colosimo أن تاريخ روسيا له بعض الخصوصيات التي تجعله متميزا عن التاريخ الغربي، إنه تاريخ الأرثودوكسية الذي يقف عائقا أمام الاندماج في الذهنية والحضارة الغربية. فـ"الكنيسة الأرثودوكسية في بلاد الروس كانت بمثابة المحرك الثقافي والسياسي الذي سمح بتوحيد هذه الأخيرة إبان سقوط القسطنطينية؛ وهي التي دعمت فكرة إحياء روما في الشرق وكذا فكرة وجود شرق مسيحي"(2). والفرق بين المسيحية الأرثودوكسية والمسيحية الكاثوليكية ليس فرقا مذهبيا بسيطا، بل هو فرق حضاري وذهني. لنتذكر فقط أن توينبيToynbee في تصنيفه لشعوب وحضارات العالم،جعل من الأرثودوكسية حضارة مستقلة إلى جانبي الكاثوليكية التي تمثل حضارة مستقلة أخرى. وما زاد من تصلب الذهنية الأرثودوكسية هو تزاوجها مع الحكم التتاري، عندما خضعت روسيا لحكم جنكيزخان ابتداء من القرن الحادي عشر. من اجتماع هذه العناصر التاريخية، تشكل الزمن الروسي الذي يجنح لنوع من الرتابة والثبات وترسيخ سلطة النظام الكلياني، والنفور من التغيير والتطور أي رفض زمن الحداثة الذي دخلته أوروبا المجاورة. و"قد استشعر البعض ضرورة إدماج روسيا في التاريخ العالمي، لذا كان من اللازم أن يفرض عليها ذلك بالعنف من القمة، كما فعل بعض القادة الإصلاحيين مثل بيير الأكبر أو غورباتشوف في الوقت الحاضر"(3).[/rtl]
[rtl]3 - عبرة المثال:[/rtl]
[rtl]مع بداية هذا القرن استيقظت لدى الروس فكرة عتيقة، تتعلق بدورهم في حمل لواء المسيحية الشرقية. وهكذا "أمكن أن نلاحظ انبثاق المثال الأزلي -حتى قبل اندلاع الحركات المطلبية الثورية بشكل ملموس- وهو أن روسيا بلد مسيحي، يعيش في صراع دائم مع الإسلام المتواجد على حدودها"(4). ثم بدأت الفكرة تنضج شيئا فشيئا في أذهان الثوريين الروس، حيث برزت معالم التغيير المنشود في شكل ثورة عالمية بالاعتماد على العنف المسلح. لقد اقتنع هؤلاء أن الغرب الرأسمالي/المصنع غير قادر على تعميم الثورة، وأن "الروح الروسية" هي المؤهلة لأداء هذه المهمة. ففي الوقت الذي رأى فيه المناشفة أن التغيير يلزم أن تقوده طبقة بورجوازية، رأى البلاشفة أن ديكتاتورية البروليتاريا هي المؤهلة تاريخيا لإنجاح التغيير المطلوب. وبما أن النظام الكلياني ينسجم تماما مع الروح السلافية -الروسية القائمة على الأرثودوكسية، فقد وجدت الفكرة مجال تحققها في الاتجاه الذي تزعمه لينين.[/rtl]
[rtl]لقد انصهرت في مخيلة الشعب أيديولوجيا الحركة العمالية المنادية بالثورة العالمية، مع الروح الأرثودوكسية الحالمة ببعث روما المسيحية. فكان الخطاب الماركسي-اللينيني مزدوج المعنى: عندما يتكلم القادة فهم يفهمون شيئا، وعندما يستمع الشعب فإنه يفهم شيئا آخر تماما. لا يعني هذا أن منظري الحركة العمالية كانوا يؤمنون بما يؤمن به عامة الناس وأظهروا في خطاباتهم عكس ما يبطنون، بل بالعكس من ذلك لقد كانت النوايا الاشتراكية سليمة، وغرفت من النبع الماركسي الذي يضع أمامه هدفا وحيدا هو تحقيق مجتمع خال من الطبقات. لكن الإنسان العادي-أي رجل الشعب البسيط- كانت رؤيته للعالم تغرف من نبع تاريخي آخر، إذ من العبث القول إن المجتمع الروسي (الزراعي/المتخلف) كان يستوعب الأطروحات الماركسية بدقة. لقد كان لينين يقرأ ماركس في المؤلفات الألمانية، وكان يحاور منظري الأحزاب العمالية الألمانية في نقاشاته وسجالاته بصدد الثورة، ودور البروليتاريا في التاريخ، والعلاقة بين الاستراتيجية والتاكتيك.. وغيرها من مستلزمات الأوضاع الراهنة آنذاك.[/rtl]
[rtl]-ماذا يمكن أن نستنتج من هذا المثال التاريخي؟[/rtl]
[rtl]نستنتج أولا أن الظاهرة التاريخية ليست عقلية في شموليتها، فالجزء الأعظم الذي يتحكم في صيرورتها غير معقلن. ويمكن أن نستنتج ثانيا أن علاقة الأيديولوجيا بالتاريخ ليست واضحة بما فيه الكفاية لنستصدر حكما عاما على تاريخ الشعوب. وأخيرا يمكن أن نستنتج أن الأفكار التي تلعب دور التغيير في تاريخ المجتمعات ليست خاطئة وليست صائبة، لأن معيار صدقها ينبع من التطابق بين مطالب الدعوة من جهة والدوافع التاريخية من جهة أخرى.[/rtl]
[rtl]4 - المثال بين التاريخ والإيديولوجيا:[/rtl]
[rtl]نخلص مما سبق إلى أن الأفكار الإيديولوجية تشتغل بطريقة مخالفة لمنطق الواقع، أي أن نجاعتها لا تأتي من قوتها وتطابقها مع حاجات الناس الآنية أو عدم تطابقها. إن الإيديولوجيا تشتغل بطريقة مشابهة للبوصلة، إذ يتحرك عقربها في اتجاهين معاكسين قبل أن يستقر على نقطة ما حالما يعثر على مبتغاه. والنقطة التي يستقر عليها عقرب الإيديولوجيا، توجد في أعماق اللاشعور الجمعي. فالشعوب تختزن تجاربها وإخفاقاتها وآمالها، وتعيشها بطريقة مكثفة وغامضة. فعندما يشتد ضغط التاريخ، تتجه هذه الكتلة الغامضة من التجارب الماضية في اتجاه ما قصد التحقق. أثناء هذا الاندفاع الغامض، تبرز الإيديولوجيا كمشعل ينير الطريق ويفتح المسار أمام التاريخ. وهكذا يدخل الناس إلى عصر جديد بمتخيل قديم، حيث تظهر الأشياء والعلاقات والمؤسسات كانفتاحات على المستقبل. ومن ثم تبدأ الآليات الاقتصادية الجديدة في الاشتغال بتوسط الذكريات والأوهام والآمال، أي أن الحاضر يتم تحريكه بمخزونات الماضي. إذ اللاشعور الجمعي لا يعرف منطق التطور، وتنكسر فيه علاقات الزمان والمكان: لقد سبق لفرويد أن بين كيف يتناقض اللاشعور مع منطق الواقع.[/rtl]
[rtl]التمثلات التي تشتغل بها الإيديولوجيا عامة وجزئية: هي جزئية حين تدعي إدراكها العميق لخصوصية المرحلة التي تمر منها الأمة، وهي عامة حين تدعي أنها صالحة لجميع الشعوب. وسواء في الحالة الأولى أو الثانية فالإيديولوجيا تريد اختراق الزمان والمكان، وتكسير منطق الواقع؛ إذ كيف يمكن لما هو خاص أن يكون عاما في نفس الوقت؟ كيف يمكن أن يوجد الشيء في زمانين وفي مكانين وفي ذهنيتين في نفس اللحظة ونفس الآن؟[/rtl]
[rtl]عندما تبدأ التمثلات في الاشتغال، يبدأ التناقض في البروز شيئا فشيئا. حيث يقع انزياح الطبقتين الذهنيتين اللتين سبق لهما أن انصهرتا إبان عملية التشكل، التي بشرت بدعوى التغيير. إذ تطفو الطبقة العميقة (هوية الأمة) على السطح،فتميل الدعوة الإيديولوجية إلى الضمور. لذا تتقلص بنية المتخيل، وتصاب الدوافع بالوهن، وتتثاقل سرعة الدورات الاقتصادية، وتتعطل آلياتها بالتدريج. وهذا التأثير الذي يمارسه المتخيل على المؤسسات هو الذي كرس له كاسطور ياديس -الذي يحظى بتقدير كبير لدى هابرماس- جزءا كبيرا من اجتهاداته. إذ يرى أن "قوانين الاقتصاد لا يمكن أن تتحقق إلا باستخدام أوهام الأفراد"(5). وقد سبق لماركس أن لاحظ دور المتخيل في تنشيط الاقتصاد الرأسمالي، والذي يتجلى في سحرية البضاعة. إلا أن "دور المتخيل هذا اعتبره ماركس محدودا، إنه دور وظيفي على وجه الدقة. فهو بمثابة حلقة "غير اقتصادية"، ضمن السلسلة الاقتصادية"(5). ولم ينته إلى أن المتخيل بنية مستقلة، وليست تابعة أو ثانوية. لقد اعتقد ماركس أن هذا المتخيل علامة على تخلف المجتمع البشري، وهذا ما ساقه إلى اعتبار الرأسمالية تدخل ضمن فترة ما قبل تاريخ الإنسانية، ولكن ما العمل -وما القول أيضا- حينما تتكاثر حلقات المتخيل وينضاف بعضها إلى بعض، وتعمل على تفجير السلسلة الاقتصادية؟![/rtl]
[rtl]لاحظ كارل بوبر أن ماركس دفع بالتفسير الاقتصادي إلى أقصاه، كرد فعل على انعدام وجود تاريخ اقتصادي جدي قبل مجيئه. "لقد اعتقد [ماركس ] أن الاقتصاد يحمل قيمة تفسيرية شاملة، وهذا خطأ. لأن المجتمع باعتباره واقعا معقدا جدا، تؤثر فيه عوامل أخرى مثل الدين، الوطنية، علاقات الصداقة، ارتياد نفس المدارس.. فمثل هذه العناصر تلعب دورا ما في المجتمع. أما الفكرة التبسيطية القائلة بوجود ديكتاتورية الرأسماليين، فغير مطابقة للواقع البتة"(6). التفسير السببي يوقع العقل البشري في عدة مغالطات، من بينها مغالطة تسلسل أنظمة الإنتاج في التاريخ. ومن ثم يستنتج معنى أو قصد يتوخاه التطور التاريخي والاقتصادي، أي الإيمان بأن التاريخ في تسلسله يشبه النهر في مجراه. وكل من يدعي أنه يدرك مقاصد التاريخ وغاياته، سيبدع يوتوبيا للخلاص لا محالة. إلا أنه قد تبين تاريخيا أن "أولئك الذين يزعمون خلق الجنة فوق الأرض، لم يخلقوا سوى الجحيم"(7).[/rtl]
[rtl]5 - النظام الأمثل:[/rtl]
[rtl]إن مجمل الانتقادات التي تم توجيهها لهذا المثال التاريخي (التجربة الماركسية)، لم يكن يؤرقها مدى صحة النظرية التي تؤسس هذه التجربة أو عدم صحتها؛ بقدر ما كان يؤرقها الدفاع عن تجربة مغايرة تماما (التجربة الرأسمالية). وهي التجربة التي حملت معها قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان… وغيرها من القيم التي تركز على البعد الشمولي للطبيعة الإنسانية. ولهذا السبب لم يتردد فيلسوف ليبرالي من حجم كارل بوبر من القول بدون حذر، إن المجتمع الغربي المعاصر هو أفضل النماذج التي عرفها التاريخ البشري على الإطلاق. فالمجتمع المعاصر يقوم على أساس نظام ديموقراطي، والديموقراطية هي الشكل الوحيد الذي ظهر لحد الآن أنه قادر على تجنب المآسي التي تؤدي إليها انحرافات السلطة السياسية. صحيح أن الديموقراطية لم تفلح في حل مشكلة الحكم، ولكنها تجنبنا ما هو أخطر: الديكتاتورية. إن الصيغة التي عرف بها تشرشل نظام الحكم الديموقراطي معروفة جدا، إلى حد أن بوبر أعجب بها ولم يترك أدنى مناسبة تمر دون التذكير بها: "الديموقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الأخرى التي هي أكثر سوءا". ومعنى هذا الكلام أن الديموقراطية هي النظام الأمثل، ما دامت هي الشكل الأسوأ وليس الأكثر سوءا.[/rtl]
[rtl]يعتز الفكر الليبرالي الغربي بالديموقراطية كإرث يوناني عريق، فهاهنا الأصالة! ثم يبرهن بعد ذلك على نجاعة هذا النظام من خلال فشل الأنظمة المنافسة لها اليوم، فهاهنا الحداثة! والسبب في هذا كله، هو كون الديموقراطية تقف حاجزا منيعا أمام الحكم الكلياني (حكم الطغاة). لقد انتبه اليونان -الذين عرفوا الديموقراطية بأنها حكم الشعب لنفسه بنفسه- إلى أن الشعب لا يمكن أن يحكم عمليا، أي أن يتم تسيير أمور الدولة من طرف العوام. هذا مستحيل! لا يمكن للشعب أن يكون إلا محكوما، لا حاكما! ولهذا السبب وضعوا للديموقراطية، قاعدة لا يلزم أن تحيد عنها، ألا وهي الإقالة l’ostracisme: إقالة الأشخاص دون إراقة الدماء (عكس ما تفعله الأنظمة الديكتاتورية). واليوم، ما هو نظام الحكم الديموقراطي؟ أليس هو وجود حكومة مهددة بالاستقالة على الدوام؟! وما هي الانتخابات؟ أليست هي إقالة حكومة قبل تنصيب أخرى مكانها؟! يقول بوبر في هذا الصدد: "إن يوم الاقتراع في نظري ليس هو اليوم الذي نضفي فيه المشروعية على الحكومة الجديدة، بل هو اليوم الذي نحاكم فيه الحكومة القديمة"(. هذا يعني أن النظام الديموقراطي في جوهره يقوم على العزل والفصل: تغيير دائم للحكومات مع الحفاظ الدائم على النظام؛ المهم هو النظام وليس الحكومة.[/rtl] [rtl]يتباهى المفكر الليبرالي الغربي أيضا بكون المجتمع البورجوازي الحديث هو المجتمع الوحيد الذي ليس له تقاليد موغلة في القدم، فهذا المجتمع هو ابن عصره ولحظته. إن "البورجوازية هي الاسم الآخر للمجتمع الحديث، وهي تعني تلك الطبقة من الناس التي عملت تدريجيا -بفضل نشاطها الحر- على تدمير المجتمع الأرستقراطي البائد المؤسس على تراتبيات الولادة. إنها طبقة غير معرفة بلغة سياسية، مثل المواطن القديم أو السيد الإقطاعي. حيث كان الحق للأول فقط لكي يشارك في النقاش المتعلق بالمدينة، بينما الثاني كان لديه "كوانطوم" من الهيمنة والإخضاع الذي يمنحه مكانة في سلم الاستعباد المتبادل. أما البورجوازية فليس لها مكان في نظام السياسة، أي في إطار الجماعة. إن مكانها يوجد في مجال ما هو اقتصادي، وهو المجال الذي تخلقه إثر مجيئها إلى هذا العالم: في العلاقة مع الطبيعة، في العمل، في الإثراء. إنها طبقة بدون وضعية، بدون تراث قار، بدون امتدادات [تاريخية] راسخة، فهي لا تحمل سوى علامة هشة كنزوع نحو الهيمنة: الثروة. إنها علامة هشة ما دامت خاصية جماعية: فمن هو غني من الممكن ألا يكون كذلك، ومن ليس غنيا من الجائز أن يصير غنيا"(9).[/rtl]
[rtl]المجتمع البورجوازي إذن هو مجتمع لا يعيش على الأمجاد الغابرة، فهو ليس وريثا لأية ثقافة عتيقة ولا لأي حق سياسي. البورجوازية لا تنظر إلى الماضي بل تنظر إلى المستقبل، وذلك بتركيزها على الحاضر. البورجوازي هو ثائر بالفطرة، إذ عندما ولد وجد نفسه وحيدا بدون أجداد ولا أنساب. فاضطر للعيش في ظل حياة بلا ضمانات، ولهذا اعتمد فقط على ذكائه وفطنته وكده واجتهاده. جاء البورجوازي إلى هذا العالم فوجد أمامه مجتمعا تراثيا ظالما، تتحدد فيه الفرص سلفا: "السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه". هناك أسر ترث السلطة والمال والجاه، وهناك أخرى ترث الفقر والبؤس والخضوع. لذا صرخ البورجوازي في وجه المجتمع التراثي، ونادى بقيم "المساواة والعدالة والإخاء والحرية". وهذه القيم هدفها هو تكسير الحق الإلهي أو الطبيعي أو السياسي، من أجل إقامة الحق الاقتصادي فقط. وبطرحها لهذه القيم البديلة، استطاعت البورجوازية أن تهزم المجتمع التقليدي.[/rtl]
[rtl]6 - الفكرة المثلى:[/rtl]
[rtl]إن فكرة المساواة هي فكرة فاضلة، إلا أن دلالتها ليست فاضلة. فالفهم البورجوازي لقيمة المساواة لا يعني التوزيع العادل للثروة، بل يعني المساواة في الفرص والخطوط والإمكانات فقط. لأن عدم التساوي في الفرص هو احتكار للمستقبل من طرف أفراد أو جماعات، بناء على معيار عرقي أو طبقي أو دموي. وهذا بالضبط ما يميز مجتمعات الأمجاد والتراث الأصيل، حيث يتم ضمان المستقبل للفرد قبل ولادته. إذن فقيم المساواة والإخاء والحرية… وغيرها، هي قيم لها هدف واحد هو تكسير احتكار المستقبل من طرف الماضي. وذلك من أجل إفساح المجال للحاضر، وفتح الطريق أمام الإرادة الفردية ضد إرادة الجماعة. وبفتحه لهذا الطريق الجديد في خارطة الزمن والوعي الغربيين، بدأ المجتمع البورجوازي يعيش مشاكله الخاصة. مشاكل نبعت من التناقض الحاصل بين طموحه من جهة و واقعه من جهة أخرى، بين المبادئ التي سطرها سلفا وبين النتائج العملية التي انتهى إليها لاحقا.[/rtl]
[rtl]لوحظ منذ مدة أن فكرة المساواة وأخواتها (العدالة/الحرية/الإخاء..)، تتحول عبر الممارسة إلى أضداد وسوالب. إذ بمجرد ما تتوفر المساواة في الحظوظ والفرص، إلا وتحولت مباشرة إلى لا مساواة في الثروة والوظائف والمكاسب. فالناس ليست لديهم نفس الكفاءات ونفس قوة التفكير، بل بالعكس هناك اختلاف على مستوى الشخصيات والقدرات والمؤهلات. وهذا ما يجعل المساواة مجرد شعار أو مبدأ، ما دام تحققها الفعلي يفرز نقيضها تماما. ومن ثم يجد البورجوازي نفسه يعيش في حالة من التناقضات التي تمزقه: فهو من جهة يتسابق من أجل الإثراء الفردي ويطمح إلى إقصاء منافسه، لكنه من جهة أخرى يدافع عن القيم الإنسانية الكونية (حقوق الإنسان والمواطن/حقوق المرأة/ حقوق الطفل..). البورجوازي هو شخص "محاصر بين أنانية العد التي يغتني بواسطتها، والتوادد compassion الذي يجمعه بالنوع البشري أو على الأقل بمواطنيه. بين الرغبة في المساواة أي أن يكون مماثلا للجميع، ووسواس الاختلاف والشره الذي يؤسس حيوية مصيره النفسي.. إلا أنه من المحتم على البورجوازي أن يرضى بالعيش بين بين، حيث نصف ذاته يحتقر النصف الآخر، وحيث يلزم أن يكون بورجوازيا غير صالح إذا أراد أن يكون مواطنا صالحا؛ أو إذا أراد أن يظل بورجوازيا حقيقيا عليه أن يكون مواطنا غير صالح"(10).[/rtl]
[rtl]ينبني المجتمع المعاصر إذن على فكرتين متناقضتين: الشغف passion، والتوادد compassion(11). هناك من جهة شغف أي رغبة عارمة من أجل الإثراء الفردي، ومن جهة ثانية هناك دفاع لا يكل عن حقوق الإنسان العالمية أي التعاطف مع الآخر بناء على المودة التي يتقاطع فيها ما هو إنساني مع ما هو إنساني. وهذا التناقض هو الذي يفسر معظم الكوارث التي عرفها هذا القرن الذي نودعه: الحرب العالمية الأولى مثلا كانت ثمرة للفكرة الأولى أي الرغبة العارمة في الإثراء والتي أدت بالرأسمال إلى اكتساح الأسواق الخارجية، الشيء الذي أدى بالدول الكبرى إلى الصراع حول مناطق النفوذ الحيوية. وهذه الرغبة لا تعبر عن نفسها بوضوح، إلى حد أن المؤرخ لا يجد سببا واضحا لاندلاع الحرب الأولى سوى حادث سراييفو الشهير.[/rtl]
[rtl]لكن السوسيولوجي المعاصر لا يجد في هذا الاتجاه نحو الأنانية الفردية سوى دليل على قيمة إيجابية، إنها قيمة التقدم أو ضريبته. ذلك أن القيم المضادة (التوادد، التكافل، الرحمة، الشفقة، التعاون، التضامن…الخ) هي قيم المجتمع المتخلف. إنها قيم العائلة الممتدة التي يتعاضد أفرادها بناء على القرابة الدموية، لتأليف مجتمع العشيرة والقبيلة. وهذا التعاضد يؤبد العلاقات والمؤسسات والعقليات، ومن ثم يسود السكون والثبات والجمود أي التخلف. بينما تدل قيم الرغبة والأنانية والفردانية والتنافس على وجود حركية اجتماعية واقتصادية. إنها قيم إيجابية تعمل على تغيير السلوكات والعقليات باستمرار، من أجل مسايرة حركية المجتمع. فقيم الفردانية والأنانية، تعبر عن وجود العائلة النووية، أي البناء الأولي للمجتمع المعاصر.[/rtl]
[rtl]7 - الفكرة بين التمثل والامتثال:[/rtl]
[rtl]هناك فرق شاسع بين أن نتمثل فكرة التقدم أي أن ندركها، وبين أن نمتثل لها أي أن نخضع لها ونعمل على تطبيقها. في الحالة الأولى نضع مسافة بيننا وبين الفكرة، أما في الحالة الثانية فإننا نتبنى الفكرة وندافع عنها. تمثل الفكرة يسمح لنا بإدراك عميق لما تتأسس عليه وتستلزمه، أما الامتثال فيدفعنا إلى الانخراط في المسالك التي تمتد الفكرة عبرها. تمثل الفكرة يخلق لدى المتأمل عدة أمان: منها الرغبة في عزل الشغف عن التوادد. لأن هذا العزل يمكن أن يؤدي -لو كانت الأماني تتحقق- إلى تجنب الكوارث التي عجزت الديموقراطية عن منعها(12). وهذه الأماني هي التي يعبر عنها المفكر التقليدي الذي يعيش خارج الزمن الغربي، أعني ذلك الناطق الرسمي باسم المجتمع التراثي. يريد المفكر التقليدي أن يشق طريقا جديدا للتقدم، يمكن من خلاله إقصاء الشغف والحفاظ على التوادد. ويصب كامل انتقاداته على الحضارة الغربية التي يختزلها في مجرد الشغف، ويغض طرفه عن مجال التوادد. فالإنسان الغربي في نظر المفكر التقليدي هو شخص شغوف (يتهافت على جمع المال/ يفضل الأنا على الآخر/ يهمل الجانب الروحي ويعلي من قيمة ما هو مادي..). لذا فإصلاح طريق التقدم في رأيه، يلزم أن يمر عبر هجر الشغف واستبداله بالتوادد.[/rtl]
[rtl]لكن دعوة تحويل طريق التقدم ليست دعوة جديدة بل هي دعوة قديمة، سبق أن نادت بها جميع الأديان تقريبا. ولا يفعل المفكر التقليدي شيئا آخر عدا التعبير عنها بلغة مغايرة، أي باستخدامه لألفاظ العصر وللأساليب المتداولة. ألم يأت المسيح لينشر الحب والمودة بين الناس ؟! ألم يأت الرسول رحمة للعالمين؟! لكن الدخول إلى عصر الصناعة والرأسمال والتقنية، يؤدي إلى إفراز قيم الشغف. فالتقنية تخلق قيمها، والرأسمال يتحكم في الأشخاص بقوانينه، والصناعة تجبر الإنسان على التحول إلى آلة. وهكذا فبدل أن تتحكم النوايا الطيبة في صيرورة المجتمع المصنع يحدث العكس، إذ المجتمع هو الذي يجرف الأشخاص ويحول القناعات ويستبدل الأفكار. ومن ثم يزداد الاتساع بين الأماني والأفعال، ويحدث الانشقاق بين الرؤية والسلوك. لهذا السبب يجد المفكر المتزن -في تحليلاته وآرائه- نفسه مجبرا على الانتقال من التمثل إلى الامتثال، أي من محاولة تطويع الفكرة إلى الخضوع لها. فما دام التقدم يفرز قيمه خارج إرادة البشر، فما الجدوى من التفكير في تهذيب الفكرة؟![/rtl]
[rtl]إن منطق الإتزان في النظر ناتج عن الاحتكام إلى الواقع، إنه اعتراف بما هو كائن حين يعز الممكن. لذا فالمفكر المتزن يقتصد التفكير، ويختصر الطريق. فما دامت الغاية هي الوصول إلى تأسيس مجتمع متقدم، وما دامت الطريق المؤدية إليه واحدة؛ فلا بد من الارتماء في أحضان الحداثة بكل تبعاتها وتداعياتها. لأن طرح مشاكل الديموقراطية سابق لأوانه، ومعالجة المشكل قبل حدوثه هو نوع من الهذر. إذ حينما نكون أمام مشاكل متعددة ومتفاوتة، فلا بد من ترتيب الأولويات. إن ما يؤرق المفكر المتزن ليس هو مشكل الديموقراطية، بل هو مشكل التخلف. لنضع أولا البنيات الأولية للحداثة، وعندما تفرز عملية التحديث مشاكل جديدة (ومنها مشكل الديموقراطية) سنغير جهة النظر. لأن الوقت ليس وقت التمثل والتنظير، بل هو وقت الامتثال والتنفيذ. وكأن لسان حال المفكر المتزن يقول: "كفى من الكلام، إلى العمل!"[/rtl]
[rtl]المجتمع التراثي هو مجتمع التوادد (امتداد العلاقات/تأبيد الذهنيات/ استمرار القبيلة في العائلة/ ترييف المدينة بدل تمدين البادية..). وهذه الخاصية هي التي دفعت المفكر المتزن إلى الاقتناع بضرورة تحطيم هذه البنيات العتيقة، من أجل فتح المجال أمام إمكانية بروز مجتمع الشغف (الجري وراء الكسب/المنافسة/تشذيب العلاقات الممتدة…). وهذا النوع من الاقتناع هو من طبيعة براغماتية، وليس من طبيعة نظرية خالصة. إنه موقف فرضته ظروف المرحلة، ولم يفرضه العقل الخالص. إنه موقف يضعنا أمام إحراج: "إما أن نكون أولا نكون". إما أن نقبل الحداثة، وإما أن نقبل الانقراض.[/rtl]
[rtl]8 - الإحراج المزدوج:[/rtl]
[rtl]يظهر مما سبق أن تجنيد الناس وراء فكرة ما، يطرح ضرورة التفكير في مسألة المثال: هل الفكرة التي نتمثلها أو نمتثل لها تستحق أن ترقى إلى مستوى المثال الذي نهفو إليه؟ هل من الجائز دعوة الناس إلى تبني تمثلات هي موضع الشك والنقد والرفض؟ هل من السهل أن يتبنى الشخص تمثلات الآخر؟[/rtl]
[rtl]تجد التساؤلات السابقة مبرر طرحها في كون الدعوة إلى الانخراط في الزمن الغربي، هي دعوة إلى تكرار تجربة استنفذت -أو تكاد- توهجها وإغراءها وجاذبيتها. وهذا ما جعل الغرب نفسه يستشعر خطر تنامي المذهبيات الصغرى، والعودة إلى الأفكار الدينية السابقة، وظهور فرق تؤطر أشياعا استعدادا ليوم القيامة!(13) لكن هذا الوعي بالخطر الهامشي، عادة ما يرافقه وعي مضاد يتجلى في الثقة الكبرى في تماسك المجتمع المعاصر الذي يتأسس على قواعد ديموقراطية وليبرالية. وهذا ما يدفع المفكر الليبرالي الغربي إلى التفكير في ضرورة سحب البساط من تحت أقدام هذه الفرق و التنظيمات، من خلال تليين المجتمع المصنع بواسطة قدر من التوادد أو "كوانطوم التوادد" إن شئنا استخدام أسلوب فوري Furet.[/rtl]
[rtl]لكن التاريخ لا يسير وفق رغبة الأفراد، فهو لا يفهم آمالنا وأفراحنا وأحزاننا وإخفاقاتنا. إذ كلما ازدادت وتيرة التصنيع، كلما ازداد ميل المجتمع نحو الشغف. من هنا يظهر أن التاريخ لا يقبل الإصلاح، ولا يرغب في التواطؤ مع أحد. فما يتبقى للإرادة الإنسانية هو مجرد الرغبة في حصول الانسجام والتوادد، أي الإعلان عن ضرورة لم شتات الأفراد حول مثال سيأتي. إن الإعلان عن هذه الرغبة التي تجنح دوما نحو التوادد هو إعلان أيديولوجي، ما دام يتعلق بمصير جماعي. وهكذا تتبدى الأيديولوجيا كرغبة، في حين يسير التاريخ كوقائع. فما يفرق بين الرغبة والواقع هو نفسه ما يفرق بين الأيديولوجيا والتاريخ: إنه منطق النزاع بين التوادد والشغف. والفترات التي تتسع فيها الشقة بين القطبين تعرف نوعا من الركود، وتراجعا في التطور. لأن ميلاد المجتمعات الجديدة من صلب القديمة، لا يتم إلا عندما يقترب التاريخ من الأيديولوجيا، أي حين يميل الشغف إلى الانصهار في التوادد. أما الفترات التي تشهد على ذلك الميلاد، فهي التي تحدث فيها الثورات الكبرى التي يتقرر فيها مصير الإنسانية أو بعض من ذلك المصير (ظهور الإسلام/الثورة الفرنسية/الثورة الروسية…الخ).[/rtl]
[rtl]إلا أن التقاطع بين الأيديولوجيا والتاريخ، ليس دليلا على تحقق الأفكار الصائبة أو الحقة. لأن المجتمع البشري يتغير من خلال إعادة تركيب الماضي بطريقة تجعله قابلا لاستيعاب المثال الذي يبشر بمستقبل قادم. وما دام المستقبل مجرد احتمال، والمثال مجرد فكرة، فالصواب هنا غير قابل للقياس. لهذا تظهر الأفكار الأيديولوجية كاستمرار "معقول" لهواجس الماضي، فهي تبحث دوما عما يعضد مسارها في الوجدان العميق للأمة. ومن هذه الجهة فالأيديولوجيا هي مجموعة من أفكار "عصابية" ذات صبغة جماعية، ما دامت تستند على "أسباب معقولة" لتبرير وجودها. إلا أن هذه الأسباب لا تكون معقولة سوى بالنسبة للذات، سواء كانت ذاتا فردية أو جماعية. وهذا ما يؤذن بزوال الأعراض الأيديولجية بمجرد انكشاف أساسها غير "المعقول" بالنسبة للتاريخ. ويحدث الانكشاف عندما يبتعد الشغف عن التوادد، أي حين يحصل الطلاق بين الرغبة والواقعة. وعادة ما يخلف هذا الابتعاد بين القطبين فراغا عميقا في وعي الأمة، سندعوه مؤقتا: الفراغ الأيديولوجي.[/rtl]
[rtl]لكن الأمر لن يعود مجرد فراغ أيديولوجي حين يتضخم جانب الشغف على حساب التوادد، بل سيصبح الأمر أكثر تهديدا. إذ يميل مسار المجتمع -في هذه الحالة- نحو المرحلة البدائية، وتبرز النزعات العدوانية للدفاع عن "المجال الحيوي" أو "الحفاظ على البقاء". وهذا ما يفسر كون الدعاوي الأيديولوجية تلتقي حول نقطة أساسية، هي الإنذار بوقوع الكارثة إن لم يحدث الخلاص بالطريقة التي تحث الناس على الالتفاف حولها. وهذا الإنذار أو التنبيه تلتقي فيه الأيديولوجيا مع الأديان، حيث يتم توجيه الأنظار نحو الماضي لأخذ العبرة من الحقب التاريخية التي ساد فيها الشغف ثم تلته الكوارث والنهايات المأساوية. وبناء على هذا التحذير تؤسس الأديان والأيديولوجيات مبرر مجيئها، باعتبارها مسالك ضرورية ووحيدة لإنقاذ التاريخ من الهلاك الذي يجرف إليه الناس. وعندما تنجح هذه الرؤى في إقناع الناس بالانخراط في تغيير مسار التاريخ المتدهور، يقع ذوبان الشغف في التوادد مما يجعل من الصعوبة بمكان تمييز أحدهما عن الآخر. وبفعل ذلك الذوبان، تظهر الحادثة التاريخية في لون القداسة أو العلم أو التقنية… الخ(14). أما الانقطاعات التي تحصل في التاريخ نتيجة التباعد بين الشغف والتوادد، فيمكن اعتبارها حالات وفاة للأيديولوجيا. فـ"الأيديولوجيات تموت أيضا، ورغم ذلك تتظاهر بأنها خالدة"(15). وقد يقع زيغ في التفكير إذا ما اعتقدنا بأن وفاة الأيديولوجيا، هي دلالة على توقف التاريخ(16). لأن ذلك يعني خلطا بين التوادد والشغف، بين قصور التفكير الأيديولوجي وبين انتهاء التطور التاريخي. إذ حينما تعجز الأيديولوجيات عن تجديد تمثلاتها، توجه اللوم للتاريخ بدعوى توقف أحداثه، ونضوب خزائنه! وبما أن "الأيديولوجيا هي انتصار للمثال ضدا على الواقع"(17)، فالإنسان سيظل باحثا عن هذا المثال. لذا سنهمس في أذن أرسطو: الإنسان حيوان باحث عن المثال، وليس حيوانا عاقلا![/rtl]