[rtl]" لن يكون هناك أبدا أي تحسن طالما أن النـزعة الموضوعية، التي تجد مصدرها في الموقف الطبيعي وفي العالم المحيط، لم تفضح في سذاجتها" (هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية)[/rtl]
[rtl]لن يتعلق الأمر بنقد فقط "لنـزعة" من بين النـزعات العديدة التي حركت الفلسفة الغربية على امتداد تاريخها الطويل، فما نعنيه بنقد النـزعة الموضوعية سيتمثل في الوقوف على واحد من الأسس التي قام عليها الفكر الحديث، أسس ما تزال تبرر قسما كبيرا من النقاشات المحورية التي تدور حولها الفلسفة المعاصرة، بل ما تزال تبرر الكيفية التي تتصور بها المعرفة وكذا الطريقة التي يطرح بـها إدراك العالم والطبيعة.[/rtl]
[rtl]لا داعي إذن لأن نرى في نقد النـزعة الموضوعية استمرارا للصراعات التقليدية التي نشبت على الدوام بين "الاتجاهات" و "المواقف" الفلسفية والتي درج تاريخ الفلسفة على تعقب مناحيها وزواياها العديدة. ينبغي على العكس أن نرى في هذا النقد مؤشرا لمعنى تاريخي عميق بدأ الوعي به منذ هوسرل ثم مع هيدجر قبل أن يتخذ وضعا آخر مع بعض ممثلي الفلسفة التحليلية. وعلى الرغم من أن السياق الذي ستناقش فيه النـزعة الموضوعية سيتباين نسبيا بين هوسرل وهيدجر، إلا أن ثمة قواسم مشتركة ستظل ثابتة بينهما.[/rtl]
[rtl]قبل أن نستخرج هذه القواسم المشتركة، لنشر بادئ الأمر أن نقد النـزعة الموضوعية يندرج لدى هوسرل ضمن تشخيص أعراض "الأزمة" Die Krisis التي أصابت الفكر العلمي الحديث، ويتم هذا في موازاة مع رد الاعتبار "لعالم العيش" ( أو عالم الحياة) Lebenswelt الذي تنوسي من قبل العلوم الحديثة. في حين يندرج نقد هذه النزعة لدى هيدجر ضمن الترابط الذي سيقوم منذ مطلع العصر الحديث بين مجال الذاتية subjectum ومجال الموضوعية objectum؛ ويؤخذ هذا الترابط في مجمله داخل تاريخ حقيقة الوجود لكن بين التأويل الذي يصوغه هوسرل وذاك الذي يتقدم به هيدجر، هناك مسألة التقنية التي تعد وحدة مشتركة في نقدهما للنـزعة الموضوعية. وعلى هذه الوحدة المشتركة بالضبط سنيصب قسم كبير من دراستنا هذه.[/rtl]
[rtl]1 - هوسرل : النـزعة الموضوعية وعالم العيش :[/rtl]
[rtl]1.1 - تشكل النـزعة الموضوعية Objektivismus حسب هوسرل المظهر الرئيسي لأزمة العلوم الأوروبية. وتعني في نظره إنتاج العلم لعالم من البناءات المثالية ولمسلسل من القوانين الصورية بديلا لعالم العيش بحيث يتم اعتبار هذه البناءات وهذه القوانين ذات وجود موضوعي مستقل عن الذات.[/rtl]
[rtl]ويرجع هوسرل أسباب التحول العلمي الذي قامت عليه النـزعة الموضوعية إلى عامل رئيسي يتمثل في صياغة الطبيعة صياغة رياضية Mathematisierung der Natur (1). من هنا اهتمامه الخاص بالفيزياء الغاليلية، فمع هذه الأخيرة ستخضع الطبيعة لقوانين الرياضيات متخذة طابعا مثاليا. لكن قبل المرور إلى تحديد الخصائص التي ستحملها الطبيعة، علينا أن نعلم بأن حديث هوسرل عن غاليلي ليس حديثا عن شخص بعينه، بل هو حديث عن تحول ثقافي - تاريخي شرع في التبلور منذ العصر الحديث : فما يهم هنا ليس هو تعقب الوقائع ولا ملاحقةالأثار الشخصية؛ إن ما يهم بالأساس هو رصد المعنى التاريخي العميق الذي جسدته الفيزياء الغاليلية. ولذلك سيقول في ( أزمة العلوم الأوروبية) بأن قضيته المحورية هي تسليط الضوء على الفيزياء الغاليلية باعتبارها قد ساهمت على نحو أصيل في تجديد الفلسفة الحديثة، وهذا ما يتطلب استخراج مدلولاتها المخفية والكشف عن بقايا البداهات التقليدية التي تعيش عليها في شكل "مقتضيات المعنى التي ما تزال غير موضحة" (ungeklärte Sinnesvorauss et zung ) (2).[/rtl]
[rtl]بقيام الفلسفة والعلوم على النـزعة الموضوعية، يتم الابتعاد تدريجيا عن الأسس الأولى بحيث يدخل العالم die Welt، بما هو "أفق"، طي النسيان؛ أو بالأحرى إن العالم يغدوالموضوع الكلي الذي يضم جميع الموضوعات دون أن يوضع طابعه "الأفقي" القبلي موضع تساؤل. هذا التحديد، الذي يتلازم في نظر هوسرل مع مجيء العلوم الحديثة، إيذان بعهد جديد يصير فيه العالم تراكما من الموضوعات القطاعية التي تمتثل فقط للإلزامات المهنية، أي تراكما لموضوعات قابلة للتقسيم والتخصيص وفق فقط ما تمليه الاعتبارات التقنية.[/rtl]
[rtl]وحده العصر الحديث إذن هو الذي اكتشف في الرياضيات صورا خالصة. فلا الإغريق ولا رياضيو العصور الوسطى استطاعوا أن يفرغوا مفهوم العدد من محتوياته المادية. لذلك سيقول هوسرل في (المنطق الصوري والترنسندنتالي) بأن اكتشاف المستوى الصوري في أدق معانيه لن يتم لأول مرة إلا في بداية العصور الحديثة بفضل تأسيس الجبر مع فييت، وبالتالي بفضل إضفاء طابع تقني على نظريتي الأعداد والمقادير، وسيبلغ هذا الاكتشاف أعلى درجاته الخالصة في نشدان ليبنتز Leibniz "لرياضيات شمولية"Mathesis Universalis(3).[/rtl]
[rtl]يتضح جيدا ما للرياضيات من دور مباشر في سيادة النـزعة الموضوعية. ولعله من المهم جدا مقارنة تصور هوسرل للفكر العلمي الحديث بالتاريخ الذي أجراه ألكسندر كويريA.Koyré للفيزياء الحديثة. فكلا المفكرين يردان أصل الثورة العلمية التي تمت في القرن السابع عشر إلى "ترييض" الطبيعة وإلى إقحام مفهوم اللانهاية. ولقد ساهم كويري في أغلب كتاباتهالإبستمولوجية في توضيح مدلولات هذا الانقلاب الهام الذي يتخذ عنده بصفة عامة مظهرين اثنين :[/rtl]
[rtl]أولا ، تحطيم الكوسموس الإغريقي الذي يفترض الانغلاق والتراتب والتناهي، وإحلال مفهوم العالم اللامتناهي محله بعد القضاء على فكرتي التراتب الطبيعي والنـزعة الأنثروبومورفية.[/rtl]
[rtl]ثانيا، تشييد مكان رياضي متجانس بديلا للمكان الأرسطي عن طريق تعميم الهندسة الأوقليدية؛ مما ساهم في نزع خاصية الغائية عن العالم عنها أن ظلت تلازمه على امتدادالكوسمولوجيا الأرسطية.[/rtl]
[rtl]هذه الأطروحة المركزية التي دافع كويري في كثير من كتاباته، تتقاطع في صلبها مع التصور العام الذي وجه تأويل هوسرل للعلوم الحديثة وفهمه لأسباب "الأزمة" (4). فكلاهما يجمعان على أن أصول التكميم الرياضي في الفيزياء الحديثة ستكون له نتائج مباشرة على الصورة التي أصبحت تبدو بها الطبيعة منذ مطلع القرن السابع عشر.[/rtl]
[rtl]2.1 - لقد تبين لنا حتى الآن أن للنـزعة الموضوعية صدى مباشرا على فكرة العالم والطبيعة. وهكذا فعندما يعين هوسرل الطابع المثالي كسمة رئيسية للنـزعة الموضوعية، فهو لا يريد بـهذا سوى التأكيد على مبدإ عام تشترك فيه جميع فلسفات وعلوم القرن السابع عشر على حد سواء: إنه الاعتقاد بأن للأفكار وجودا موضوعيا، وجودا في ذاته. وإذا غدا العالم في إطار نفس التصور فكرة لا متناهية لا يمكن حيازتها إلا من خلال سلسلة لا محدودة من العمليات التقنية، فإن هذا لا يتعارض في الواقع مع مقتضيات هذه "المعرفة الجامعة" Allwissenheit التي تشكل إحدى دعائم النـزعة الموضوعية.[/rtl]
[rtl]حقيقي أن هذه "المعرفة الجامعة" تظل في اعتبار فلاسفة النـزعة الموضوعية مجرد غاية لا يمكن الاقتراب منها إلا على نحو لا نـهائي، لكن بالرغم من هذا فهي تبقى قابلة للتحقق إذا ما أخذنا بعين الاعتبار وضعها ضمن التقدم اللانـهائي الذي تراكمه أجيال متعاقبة من الأبحاث النسقية. وعليه فإن الصورة التي ترسمها العلوم الحديثة عن العالم تخلص إلى النظر لـهذا الأخير "كوحدة عقلانية نسقية" (eine rationale systematische Einheit) يقبل كل جزء من جزئياتـها أن يتحدد بكيفية عقلانية.[/rtl]
[rtl]بفعل هذه المعرفة النظرية-التقنية سيقسم العالم إلى "مجموعات لا متناهية من الحقائق" unendlicher Warhrheits-Allheiten (5) قابلة للتحقق في مسار لا متناه، إما بشكل خالص كما هو الشأن في الرياضيات وإما بشكل تقريبي ومتدرج كما هو الحال في علوم الطبيعة. وهذا ما يزيد من سيادة الإنسان على الطبيعة في عصر النـزعة الموضوعية بنفس المقدار أيضا الذي يزيد من تقوية الشروط التي ترفع الفلسفة إلى مرتبة " علم كلي موضوعي" (Philosophie als universaler objectiver Wissenschaft ).[/rtl]
[rtl]من جهة أخرى يرتبط نقد النـزعة الموضوعية بنقد النـزعة الطبيعية Naturalismus، فلقد تصدى هوسرل للنـزعة الطبيعية منذ ( أبحاثه المنطقية) مبينا حدودها وعواقبها الوخيمة على كثير من العلوم. وإذا تبين لمتتبع الانعطافات التي عرفتها (الفلسفة كعلم صارم)، فلأن هوسرل ظل يقدر خطورة النـزعة الطبيعية ويعي اكتساحها لعديد من الآفاق.[/rtl]
[rtl]وعلى الإجمال يمكن القول بأن عيوب هذه النـزعة ترجع في نظر هوسرل إلى ميلها نحو رد كل الموجودات إلى الوجود الطبيعي ونفيها صفة الواقعي عن كل ما ليس حدثا فعليا؛ من هنا إصرارها على إضفاء صبغة طبيعية على الأفكار. لكن ها هنا بالتحديد يكمن " تناقضها" وتهافت دعاواها : فكلما اتخذت هذه النـزعة صورة علمية إلا وكان عليها أن تسلم بوجود موضوعي لموضوعاتها، غير أن هذه الموضوعية سرعان ما تتساقط من تلقاء ذاتها بفعل العناصر التي تتكون منها هي ذاتها، أي بفعل أن هذه "الموضوعية" هي دوما مثالية.[/rtl]
[rtl]ذلك إذن هو التناقض الذي تريد أن توقفنا عليه الفلسفة الفينومينولوجية : إن النـزعة الطبيعية تجمع في نفس الآن بين صفة المثالية وصفة الموضوعية (6). وبفعل هذا فهي لا تمثل إلا صورة أخرى للنـزعة الموضوعية، إذ أن الاكتساح "الموضوعي" الذي تشهده العلوم منذ الأزمنة الحديثة يخفي في رأي هوسرل نـزعة طبيعية مضمرة ظلت قائمة منذ أن أسس غاليلي " علم الطبيعة" بحيث غدا العالم الحقيقي في وضعه العلمي هو "العالم الموضوعي"، أي العالم من حيث هو "طبيعة" Natura في أوسع معاني هذه الكلمة. وتلك خاصية لن تلازم علوم الفيزياء لوحدها، بل ستطال كل العلوم الأخرى، بما فيها علم النفس الذي يعد حسب هوسرل أخصب حقل لنمو النـزعة الطبيعية والموضوعية على حد سواء,[/rtl]
[rtl]3.1 - لقد ذكرنا من ذي قبل أن الكيفية التي نوقشت بها النـزعة الموضوعية تطلبت ربطها بمشكلة التقنية. والواقع أن هناك أكثر من وشائج بين هذه النـزعة وبين سيادة التقنية في العصور الحديثة، ذلك لأن تحويل الطبيعة إلى "موضوعات مثالية" لا يمكن أن يتم إلا في حقل تسطير فيه التقنية. والحال أن ما يسميه هوسرل بالصياغة التقنية Technisierung لم تعد عملية حكرا على "الرياضيات الشمولية" أو على المنهج الجبري لوحدهما بل أصبحت مفعولاتـها تمتد بعيدا لتشمل كل الطرائق المستخدمة في علوم الطبيعة، لا فقط لأن هذه الطرائق أصبحتتنحو منحى "ميكانيكا" وإنما أيضا لأن ماهية المنهج ما فتئت تربط بين تحقق هذا الأخير وبين الميل نحو الصياغة التقنية. وهكذا سيبدو جليا أن المنهج في العلوم الحديثة يتطابق على نحو تام مع التقنية (7).[/rtl]
[rtl]لكن ما السر في منح التقنية هاته المكانة المتميزة؟ وما الداعي لإثارتها في العصر الحديث على وجه التحديد؟ ثمة من دون شك علاقة بين السؤالين اعتبارا لأن هوسرل يرى في الإقبال على التقنية وجها آخر لاستفحال النـزعة الموضوعية، فحيثما ازداد الإقبال على توسيع نفوذ المنهج وتعميم فعالياته، إلا وازداد الحديث عن "حقائق موضوعية" مطلقة ومثالية.[/rtl]
[rtl]لنقف مرة أخرى عند دلالات هذه الصياغة الرياضية التي اتخذتها الطبيعة في الفيزياء الغاليلية، فنحن سنتبين لا محالة ترابطا كبيرا بين الاعتلاء بالطبيعة في سماء "الموضوعات المثالية" وبين توسيع دائرة "الرياضيات الشمولية" لتغدو منهجا عاما وكليا. الظاهر إذن أن هناك علاقة وطيدة بين تحويل الطبيعة إلى كموم ومقادير رياضية وبين تعميم التقنية؛ هذه العلاقة هي من القوة بحيث إن الطبيعة لم تعد تظهر إلا وفق القواعد التي يرسمها المنهج، أي وفق الكيفيات التي تحددها التقنية.[/rtl]
[rtl]ليس غريبا أن يؤكد هوسرل في هذا السياق على نسيان "عالم العيش" Lebenswelt: فبقدر ما يتم الاعتماد على التقنية بقدر ما يزداد الابتعاد عن "عالم العيش" وعن "المعيش"Erlebnis، إذ أن الوجود الحقيقي يصير هنا مطابقا للمنهج. وبـهذا يتضح أن إلباس الطبيعة حلة من المثل "هو الذي أصبح يدفع إلى اعتبار الوجود الحقيقي ذا صلة بالمنهج" (. لكن هذا المنهج، الذي غدا مهيمنا منذ العصورالحديثة، ما عاد ممكنا إلا على حساب " عالم العيش" الذي ما انفك يصير نـهبا للنسيان وللتقليص. وهكذا فإن اتساع دائرة التقنية سيتخذ دوما شكل تصحيح لاستباقات "التجربة" die Erfahrung (9) وتعويضها بقوانين العلم الكونية. إن علامات هذا الاكتساح التقني ستتمثل في إحلال حقائق ذات "موضوعية علمية" محل التجارباللامتناهية التي يمتلئ بها عالم العيش.[/rtl] [rtl]لـهذه الوضعية مظهر آخر يعكس طباع النسيان الذي يخيم على عالم التقنية : فحيثما تعاظم الاعتقاد في فعالية المنهج إلا وازداد في المقابل الابتعاد عن الأصل الجذري الذي منه تستمد التقنية كل مقومات وجودها. وحيثما ازدادت هيمنة النـزعة الموضوعية إلا وتضاءلت حظوظ الإحاطة بالأفق القبلي الذي يمد العالم بمعناه. ولذلك سيلاحظ هوسرل، غير ما مرة، أن النـزعة الموضوعية لا تتساءل قط كيف يكون بمقدور المنهج أن يتولى مهام علمية لا متناهية، ولا أيضا كيف تعاظم حجم التقنية إلى حد الاعتقاد في منفعتها دون توصل العلماء مع ذلك إلى تكوين فهم واقعي حول معنى وضرورة هذه المبادئ التي تقوم عليها التقنية. وباختصار شديد، إن ما يلاحظه هوسرل هو نسيان الأسس الأولى والمقتضيات التي نشأت عليها التقنية. فهذه الأخيرة، شأنـها في ذلك شأن العلم بصفة عامة، تشتغل كآلة تجلب منافع لكل الأشخاص دون أن يتوصل مستعملوها في المقابل إلى فهم إمكاناتـها وضروراتـها الداخلية.[/rtl]
[rtl]لما كان إذن عالم العيش هو " أساس المعنى المنسي" vergessenes Sinnesfundament من قبل علوم الطبيعة، فإن التقنية - التي تجسد أعلى مظهر لسيادة النـزعة الموضوعية - تعيش باستمرار وضعية انفصال عن أصلها؛ وهذه الوضعية هي من العمق بحيث إنها تعد من العوامل الرئيسية التي ساهمت في تفاقم " أزمة العلوم الأوروبية".[/rtl]
[rtl]هذا ما يبرر حديث هوسرل عن جوانب " عديمة الوضوح" Unklarheiten أو عن أبعاد " غير مساءلة" nicht befragt في مجال التقنية (10) لن يرى فيها مؤسس الفينومينولوجياسوى أعراض للأزمة التي يتخبط فيها الفكر العلمي الحديث. ذلك أن الهيمنة التي تمارسها النـزعة الموضوعية لا تستوجب فحسب تعميم التقنية وإذعان الطبيعة لقواعد المنهج، بل إنها تستوجب أيضا إخفاء ما هو أساسي ونسيان "الأساس الأصلي" Urstiftung الذي تقوم عليه كل العلوم. وهكذا يصح القول بأن خاصية التقنية تكمن أساسا في عجزها عن الإحاطة بالأفق الذي تستمد منه معناها ووجودها.[/rtl]
[rtl]إن اتخاذ النمط العلمي طابع " مهام جزئية" منجزة على نحو تدريجي ومتسلسل، قد اكسب المنهج صفة "تيخني" متوارث عبر الأجيال لكن فاقد باستمرار لمعناه الفعلي. على هذه المفارقة يوقفنا هوسرل، فهي التي تفسر في نظره لماذا تظل العلوم الحديثة تابعة على نحو مطلق للتقنية ولماذا تظل موضوعاها متوقفة على الزوايا التي يبرزها المنهج فقط، إذ يبدو أن الطبيعة ما عادت تظهر إلا وفق ما يسمح به المنهج. وبـهذا المعنى أيضا تكون النـزعة الموضوعية في صيغتها العلمية مجرد تقنية.[/rtl]
[rtl]4.1- لا سبيل مع هوسرل لرفع الأزمة التي خلقها تفاقم التقنية والنـزعة الموضوعية إلا بالتمسك بمبادئ العقلانية. والفلسفة ما هي ذاتها إلا أعلى تجسد لـهذه المعرفة التي تضع العقل حكمها وقانونها الخاص. ولذلك سيعلن بأن " أزمة الوجود الأوروبي"لا تملك إلا مخرجين : إما السقوط في مهاوي الانحطاط بفعل نسيان المعنى العقلاني للحياة، وإما العمل على نهضة " أوروبا" عن طريق إحياء روح الفلسفة؛ هذا المخرج الثاني لن يكتب له التحقق إلا بفضل "بطولة العقل" Heroismus der Vernunft التي يرفعها هوسرل سلاحا للقضاء على النـزعة الطبيعية (11).[/rtl]
[rtl]لكي يتمكن الفكر من تجاوز هذه الأزمة التي تضعه فيها النـزعة الموضوعية، على الفلسفة أن تبلور الشروط الضرورية لبناء "مفهوم أوروبا" der Bgriff Europa لا بما هو تحديد جغرافي وإنما بما هو " غائية تاريخية لأهداف عقلانية لا متناهية" (historische Telologie unedlicher Vernunftziele) (12). لكن ذلك هو ذاته ما يشكل قوام "العالم" الأوروبي الذي يبقى عالما عقلانيا في صميمه، عالما وجد نشأته في أفكار العقل، أي في الخطاب الفلسفي كما صاغه الإغريق. وما يتوخاه هوسرل هنا بالتحديد ليس شيئا أخر سوى إحياء هذه الروح العقلانية في صورة فلسفة ترنسندنتالية فينومينولوجية.[/rtl]
[rtl]وإذا كان اقتناعه قويا بأن الفينومينولوجيا لا تجسد فقط متابعة للكيفية التي يعطى ويتكون بـها الوعي بل أيضا أخلاقا وممارسة، فإنه سيدرك تدريجيا بأن الفلسفة عقلانية في صميمها وأن على الفينومينولوجيا أن تصاحب كل مراحل الحياة الإنسانية، سواء أتعلق الأمر بالحياة النظرية أو بالحياة العملية. إنه بـهذا لا يحيي فقط هذا المبدأ الإغريقي الذي يرفع اللوغوس فوق العالم ليجعل منه ناموسا كونيا بقدر ما يعمل أيضا على الوفاء لـهذا الخط الهيجلي الذي يجعل العقل محايثا للتاريخ وللوجود. ألم يكن هيجل هو الفيلسوف الذي سيسير بالنموذج الإغريقي إلى أقصى حدوده؟ ألم يكن هو الذي سيظهر أكثر من سابقيه أن اللوغوس يحكم الوجود وأن تصور ما هو موجود هو مهمة الفلسفة بلا منازع لأن الموجود عقلي بالأساس؟ لنستمع إليه حين يعلن عن ذلك في (مبادئ فلسفة الحق) : "حتى نقول كلمة أخرى في نشدان تعليم الكيفية التي يجب أن يكون بها العالم، نلاحظ في جميع الحالات أن الفلسفة تأتي دوما متأخرة جدا. إذ بما أنها فكر العالم، فهي تظهر فقط حين يحقق وينهي الواقع صيرورة تكونه " (13). أجل، إن الفلسفة لوغوس الوجود، ولأنها كذلك فإن أسباب انبثاقها لا تكتمل إلا باجتماع أسباب معقولية العالم.[/rtl]
[rtl]صحيح أن نفس المبدإ العقلي الذي يطلعنا عليه هيجل هو الذي نتبينه عند هوسرل، إلا أن ما سيأخذ باهتمام هذا الأخير سينحصر في عقلنة مراحل "عالم العيش" Lebensweltبحيث تكون هذه العقلنة هي ذاتـها السلاح الذي يشهر في وجه خطر استفحال النـزعة الموضوعية.[/rtl]
[rtl]لقد سما هيجل بالفلسفة إلى حد اعتبارها لوغوس الوجود. أما هوسرل قسيجعل من "التجربة" die Erfahrung ومن " المعيش" Erlebnis الأساس الأول لكل تفكير فلسفي، ولذلك فإن ما ظل يعيبه على العلوم الحديثة هو تشييدها " لموضوعات مثالية" وإهمالـها في المقابل لعالم العيش الذي يبقى، كيفما كان الحال، أساس ومبدأ معقوليتها. لقد تناست هذه العلوم عالمالإدراكات المباشرة، عالم ما قبل العلم؛ وهذا بالضبط هو الوجه السلبي للإفراط في مسالك النـزعة الموضوعية. صحيح أن هذه المعقولية التي يتتبعها هوسرل ينبغي أن تتم في مجالاتالإيبوخي، لكن هذا لا يعني في حد ذاته نفي الموقف الطبيعي ولا إقصاء الدوكسا.[/rtl]
[rtl]وعلى الإجمال، يبدو جليا أنه كلما ازدادت هذه العلوم الحديثة إغراقا في النزعة الموضوعية وفي تعميم التقنية كلما ازدادت بعدا عن عالم العيش إلى حد أن السمة الأساسية لأزمة العلوم الأوروبية ستقترن عند هوسرل بنسيان المظاهر النسبية والذاتية التي تمتلئ بها الحياة بحيث يزداد العالم العلمي بعدا عن الإنسان ليغدو في النهاية مجرد بناءات معزولة عن الحياة أي مجرد أفكار في ذاتـها منفصلة تماما عن مسؤولية الإنسان.[/rtl]
[rtl]لـهذه الاعتبارات كلها يقول هوسرل : "ينبغي أن يكون الرجوع الأصيل إلى سذاجة العيش (rechte Rückgang zur Naivität des Lebens) الطريق الوحيد الممكن للتغلب على السذاجة الفلسفية الكامنة في " علمية" Wissenschaftlichkeit الفلسفة ذات النـزوع الموضوعي التقليدي، لكن من خلال تأمل يعلو فوق سطح هذه الأرض." (144)؛ فلا سبيل لإحلال "الذاتية الترنسندنتالية" محل "النـزعة الموضوعية" بدون المرور من عالم العيش الذي يبقى في نظر هوسرل الأصل الأول والمبدأ الذي لا محيد عنه.[/rtl]
[rtl]غير أن رد الاعتبار لعالم العيش لا يعني هنا الإغراق في "الموقف الطبيعي" لأن ذلك من شأنه أن يردنا مرة أخرى إلى النـزعة الطبيعية. إذا كانت هناك ضرورات تفرض الانطلاق من عالم العيش فلأن الهدف يظل عند هوسرل هو بلوغ هذه "الذاتية الترنسندنتالية" التي يحرص أشد الحرص على إفراغها من مضامينها السيكولوجية. ولـهذا بالضبط سيزداد من جهة أخرى وعيا بأهمية مجال "ترابط الذوات" (Intersubjektivität) في أعماله الأخيرة بنفس المقدار الذي سيزداد فيه إدراكا بأن ما يرسم للحداثة الفلسفية سحناتـها البارزة هو الصراع بين النـزعة الموضوعية وبين الفلسفة الترنسندنتالية.[/rtl]
[rtl]أجل، إن التاريخ الذي يعرضه هوسرل في (أزمة العلوم الأوروبية) يربط الحداثة بالصراع بين هذين الموقفين : فمنذ أن تأسست " نظرية المعرفة" Erkenntnistheorie والصراع محتدم في تقديره بين فلسفة تضع "حقيقة موضوعية" فوق العالم لتسمو بها إلى أعلى مراتب المثالية، وبين فلسفة تقيم المعرفة والعالم على أسس ذاتية ترنسندنتالية (15). فهل سيحتفظ هيدجرهو الآخر بنفس النـزعة الموضوعية لتفسير وضعية العلوم الحديثة؟ ذلك ما سنتعرف عليه في الفقرة الموالية.[/rtl]
[rtl]2 - هيدجر : النـزعة الموضوعية ومشكلة التقنية :[/rtl]
[rtl]2.1- نبادر إلى التأكيد بأن حديث هيدجر عن العلوم وعن النـزعة الموضوعية، خلافا لهوسرل، لا يندرج إطلاقا ضمن تشخيص أعراض "الأزمة". إن حديثه هذا ينتمي إلى تحديده لعصور الوجود، أي إلى تاريخ المتافيزيقا؛ إذ الواقع أن هيدجر لم ينشغل قط بأزمة العلوم بنفس الكيفية التي انشغل بها أستاذه. لـهذا لم يكن غريبا أن يعتبر " أزمة الأسس" مجرد قضية تخص مفاهيم العلم الأساسية ولا تعكس بأي حال من الأحوال أزمة فعلية للعلوم، لأن هذه الأخيرة تشق طريقها بإحكام ويقين. بيد أن هذا الاختلاف بين هوسرل وهيدجر لن يمنعنا في المقابل من تبين عدة نقاط تقاطع بينهما، سيما فيما يتعلق بمشكلة التقنية التي اتضح لنا حتى الآن أنها تمثل قضية رئيسية في ما يعرف بنقد النـزعة الموضوعية.[/rtl]
[rtl]لا يخفى أن صفة "الموضوعية" تنحصر عند هيدجر في الفكر الفلسفي-العلمي الحديث ولا تتعداه إلى ما قبله : إن تأسيس المعرفة على مفهوم " الموضوعية" هو خاصية تميز العصر الحديث وحده، فلا الفلسفة الإغريقية ولا الفكر الوسيطي تصورا الشيء الحاضر بصفته "موضوعا" (Gegenstand). وحده العصر الحديث إذن هو الذي سيجعل من "الموضوعية"Gegenständigkeit النمط الذي يعطى به الشيء الحاضر أمام الوعي. لكن الموضوعية في نظر هيدجر ليست نـزعة فحسب ( وهيدجر نفسه لا يتحدث عنها بدلالة نـزعة إلا نادرا جدا)، بل هي أساسا نمط معرفي- أنطولوجي مستقل بذاته؛ أو لنقل بلغة أدق : إنها عصر من عصور الميتافيزيقا. العصر الذي يترادف مع التقنية والعلم.[/rtl]
[rtl]لـهذا السبب يعرف هيدجر العلم الحديث باعتباره نظرية للواقع (das Wirkliche)، والمقصود بالواقع هنا هو هذا الشيء الذي يظهر من حيث هو " موضوع" Gegen-stand (16). وإذا كان هذا التحديد مباينا بعمق للصورة التي كونـها الإغريق عن المعرفة والعلم، فإن هؤلاء ظلوا في منأى كلي عن ثنائية "الموضوعية" objectum/ "الذاتية" subjectum ، نظرا أولا لأن الفلسفة الإغريقية كانت بعيدة كل البعد عن تصور الوجود والكوسموس بصفتهما " موضوعات"، ونظرا ثانيا لأن الحديث عن المعرفة بصيغة " موضوعات" يستوجب ضرورة ربطها بحقل الذاتية؛ وهذا بالضبط ما لا يتماش مع مقتضيات الفكر الإغريقي.[/rtl]
[rtl]ليست "الموضوعية" إذن خاصية عرضية، بل على العكس : إنها "ماهية" العصور الحديثة ؛ إذ متى تخلينا عنها، انتفت ماهية العلم الحديث. إلى هذا بالضبط يشير هيدجر عندما يقول :" لنتخل عن هذه الموضوعية، فإننا بـهذا سننفي وجود العلم. هذا على سبيل المثال هو معنى العبارة التي تقول إن الفيزياء الذرية المعاصرة لا تلغي إطلاقا صلاحية الفيزياء الكلاسيكية لدى غاليلي ونيوتن، بل تقوم فقط برسم حدود لميدان صلاحيتها. غير أن عملية رسم الحدود هاته هي في نفس الآن إثبات للخاصية التحديدية التي تتميز بها الموضوعية في نظرية الطبيعة (…) "(17)[/rtl]
[rtl]بيد أننا نجانب الصواب في نظر هيدجر إذا حصرنا الموضوعية في مستوى العلوم أو حتى في مستوى نظرية المعرفة لأن استفحال هذه النـزعة ليس سوى نتيجة للتحول الذي أصاب معنى الوجود مع قيام العصور الحديثة. وهكذا تكون الموضوعية هي الشكل الذي تتخذه الميتافيزيقا الحديثة. إنها الصورة التي سيصير عليها الوجود ابتداء من ديكارت؛ لكنها صورة ستستمر مع كانط وهيجل وهوسرل؛ فهؤلاء سيظلون، حسب هيدجر، أسيري " ميتافيزيقا الموضوع" لأنهم ما يزالون يتصورون الموجود بصفته "موضوعا" أمام " ذات".[/rtl]
[rtl]لا داعي إذن لأن نرى في "الموضوعية" مجرد صفة لا تخص سوى العلوم؛ فهي في رأي هيدجر بنية معرفية- أنطولوجية عامة تنطبق على كل فلسفات الكوجيطو، ولا تصح إلا في ارتباطها الدائم بحقل الذاتية، ذلك لأن "الموضوع بما هو شيء "موضوع في مقابلنا" (Gegen-Stand) لا نعثر عليه إلا حيث يصير الإنسان ذاتا وحيث تصير الذات أنا، والأنا أنا أفكرego cogito" (18). على هذا النحو بالضبط ينبغي أن ندرك الأسباب التي تلزم بعدم تمييز الموضوعية عن الذاتية؛ وهيدجر نفسه ما انفك يعلن عن ذلك في أكثر من مستويات : "فكل فكر يتحول إلى "النـزعة الموضوعية" وإلى "الواقعية" يبقى فكرا "ذاتيا""(199).[/rtl]
[rtl]2.2 - عندما نقول مع هيدجر إن العلم الحديث قد تحدد كنظرية للواقع، فإن لفظة "نظرية" ينبغي أن تفهم هنا في غير المعنى الذي أعطته الفلسفة الإغريقية لكلمة "theoria". ترتبط "النظرية" (التيوريا) عند الإغريق بالنظر؛ ولـهذا كانت المعرفة هي الأخرى ضربا من الرؤية والنظر، الأمر الذي سيسمح لاحقا للمفكرين اللاتينيين باختيار "التأمل" contemplatio " مرادفا للنظرية theoria.[/rtl]
[rtl]لكن "النظرية" تتخذ في العلم الحديث مدلولا جديدا : فهي الآن عمل وممارسة وتقنية. إنـها تدبير للواقع وتدخل في طريقة ظهوره وسيره. وبما أن الواقع لا يظهر في عصر التقنية إلا من حيث هو " موضوع"، فإن النظرية لن تكون بدورها سوى هذه الوسيلة التي تحرض الواقع وتدفعه إلى الكشف عن موضوعيته، ذلك لأن النظرية في معناها الحديث لا تكون كذلك إلا بقدر ما تكشف عن موضوعية الموضوع.[/rtl]
[rtl]بذلك يكون عالم العلم مؤلفا من موضوعات متنوعة، معروضة أمام الممارسة التي أضحت تلاحقها في كل حين. لقد أصبح الواقع العلمي مجموعة من الميادين الموضوعية المتخصصة؛ أما العلم فهو هذه النظرية التي تتابع آثار "الواقع" مأخوذا بمعنى "موضوعية الموضوع".[/rtl]
[rtl]ولعل وقوفنا بشيء من التفصيل عند الدور الذي لعبته الرياضيات،كفيل بتوضيح بعض الجوانب المظلمة في النـزعة الموضوعية وفي نظرية التقنية. فثمة، على ما يبدو، ترابط قوي في نظر هيدجر بين الذاتية والموضوعية والرياضيات : إن المكانة الإيبستمولوجية التي حظيت بـها الرياضيات عند ديكارت لا تعكس في الواقع سوى الرغبة في تأسيس المعرفة على مبدإ الذاتية ووضع ركائز فلسفة الكوجيطو. قد تبدو هذه العلاقة بين الرياضيات وفلسفة الذاتي[/rtl]