الجوهر ثـــــــــــــــائر
عدد المساهمات : 80 معدل التفوق : 194 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 26/02/2012
| | من الفلسفة إلى الدين... من الدين إلى الفلسفة | |
ينطلق هذا البحث من المعيار التالي.. إنّ الفلسفة سابقة على الدين منطقياً إن لم نقل زمنياً، ليس الدين بمعناه الحرفيّ، أي الصلة مع كائن أعلى بل الدّين كمؤسسة وكأيديولوجيا، الدين كمشروع للسيطرة على العقل وسقف تساؤلاته بمسلَّمات جاهزة ومريحة تُغني عن قلق التساؤل، وليست الفلسفة بمعناها التقليديّ الذي يؤرّخ له بطاليس بل الفلسفة كسؤال بشريّ قديم قدم العقل حول الوجود والخلود، فمن دون الوعي ليس لسؤال الوجود قيمة، ومن دون الوعي لا يوجد موت ولا مشكلة خلود، لأنّ الموت مشكلة ثقافية وليست أنطولوجية سابقة على الوعي. الدين هو ابن الفلسفة وطريقها المسدود، وعندما تتحوّل الفلسفة إلى دين يُصبح الموت "موتها" هو طريقها المحتوم، وبالنسبة للعقول التي تبحث عن وسائد للنوم والراحة، وهي الأكثر انتشاراً وخاصة في بلادنا، ليس أفضل من الدين وسادة، وليس أسهل من تحويل الفلسفة إلى ديانة كما حدث مع الماركسية. إنّ الدين هو فلسفة بلا أسئلة، أو هو أسئلة قتلتها الأجوبة، ولكنّ تعدّد الأجوبة الذي اقترن بتعدّد الآلهة تمّ قتله بعد أن صار مزعجاً بجواب واحد وإله واحد عنه صدر دين الإله الواحد. سأمضي قدماً نحو الدين الإسلامي، لأناقش الفرضية القائلة : بأنّ الإسلام هو من أكثر الأديان انفتاحاً على أفق الإلحاد والحرية الوجودية للإنسان. والتي طرحها سعيد ناشيد في مقاله "مستقبل الإلحاد" ثم تابع فيها قدما وصولاً إلى مقاله الأخير حول "البقاء والفناء". سأبدأ بالوصف الهيغلي للإسلام، بأنّه دين التجريد والتعصّب في الوقت نفسه، في محاولة لتفكيك هذه المقولة الهامّة بحقّ، فالإسلام هو دين التجريد لأنّ الإله الإسلاميّ هو إله مجرّد ومتعال وبعيد كلّ البعد عمّا هو محسوس "ليس كمثله شيء"، ولكن ما الذي تتركه عبادة المجرَّد في الإنسان؟ إنّ عبادة المجرَّد تترك الإنسان ضعيفاً خائر القوى أمام مصيره الذي كُتب عليه دون أن يستطيع بأيّ شكل تغييره أو التأثير فيه. فالإله الإسلاميّ "لا يُسأل عمّا يَفعل" لأنّ إرادته حرّة حريَّة مطلقة، وما على العبد الضعيف سوى أن يحمد إلهه في السرَّاء والضرَّاء، كما أن انعدام التصوير والتجسيم والتمثيل تجعل المسلم البسيط عاجزاً عن تحديد ماهية الله، وبالتالي عاجزاً عن نقده ونقضه ومقاومته، لأنه لا يمكن مقاومة ما ليس موجوداً، بل غائباً ومقدّساً ويحكم الوجود، وبكلام آخر ما هو موجود وليس موجوداً في الوقت نفسه، إن الإله الإسلامي لا يمكن قتله من داخل بنيته الحاكمة، كما فعل نيتشه مع مسيحه، لأنه ببساطة ليس موجوداً ولا متعيِّناً في الوجود. إن التعصب هو الناتج المباشر عن التجريد المقدَّس أو تقديس المجرَّد، لأنّ المجرَّد بطبيعته يبقى عصيَّاً على الفهم والاحتياز الكامل، فمفهوم كالحرية - تمثيلاً لا حصراً- هو مفهوم غير موجود، ما يوجد فقط هو التحرّر، فالإنسان يتحرّر ولكنّه لا يحتاز الحرية كاملة، فإذا عاملنا الحرية كمقدَّس ثم جعلنا منها شريعة مقدَّسة، ستصبح عائقاً أمام كلّ فعل متحرّر لا يشبه ما فهمناه عنها، وكلما زاد فهمنا لأشكال التحرّر المتعدّدة، بل واللانهائية، قلّ تعصّبنا للمفهوم وقبولنا للآخر، وبالتالي استطعنا إزاحة هالة القداسة عن الشكل الأحادي للمفهوم، وبالعكس أي كلما عرفنا القليل عن الحرية زاد تقديسنا لها وتجريدها وتعصّبنا لها في الوقت نفسه، ولنقل المسألة بطريقة المعادلة، فكلما قلّ الفهم زاد التعصّب، والعكس صحيح أي كلما زاد الفهم قل التعصب، وهذا ما ينطبق على الدين الإسلامي الذي هو من أكثر الأديان تعصباً لأنه من أكثر الأديان تجريداً، وأقلّها فهماً لطبيعة الله المجرَّدة، وبالتالي فالعلاقة بين التعصب والتجريد ليست علاقة مفارقة كما يبدو للوهلة الأولى بقدر ما هي علاقة تضايف أو علاقة تداخل. إن أكبر الديكتاتوريين في التاريخ هم أكثر الناس تعصباً لأحلامهم التي اتصفت بالإطلاقية والتجريد، فهتلر هو رجل حالم أكسب حلمه بالأمة الألمانية والعرق الآري صفة الإطلاق، ثم حوّل ذلك الحلم إلى فعل سياسيّ وتشريع شبه دينيّ، فتحوّل إلى همجيّ بأدوات حضارية. ولطرح المسألة بطريقة أكثر بساطة نقول : كلّ فكر متعصّب هو فكر مليء بالمجرّدات، مجرّدات يعاملها أصحابها كمقدّسات، لننظر للتعصب القومي الشوفيني أو الفكر الديني الأصولي نراه فكراً محكوماً بمجرّدات وأفكار حالمة تريد أن تشرّع نفسها في الحياة، ولكنها – الحياة في مكان آخر – بلغة ميلان كونديرا. إذا قسمنا القرآن إلى قسمين، قسم إلهيّ وقسم بشريّ، ماذا نجد؟ إنّ الإلهيّ مجرّد والبشريّ تشريعي، وعندما يصبح التشريع البشري إلهيّا، والإلهيّ مطلقا، يصبح التشريع مطلقا أيضاً وبالتالي لا بدّ أن يصبح التشريع قائما على التعصّب لأنّ مصدره إلهي مقدس، وعندما يصبح التشريع مطلقا وإلهيّا ومقدّسا يصبح صالحا لكلّ زمان ومكان، هذا ما يريده أسامة بن لادن ومن على شاكلته. إن الدين الإسلامي هو من أقلّ الأديان انفتاحاً على أفق الإلحاد والحرية البشرية وجودياً وليس من أكثرها بهذا المعنى الأنطولوجي، لماذا؟ لأن الإلحاد يحتاج إلى التساؤل وإلى قلق السؤال حول الوجود والخلود، والدين الإسلامي هو من أكثر الأديان إغلاقاً لأفق السؤال وقد حسم أمره تجاه الوجود العرضي لصالح الخلود الجوهري في جنان عدن وخاصة الإسلام السنّي، ولنلاحظ على عكس ما أراد ناشيد إثباته أنّ باقي الفرق الإسلامية على اختلافها، والتي تقوم على فكرة المخلص أو المهدي المنتَظر، هي الوليد الشرعي لأفكار الفرق الكلامية وعلى رأسهم المعتزلة الذين قدموا أسئلة محرجة لأهل السنة والجماعة قادت الغزالي ليطلق تحريمه الشهير بإلجام العوام عن علم الكلام. إن السؤال الإسلامي عن الخلود ليس ذا قيمة إسلامياً، لأنّ سؤال الوجود خامل دون قلق، والموت حقّ لأنّ الحياة ليست بحقّ، ولنسأل الانتحاري الذي لو عرف بأنه ذاهب إلى العدم لما أقدم على ترك الحياة بهيئة الواثق من خلوده قرب حورياته الأربعين، أو لاكتفى بحورية واحدة على هذه الأرض التي تستحقّ الحياة بلغة درويش. إن قبول الحياة بعرضيتها وزوالها ليس شأناً دينياً على الإطلاق، حسبما نرى، بل إنّ الأمر يحتاج إلى وجوديّ كبير كسارتر، أو "عدميّ" كبير كنيتشه، عندما ينعت نفسه بأنه أكبر عدميّ في أوروبا لا لأنه يبخس الحياة قيمتها، بل على العكس، لأنّه يقدّر الحياة ويُجلّها في عالم بلا إله بعد "أفول المتعالي وخسوف المعاني الكبرى المقدسة". عندما نوافق على أن الإسلام مفتوح على أفق الإلحاد فنحن نقصد التركيز على نقطة هامة ظننت أن ناشيد قبض عليها في "مستقبل الإلحاد"، وهي أنّ الإسلام التاريخي، المعاش والمعاصر اليوم يعيش أزمة وجودية وتاريخية تفتح آفاقه نحو الإلحاد، والأزمات عادة، تفرز مسألتين متساوقتين، هما الارتداد والانفلات، القبول الأعمى والرفض المطلق، ولذلك نرى أنّه كلما زادت أزمة الإسلام التاريخية المعيوشة حدَّةً زاد الارتداد الديني من جهة والانفلات من الدين من جهة أخرى، وللمقارنة فقط نقول : بأنّ الدين المسيحي مرَّ بمثل هذه المرحلة في بدايات النهضة الأوروبية وخلالها، بانفتاحه الإجباري على المنجزات العلمية والاقتصادية والفكرية الفلسفية إضافة إلى الانفتاح الجغرافي على العالم. والدين الإسلامي اليوم ينفتح مجبراً على منجزات العلم والفكر والاقتصاد المعولمة، وليست كثرة الفتاوى وأحكام الردّة والتأويلات القرآنية لمنجزات العلم، سوى الردّ الطبيعيّ على حجم تلك الأزمة، وما التناقضات العويصة التي يعيشها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها سوى الدليل على أنّ الحلول المستقدمة من الدين باتت متأخرة جداً عن حركة المجتمعات وانفتاحها الإجباري على منجزات الحضارة، ويوماً بعد يوم نرى الصعوبات التي تواجهها أفكار وتطلّعات من مثل (الإسلام هو الحل) (الإسلام دين ودولة) (الإسلام صالح لكل زمان ومكان)، وبهذا نستحضر مقولة لكانط في كتابه (الدين في حدود مجرد العقل) حيث يقول ما معناه، إنّ ديناً يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه. إن القول- بأن الإسلام كجوهر لاتاريخي أي كعقيدة أصلية وبنية ميتافيزيقية مغلقة، هو دين يختلف عن غيره من الأديان بأنه دين مفتوح باتجاه أفق الإلحاد- يحتمل أمرين مختلفين بنتائج مختلفة، فإمّا أن نرى من داخل البنية أو من خارجها. الاحتمال الأوّل يقودنا إلى القول بأنّ من يفكّر من داخل بنية النص لن يصل إطلاقاً إلى نتائج إلحادية، فالمسلم العاديّ محاصر بدين مغلق وإله ماكر ومجرَّد لا يمكن القبض عليه لتجاوزه، ومحاصر أيضاً بتشريع يتدخّل بأصغر تفاصيل الحياة مرتدياً لباس القداسة، أمّا المسلم غير العادي أو المثقف فهو في أحسن أحواله مصلح دينيّ، قد يُستَشفّ منه إلحادٌ عبر نقديته التي لا نستخفُّ بها أبداً، لكن دون أن يجرؤ على اتّخاذ موقف إلحاديّ مُعلن، وتكفينا نتائج المرحوم الجابري في هذا الإطار أو نصر حامد أبو زيد الذي يعتزّ بنطقه للشهادتين في هولندا. أما الاحتمال الثاني وهو التفكير من خارج بنية النص، وبهذا نقول إنّ التفكير العقلاني والتاريخي الحرّ والهادئ بأيّ دين على الإطلاق -سماوياً كان أم أرضياً- سيؤدي إلى نتائج إلحادية. فالحشو، والزمكانية التاريخية، والتناقض، والبدائية العقلية، والعقلية البدائية، إضافة إلى الأيديولوجيا، هي سمات أوّلية ملتصقة بالدين، ولا يختلف الإسلام عن غيره من الأديان في هذه السمات سوى من حيث أنّ قيامه على التجريد وانعدام وجود الصور والأيقونات والمجسدات الإلهية تجعله أكثر قدرة على المراوغة وأقلّ قبولاً- بالمعنى الأنطولوجي والميتافيزيقي لا بالمعنى الحياتي والمُعاش- للتنازل والاعتدال. عندما يدعو سعيد ناشيد- لأن تأخذ أخلاق الحداثة موقع الشريعة عندنا ولكن مقابل أن تأخذ الأنطولوجيا الإسلامية موقعها ضمن "الثيولوجيا الغربية" علّهم يخرجون من عدميتهم المابعد حداثية- فإنّه يذكّرني برفاعة الطهطاوي بعد أن عاد من بعثته المبجّلة إلى باريس ليخبرنا بأنّه وجد هناك إسلاما بلا مسلمين في مقابل وجود المسلمين بلا إسلام في بلادنا، ثم يدعو الله أن تعود الأمور إلى نصابها علّنا نهتدي وعلّهم يهتدون، وبالتالي لا بدّ أن يرفع الغرب- حسب ناشيد- شعار : الإسلام أو الأنطولوجيا الإسلامية هي الحلّ لأزمة الأنطولوجيا "المسيحية" الغربية، وفي المقابل علينا نحن أن نستعيض عن شعارنا التشريعي "الإسلام هو الحلّ" بالقول : إنّ أخلاق الحداثة هي شرعنا وشريعتنا. في هذا القفز المتبادل الذي يطرحه ناشيد يكمن مصدر العنوان الذي اخترناه لبحثنا، بمعنى أنّ سعيد يريد أن يتحرّك من الفلسفة إلى الدين ثمّ من الدين إلى الفلسفة وكأنّه يلعب بين خطين متوازيين مع أنّ الأمر ليس بهذه البساطة، فما بعد الحداثة التي يعيشها الغرب المعاصر والتي تبدو للناظر أنّها تلبس أهاباً دينياً، هي في الحقيقة قطعت أشواطاً بعيدة في قطيعتها الأبستمولوجية مع الدين وخاصة بمعناه التقليدي، وهي في الحقيقة الوليد الشرعي لفلسفة الحداثة بممثليها الرئيسيين، وخاصة أفكار كانط التي فتحت الباب على مصراعيه للتفكير بماذا أو (ماذات) المعرفة والأمل والعمل، ومن وضعنا الذي نحن فيه، حيث نرى العالم من خلال النظّارة التي نلبسها، فإن كنت ضفدعا سترى العالم ضفدعياً، ما يعني بالمحصِّلة نسبية الحقيقة التي قطعت بشكل كامل مع حقائق الدين الأبدية والخالدة في بساطتها، تلك النسبية التي نرى الغرب المابعد حداثي بكلَّيته يَنعَم بفضائلها ويتخبَّط في أزماتها، وهذا ما لا أظنّ أن الأنطولوجيا الإسلامية ستجدي به نفعاً، لأنها أقلّ من أن تحمل ثقله الفلسفي بأدواتها الدينيّة البدائية. أخيراً، أتمنّى وأعمل وآمل، أن تصبح أخلاق الحداثة هي شرعنا وشريعتنا، ولكن فقط لأنّ أخلاق الحداثة امتطت حصان العقل وعَدَتْ، بعد أن تركت الدين لمن يعشق الوسائد المريحة والنوم في حضن المسلَّمات المقدسة، وأرى أنّه من غير الأخلاقيّ أننا ما زلنا نصوغ قوانيننا البشرية والحياتية المعاصرة تبعاً لأخلاق الشريعة وأحكامها، فقطع اليد ورجم الزاني أو جَلّده ورفض شهادة الأنثى الراشدة حتى لو كانت نائبة الرئيس فهي ناقصة عقل ودين ..إلخ هي أخلاق شرائعية وقوانين موقرَّة في غير بلد عربي. | |
|