في الجدل القائم اليوم على نطاق واسع حول "الدين والدولة" والسلطات الدينية التي يجري منحها صفة دينية مقدسة من عند الله؛ تحضر بقوة كتابات نصر حامد أبو زيد، و بخاصة كتابه "النص والسلطة والحقيقة، إرادة المعرفة والهيمنة" ..
يرى أبو زيد أن الخطاب الديني يساهم بطريقة غير مباشرة، و ربما غير مقصودة في تكريس ما يسمى النظام العالمي الجديد، الذي يعني هيمنة الغرب على شؤون العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ، ووجه المفارقة أن هذا الخطاب يبشرنا بأنه الخطاب الوحيد المناهض للتبعية.
و لا يفضي التأويل العلمي إلى استنطاق النصوص الدينية بمعان و دلالات محددة مسبقا، و تغرض على النصوص من خارجها، و تهدر مستويات السياق المختلفة، و التي يستحيل فهم دلالة النصوص بمعزل عنها، و البديل تعليق النصوص في الهواء، بحيث تقبل كل ما يمكن أن تستنطق به، فتظل هيمنة مبدأ "شمولية النص" تراكم التأويلات مخفية وجه الواقع و مزيفة الوعي، وهل بعد ذلك كله إلا الضياع !؟
و في دراسته لمفهوم النص وتأويله وسلطته يرى أن الكشف عن مفهوم النص يعد كشفا عن آليات إنتاج المعرفة، و يعني "النص" الظهور، و في الاصطلاح: التعيين، و صار مصطلح النص يعني ذلك الجزء الواضح الدلالة وضوحا لا يختلف عليه اثنان من أهل اللغة، و يعرفه الشافعي بأنه "المستغنى فيه بالتنزيل عن التأويل" و يختلف عن النص "المتشابه" و "المحتمل"
و هنا فإن الخطاب الديني المعاصر حين يتمسك بالمبدأ الفقهي "لا اجتهاد فيما فيه نص" و حين يعيد إعلانه و طرحه دائما في وجه أي محاولة للاجتهاد الحقيقي، إنما يعتمد في الواقع على عملية مخادعة دلالية مغرضة، تتمثل في استخدام كلمة "نص" للدلالة على كل النصوص الدينية (القرآن الكريم والأحاديث النبوية) بصرف النظر عن الوضوح و الغموض، هذا الخلط بين دلالة النص الأصلية والدلالة المعاصرة التي تسبق إلى وعي المخاطب العادي، فيترسخ في الذهن تحريم الاجتهاد، و تدرك بذلك إلى أي أحد يريد الخطاب الديني أن يحكم الحصار حول النصوص لينفرد "الكهنوت" بسلطة التأويل والتفسير.
والانتقال من تحليل "النص" إلى تحليل دال "التأويل" يعني الانتقال من مجال اللغة إلى مجال الثقافة العربية قبل الإسلام، و قد ورد دال "التأويل" في القرآن سبع عشرة مرة، و لكن دال "النص" غاب غيابا كاملا، والتأويل يفهم لتحليل الرؤى والأحلام والأحاديث والطعام والأفعال والكتاب، و في تفسير الطبري: التأويل أصله من آل الشيء إلى كذا، إذا صار إليه ورجع، يؤول أولا، وأولته، أنا صيرته إليه، وتأويل الأفعال في قصة موسى والعبد الصالح هو الكشف عن دلالتها التي كانت خفية بالنسبة إلى موسى، وتأويل الطعام في سورة/ قصة يوسف الكشف عن المصدر، وهو مختلف عن تأويل الأحلام، وتأويل المتشابهات من آيات القرآن.
والمهم في سياقنا الراهن أن التأويل أداة معرفية، يمكن استخدامها لاستقراء الدلالات في موضوعات متعددة، الرؤى والأحلام، والأفعال الإنسانية، والأشياء، والنصوص اللغوية، و هذا يؤكد الافتراض بأن للثقافة العربية مفهوما للنص بالمعنى السيميوطيقي، بل يمكن القول إن تلك الثقافة قد طورت مع الإسلام مفهوما للنص يشمل الكون كله من أعلى مرتبة إلى أدناها. و النص في تعريفه المعاصر: سلسلة من العلامات المنتظمة في نسق من العلاقات تنتج معنى كليا يحمل رسالة.
و يعرض أبو زيد نصا لابن عربي يحل كما يعتقد إشكالية الفكر الديني الإسلامي، والفكر الديني بعامة، يقول ابن عربي: "الأمر محصور بين رب وعبد، فللرب طريق، و للعبد طريق، فالعبد طريق الرب فإليه غايته، والرب طريق العبد فإليه غايته" ويقول جهم بن صفوان (ت 128 هـ) "لا فضل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس بما تنسب إليه أفعالهم على المجاز، .. إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختيارا له منفردا بذلك، كما خلق له طولا كان به طويل، ولونا كان به متلونا"
هذا التصور كما يقول أبو زيد "ينفي عن العالم الذي نعيش به كل صفات الفعالية والحركة، على المستويين الطبيعي والإنساني على السواء" إنه "تصور يهدر قوانين الطبيعة" .. وما يترتب على ذلك من عزل الإنسان عن إمكانية فهمها، واستثمارها لصالحه فقط، فالأخطر من ذلك ما يؤدي إليه من نفي للإنسان ولعالمه نفيا شبه تام يحصره داخل دائرة "المجاز"
إن "اللغة ليست مجرد أداة للتعبير عن المعرفة، بل هي في الأساس أداة التعرف الوحيدة على العالم والذات، وهي من ثم أهم أدوات الإنسان في امتلاك هذا العالم والتعامل معه، فإذا لم تكن اللغة ملكا للإنسان ومحصلة لإبداعه الاجتماعي، فلا مجال لأي حديث عن إدراكه للعالم أو عن فهمه له، إذ يتحول الإنسان ذاته إلى مجرد "ظرف" تلقى إليه المعرفة من مصدر خارجي فيحتويها"
"ترى هل هناك علاقة بين هذا المفهوم الذي صاغته جماعات فكرية تمثل بالضرورة قوى اجتماعية ذات مصالح محددة وبين الدلالة اللغوية الأصيلة لكلمة "عقل" في اللغة العربية؟ إن الدلالة التي اعتمد عليها كل من يشككون في قدرة "العقل"على إنتاج المعرفة، فقالوا إنه سمي كذلك لأنه"يمسك" المعرفة التي تأتيه من الخارج" .. يتساءل أبو زيد
ﺗﺒﺪو اﻟﯿﻮم ﺛﻤﺔ ﺣﺎﺟﺔ ﻛﺒﯿﺮة إﻟﻰ اﻟﺒﺤﺚ واﻟﺠﺪل، ﺑﻌﯿﺪا ﻋﻦ اﻟﺸﺎرع و اﻟﺘﻈﺎهرات واﻻﻋﺘﺼﺎﻣﺎت، ﻟﻨﺪرك ﻛﯿﻒ ﻧﻤﺘﻠﻚ اﻟﺤﺮﻳﺔ واﻟﻜﺮاﻣﺔ اﻟﺘﻲ تؤهلنا لفهم ﺣﯿﺎﺗﻨﺎ وﻣﻮاﻗﻔﻨﺎ، و ﺣﺘﻰ ﻻ ﻧﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ هيمنة اﻟﻨﺨﺐ اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﯿﺔ و احتكارها ﻟﻠﻤﻮارد واﻟﻤﻌﺮﻓﺔ واﻟﻔﺮص، إﻟﻰ ﺳﻠﻄﺔ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺪﻳﻨﯿﺔ واﺣﺘﻜﺎرها اﻟﻠﻐﺔ و فهم اﻟﺪﻳﻦ.
و في الجدل اﻟﻤﺘﺼﺎﻋﺪ ﺣﻮل اﻟﺪﻳﻦ و اﻟﺤﯿﺎة واﻟﺪوﻟﺔ، و اﻟﺬي ﻳﺘﺤﻮل إﻟﻰ ﺻﺮاﻋﺎت ﺳﯿﺎﺳﯿﺔ وﺣﺮوب أهلية؛ هناك ﻣﺴﺄﻟﺔ مهمة ﻓﻲ هذا اﻟﻤﺠﺎل هي ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرها أداة للفهم واﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ واﻟﻨﺼﻮص اﻟﺪﻳﻨﯿﺔ. و ﻛﯿﻒ احتُكر فهم اﻟﻠﻐﺔ و حُوِّل إﻟﻰ أداة ﺳﻠﻄﺔ وهيمنة ﺗﻤﻨﻊ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ الفهم واﺳﺘﺨﺪام اﻟﻠﻐﺔ إﻻ ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻳﺤﺪده لهم وﺳﻄﺎء ﻳﺤﺼﻠﻮن ﻋﻠﻰ ﺳﻠﻄﺔ و وﺻﺎﻳﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻐﺔ واﻟﺪﻳﻦ واﻟﺴﻠﻮك واﻟﺤﯿﺎة!
ﻳﻘﻮل أﺑﻮ زﻳﺪ: "اﻟﻠﻐﺔ ﻟﯿﺴﺖ ﻣﺠﺮد أداة ﻟﻠﺘﻌﺒﯿﺮ ﻋﻦ اﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﺑﻞ هي ﻓﻲ اﻷﺳﺎس أداة اﻟﺘﻌﺮف اﻟﻮﺣﯿﺪة ﻋﻠﻰاﻟﻌﺎﻟﻢ واﻟﺬات. وهي ﻣﻦ ﺛﻢ أهم أدوات اﻹﻧﺴﺎن ﻓﻲ اﻣﺘﻼك هذا اﻟﻌﺎﻟﻢ واﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻌﻪ. ﻓﺈذا ﻟﻢ ﺗﻜﻦ اﻟﻠﻐﺔ ﻣﻠﻜﺎﻟﻺﻧﺴﺎن وﻣﺤﺼﻠﺔ ﻹﺑﺪاﻋﻪ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻓﻼ ﻣﺠﺎل ﻷي ﺣﺪﻳﺚ ﻋﻦ إدراﻛﻪ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ أو ﻋﻦ فهمه ﻟﻪ، إذ ﻳﺘﺤﻮلاﻹﻧﺴﺎن ذاﺗﻪ إﻟﻰ ﻣﺠﺮد "ظﺮف" ﺗﻠﻘﻰ إﻟﯿﻪ اﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻣﻦ ﻣﺼﺪر ﺧﺎرﺟﻲ فيحتويها". وﻳﺨﻠﺺ إﻟﻰ اﻟﻘﻮل "إن رﺑﻂ ﻣﺮﻛﺒﺔ اﻟﻠﻐﺔ واﻟﻤﺠﺎز ﺑﻘﺎطﺮة اﻟﺪﻳﻦ هو اﻟﻤﺴﺆول ﻋﻦ ﺣﺎﻟﺔ اﻻرﺗﺒﺎك واﻟﺘﺸﻮش ﻓﻲ فهم الظاهرة، و لكنها ﻣﺴﺆوﻟﯿﺔ ﺟﺰﺋﯿﺔ، ﻓﺎﻟﻤﺴﺆوﻟﯿﺔ اﻟﻜﺒﺮى ﺗﻘﻊ ﻋﻠﻰ ﻋﺎﺗﻖ رﺑﻂ ﻣﺮﻛﺒﺔ اﻟﺤﯿﺎة كلها ﺑﻜﻞ مستوياتها اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﯿﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻟﺴﯿﺎﺳﯿﺔ واﻟﺜﻘﺎﻓﯿﺔ واﻟﻔﻜﺮﻳﺔ واﻷﺧﻼﻗﯿﺔ ﺑﻌﺠﻠﺔ اﻟﺪﻳﻦ واﻟﻌﻘﯿﺪة". وﺻﺎر الفهم اﻟﺒﺸﺮي الاجتهادي؛ اﻟﻤﺘﻘﺪم ﻣﻨﻪ أو اﻟﻤﺘﺨﻠﻒ، اﻟﻤﻐﺮض أو اﻟﺒﺮيء، اﻟﻤﻌﺒﺮ ﻋﻦ هيمنة ﺳﯿﺎﺳﯿﺔ واﺳﺘﺨﺪام اﻟﺪﻳﻦ وإﻟﺤﺎﻗﻪ ﺑﺎﻟﺴﻠﻄﺔ أو اﻟﺘﺪﻳﻦ اﻟﺒﺮيء اﻟﺴﻠﯿﻢ، هو اﻟﺴﺎﺋﺪ والمهيمن ﻓﻲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﺣﺘﻰ ﺗﻮﺣﺪ إﻟﻰ ﺣﺪ اﻟﺘﻄﺎﺑﻖ ﺑﺎﻹﺳﻼم ﻓﻲ اﻟﻮﻋﻲ اﻟﺪﻳﻨﻲ اﻟﻮﺳﯿﻂ واﻟﺤﺪﻳﺚ واﻟﻤﻌﺎﺻﺮ. وﻗﺪ ﺣﺎول اﻟﻤﻌﺘﺰﻟﺔ واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﻘﻠﯿﻮن أن ﻳﻘﻮدوا ﻣﺮﻛﺒﺔ اﻟﻤﺠﺎز ﻓﻲ اﺗﺠﺎه ﺗﺜﺒﯿﺖ ﺣﻘﯿﻘﺔ اﻟﻌﻠﻢ واﻹﻧﺴﺎن، وﻟﻜﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺣﺎوﻟﻮا قيادتها ﻓﻲ اﻻﺗﺠﺎه اﻵﺧﺮ ﻛﺘﺒﺖ لهم اﻟﻐﻠﺒﺔ ﻷﺳﺒﺎب ﺗﺎرﻳﺨﯿﺔ ﺑﺎﻟﻤﻌﻨﻰ اﻟﺴﻮﺳﯿﻮﻟﻮﺟﻲ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ، وﻟﯿﺲ لهذه اﻟﻐﻠﺒﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﺎﻟﺴﻼﻣﺔ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔاﻻﻋﺘﻘﺎدﻳﺔ. هذا اﻟﺮﺑﻂ ﻟﯿﺲ ﺟﺰءا ﻣﻦ اﻟﻌﻘﯿﺪة ذاتها، ﺑﻞ هو رﺑﻂ ﺣﺪث ﻓﻲ ﻟﺤﻈﺔ ﺗﺎرﻳﺨﯿﺔ ﻣﺤﺪدة ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻗﻮى اﺟﺘﻤﺎﻋﯿﺔ بعينها ﻓﻲ ﻣﻌﺮﻛﺔ اﻟﺼﺮاع اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﻔﻜﺮي ﻓﻲ ﺗﺎرﻳﺨﻨﺎ.
ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺟﯿﺎل اﻷوﻟﻰ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﻠﻤﯿﻦ ﺗﺪرك أن ﻣﺠﺎل اﻟﻮﺣﻲ واﻟﻌﻘﯿﺪة ﻣﺴﺘﻘﻞ ﻋﻦ ﻣﺠﺎل اﻟﺨﺒﺮة واﻟﻔﻌﺎﻟﯿﺔاﻹﻧﺴﺎﻧﯿﺔ واﻟﻄﺒﯿﻌﯿﺔ، وﻟﻢ ﻳﺘﺪاﺧﻞ اﻟﻤﺠﺎﻻن إﻻ ﻓﻲ ﺳﯿﺎق اﻟﺼﺮاع اﻟﺬي أّﺻﻞ أﺋﻤﺔ وفقهاء ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ "ھﯿﻤﻨﺔ"ﻣﺠﺎل اﻟﺪﻳﻦ واﻟﻌﻘﯿﺪة ﻋﻠﻰ ﻣﺠﺎﻻت اﻟﺤﯿﺎة كلها. وﺻﺎر اﻟﻨﺺ اﻟﻘﺮآﻧﻲ ﻓﻲ اﻟﻮﻋﻲ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻧﺼﺎ ﺛﺎﺑﺘﺎ ﺟﻤﺪﺗﻪاﻟﺘﻔﺴﯿﺮات اﻟﺘﻲ ﺗﺮاﻛﻤﺖ ﻋﻠﯿﻪ ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺮن اﻷول الهجري ﺣﺘﻰ نهاية اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ الهجري ﺗﻘﺮﻳﺒﺎ، وظﻠﺖ ﻣﻼﺻﻘﺔ ﻟﻪ ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺣﺘﻰ اﻵن.
ﻟﻐﺔ اﻟﻨﺺ وإن ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﺘﻤﺪ مرجعيتها ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺔ اﻷم (اﻟﻠﺴﺎن)، فإنها ﻟﻐﺔ ذات ﻧﻈﺎم ﺧﺎص ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻋﻠﻰالمهتمين ﺑﺎﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻘﺮآﻧﯿﺔ اﻟﻌﻜﻮف ﻋﻠﻰ دراستها ﻣﻦ أﺟﻞ اﻛﺘﺸﺎف ﻣﻼﻣﺢ ﺗﻠﻚ اﻟﺨﺼﻮﺻﯿﺔ، وذﻟﻚ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﺑﺪون إهمال لعلاقتها ﺑﺎﻷﺻﻞ اﻟﺬي ﺗﻮﻟﺪت ﻋﻨﻪ. واﻟﻨﺺ اﻟﻘﺮآﻧﻲ وإن ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻣﺮﺟﻌﯿﺔ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﯿﺔ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺘﺠﺎوزها، ﻣﺨﻀﻌﺎ ﻣﻌﻄﯿﺎتها ﻟﻄﺒﯿﻌﺘﻪ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻧﺼﺎ دﻳﻨﯿﺎ.
إن اﻟﻌﺎﻟﻢ أو اﻟﻌﻮاﻟﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﺸﯿﺮ إليها اﻟﻠﻐﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل نظامها اﻟﺮﻣﺰي، ھﻲ اﻟﻌﺎﻟﻢ أو اﻟﻌﻮاﻟﻢ اﻟﻤﺴﺘﻮﻋﺒﺔ ﻓﻲاﻟﺘﺼﻮرات و المفاهيم الذهنية ﻷﺻﺤﺎب ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻐﺔ واﻟﻤﺘﻌﺎﻣﻠﯿﻦ بها. ﻟﻜﻦ اﻟﻨﺺ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻰ إدﻣﺎج هذهاﻟﺘﺼﻮرات واﺳﺘﯿﻌﺎبها داﺧﻞ ﻧﺴﻖ ﻣﻦ اﻟﺘﺼﻮرات واﻟﻤﻔﺎهيم ﻻ ﻳﺘﻄﺎﺑﻖ ﻣﻊ ﻣﺎ ﺗﺪل ﻋﻠﯿﻪ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻨﺪ إليها.
ﻟﺬﻟﻚ، ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ إﺧﻀﺎع ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻐﺔ ﻵﻟﯿﺎت اﻻﺳﺘﺒﻌﺎد -ﻏﯿﺎب اﻟﺪال "ﻋﺎﻟﻢ"- واﻹﻗﺼﺎء -وﺿﻊ اﻟﺪال "ﻋﺎﻟﻤﯿﻦ" ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ اﻹﺿﺎﻓﺔ ﻏﺎﻟﺒﺎ دون ﺣﺎﻻت اﻟﺮﻓﻊ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ "اﻟﻔﺎﻋﻠﯿﻦ" أو "اﻻﺑﺘﺪاء". و ﻋﻦ طﺮﻳﻖ آﻟﯿﺘﻲ اﻻﺳﺘﺒﻌﺎد واﻹﻗﺼﺎء ﻳﺘﻢ اﺳﺘﯿﻌﺎب اﻟﺪﻻﻟﺔ داﺧﻞ ﻧﺴﻖ ﻳﻀﻊ اﻟﺪالّ داﺋﻤﺎ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺘﻲ اﻟﻨﺼﺐ أو اﻟﺠﺮ، وذﻟﻚ ﺑﻌﺪ أن ﻳﻨﻘﻠﻪ ﻣﻦ ﻣﺠﺎل اﻟﺠﺰﺋﻲ إﻟﻰ ﻣﺠﺎل اﻟﻜﻠﻲ. ھﻜﺬا ﺻﺎر اﻟﻌﺎﻟﻤﯿﻦ ﻓﻲ ﻣﻘﺎم اﻟﻤﻔﻌﻮﻟﯿﺔ –أي ﻓﻲ ﻣﻘﺎم اﻟﺨﻀﻮع- وﺗﺤﺖ اﻟﺴﯿﻄﺮة والهيمنة اﻟﺪاﺋﻤﯿﻦ.
* إبراهيم غرايبة كاتب أردني