طموح فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 471 معدل التفوق : 1323 السٌّمعَة : 22 تاريخ التسجيل : 15/12/2011
| | سبينوزا بين الدين و الفلسفة | |
سبينوزا فيلسوف هولندي من أهم الفلاسفة عبر العصور، ولد في 24 نوفمبر 1632 في أمستردام، وتوفي في 21 فبراير 1677 في لاهاي. امتاز سبينوزا باستقامة أخلاقه وخطّ لنفسه نهجا فلسفيًا يعتبر أنّ الخير الأسمى يكون في "فرح المعرفة" أي في "اتحاد الروح بالطبيعة الكاملة". و اليوم بسبب ما يشهده العالم من عنف وفوضى وتقلبات حدّية، تعود أطروحات فلسفية وضعها سبينوزا، وكانط، وهيغل، إلى الواجهة، حيث إن دراستها بتمعن وفهمها قد يساعد على تجاوز كثير من مظاهر اللامعقولية التي تعاني منها الأمم و الشعوب. تعتبر الفرنسيّة كاترين غوليو أن سبينوزا، وكانط، وهيغل هم الأكثر حضورا في عالم اليوم الذي يشهد تقلبات عنيفة، وبروز العديد من المذاهب والإيديولوجيات التي تحرض على العنف والكراهية، وعودة الشعوذة والسحر للمجتمعات حتى في الدول المتقدمة. وفي ذلك كتبت تقول: "نساء يحاكمن بالإعدام اعتمادا على القرآن لأنهن اغتصبن. أميركيون يؤكدون أن العالم خلق بحسب روزنامة سفَرَ التكوين. شخصيّات أوروبية كبيرة ونافذة تسافر إلى إفريقيا السوداء لدراسة السحر والانتفاع من "فضائله". هل نحن على وشك الانحدار إلى عالم الجنون مستعملين الأسلحة التي هي أسلحتنا، والتي هي حرية الفكر والوجود، والعقل، والأخلاق، والقانون، والحق، والكثير من المفاهيم التي كان قد طالب بها منذ قرون عدة كلّ من سبينوزا، وكانط وهيغل ضد السلطة الدينية، وضدّ استبداد الحكام، والأمراء، وكان سلاحهم الوحيد في تلك المقاومة الشرسة للتصدي لكلّ هذا هو قوة الفكر المناهضة لكلّ شكل من أشكال الشعوذة، ولكلّ ما يتنافى مع العقل البشريّ، ومع المبادئ التي تدعو إلى التسامح، والتضامن بين الشعوب؟ لذا فإن أطروحاتهم الفلسفيّة لا تزال تسكننا إلى حدّ هذه الساعة حتى وإن لم نكن واعين بذلك. وربما لأن الفلاسفة الذين ذكرت عسيرون إلى حد ما عن الفهم فإننا أهملناهم لنهتم برطانة المختصين. مع ذلك لا بد من العودة إليهم والى نصوصهم واطروحاتهم لكي نتعلم كيف نفكر في قضايا عصرنا الراهن". في كتابه "مقالة في اللاهوت السياسي" عام 1670، انخرط سبينوزا في إحدى المعارك الرهيبة التي استمرت بعده طيلة مائتي سنة وأكثر. لقد أراد تحديد العلاقات بين الدين والسياسة، أو بين رجال الدين ورجال الحكم. وأراد أيضاً، وبالدرجة الأولى، البرهنة على الشيء الأساسي التالي : وهو أن حرية التفكير، أو حرية الضمير والمعتقد والكلام، لا تضرّ أبداً بالأمن العام للدولة ولا تؤدي إلى الفسق والفجور كما يدعي اللاهوتيون. على العكس، إنها شرط أساسي لتحقق هذا الأمان ولشيوع الاستقامة والنـزعة الأخلاقية في المجتمع. وبالتالي فلا ينبغي التضييق على الحرية الفكرية أو الفلسفية ما دامت تعبر عن نفسها داخل حدود القانون. لماذا نشر سبينوزا كتابه هذا؟ لماذا دافع بشكل مستميت عن حرية الفكر في هولندا أكثر بلدان أوروبا تسامحاً وليبرالية في النصف الثاني من القرن السابع عشر لا في القرن الحادي و العشرين، ينبغي ألا ننسى ذلك. وأصدقاء سبينوزا وناشروه كانوا يعرفون مدى محدودية هذه الحرية، وقد دفعوا الثمن غالياً. وثانياً لأنه إذا كانت الدولة متسامحة، فإن الكنيسة لم تكن كذلك. كان هناك تفاوت كبير بين الحاكم جان دوفيت المشهور باستنارته وعقلانيته، وبين رجال الدين المتعصبين. وهو تفاوت أدى في نهاية المطاف إلى مقتل الزعيم الهولندي . وأخيراً يمكن القول بأن جو التسامح الذي كانت تعيشه هولندا كان مهدداً، وسبينوزا أول من يعرف ذلك بحسِّه الفلسفي الخارق، فمعروف أن المتشددين البروتستانتيين كانوا مرتبطين بالنظام الملكي المخلوع ويتمنون عودته لأنهم يكرهون جو الحرية والتسامح ولا يستطيعون تحمل كل هذه الزندقة الفكرية!!. صحيح أن النظام الليبرالي كان يبدو واقفاً على قدميه عندما كتب سبينوزا هذا الكتاب الحاسم في تاريخ الفكر، فزعيم هولندا الذي كان صديقه وحاميه كان يترأس جمهورية مزدهرة بالتجارة وذات مؤسسات راسخة ظاهرياً. ولكن بعد سنـتين فقط من ذلك التاريخ حصل الغزو الفرنسي لهولندا، وتمت تصفية الحكم الليبرالي، وأُعيد النظام الملكي الأصولي إلى سدة الحكم. وهكذا انهارت كل أحلام سبينوزا وصدقت تنبؤاته المتشائمة عن الأصوليين أو اللاهوتيين كما يحب أن يسميهم. فهم أصل العلَّة والبلاء : أي أصل الاستبداد والقضاء على الحرية الفلسفية. ولكن كتاب سبينوزا، ككل كتاب فلسفي عظيم، يتجاوز الحالة الهولندية لكي يشمل الحالة الأوروبية وربما الكونية بأسرها. وهو يعكس عدة مستويات من الصراع، فهناك أولاً الصراع المتفجر بين اللاهوت والسياسة، من هنا عنوان الكتاب : "مقالة في اللاهوت السياسي، أو بحسب ترجمة أخرى : "مقالة في اللاهوت والسياسة". وهناك ثانياً الصراع الدائر في أوروبا منذ عصر النهضة بين الكتاب المقدس وفقه اللغة التاريخي أو ما يدعى بعلم الفيلولوجيا، فمعلوم أنه منذ القرن السادس عشر راح بعض النهضويين يدعون إلى تحقيق الكتاب المقدس تحقيقاً لغوياً وتاريخياً من أجل التوصل إلى نسخة صحيحة أو أقرب ما تكون إلى الصحة. وهو تحقيق سوف يؤثر على تفسيره بطبيعة الحال، ولذلك أثار ردود فعل غاضبة في أوساط الكهنة والمحافظين. وقد استعاد سبينوزا هذه المناقشة الكبرى وساهم في بلورتها. وهناك أخيراً الصراع الأبدي الكائن بين الفلسفة واللاهوت، وهو صراع يتجاوز حدود المسيحية الأوروبية لكي يشمل الإسلام والأرثوذكسية الشرقية وسواها. بهذا المعنى فإن كتاب سبينوزا كوني أو يتناول مسائل كونية. إن راهنيَّته بالنسبة للإسلام حالياً تبدو أكثر من واضحة وملحة.. والآن ماذا يقول سبينوزا؟ عندما نقرأ مقدمته للكتاب يخيل إلينا للوهلة الأولى أنه يتبع أيضاً الحل نفسه الذي اتبعه سلفه الأكبر ديكارت. فبما انه حريص على حماية الحرية الفلسفية أكثر من حرصه على إنقاذ الإيمان، فإنه راح يحصر الفلسفة في مجالها، والدين في مجاله لكيلا يعتدي أحدهما على الآخر! يقول مثلاً: "اقتناعي العميق هو أن الكتابات المقدسة (أي التوراة والإنجيل) لا علاقة لها بالفلسفة على الإطلاق، وإنما كل واحد منهما ينحصر في مجاله الخاص بالذات. فالتعاليم التي تخص الروحانيات نستمدها من الكتابات المقدسة فقط وليس من تعاليم النور الطبيعي، أي العقل. وبالتالي فالمعرفة القائمة على الوحي تتمايز كلياً عن المعرفة الطبيعية أو العقلانية سواء فيما يخص موضوعها أم مبادئها الأساسية أم وسائلها ومنهجيتها. نستخلص من كل ذلك ما يلي : بما أن هذين النمطين من المعرفة مختلفان كلياً فإنه يمكن لكل واحدة منهما أن تمارس فعلها داخل مجالها الخاص دون أن تتناقض مع المعرفة الأخرى أو تدخل في معركة معها" ... عندما نتقدم في قراءة كتاب سبينوزا عن اللاهوت السياسي نلاحظ أنه لم يتقيد بالمبادئ الحذرة وربما التمويهية التي نصَّ عليها في المقدمة، فقد كان مضطراً لأن يتقدم مقنَّعاً، لأن يراعي الجو العام المحيط. والفلسفة بنت وقتها وعصرها كما يقول هيغل، ولا يمكنك أن تخرج كلياً على عصرك أو أن تهمل مشروطيته التاريخية. مهما تكن عبقرياً وسابقاً لزمنك فإنك مشروط بمصطلحاته، ولغته، ومسموحاته ومحرَّماته. يبتدئ سبينوزا الفصل الأول من كتابه بتحديد النبوة قائلاً بأنها معرفة يقينية أو محققة. ولكن منذ الفصل الثاني نلاحظ أنه يقول لنا بأن الوحي يختلف من نبي إلى آخر بحسب طبعه، ومزاجه، وخياله، وظروف عصره. وبالتالي فنحن مضطرون لاستخدام النقد العقلاني من أجل فهم معنى كلامهم. وعلى الرغم من أن سبينوزا يقول بأنه لن يفسر الكتاب المقدس إلا من خلال الكتاب المقدس ذاته ولن يقحم عليه أي منهجية من خارجه، إلا أنه في الواقع يطبق عليه المنهجية الديكارتية، أي العقلانية. نقول ذلك ونحن نعلم أن ديكارت نفسه لم يتجرأ على ذلك عندما حصر منهجيته بدراسة الظواهر الطبيعية، ومنع تطبيقها على مجال الدين أو الإيمان. مهما يكن من أمر فإن جرأة سبينوزا على الاقتحام الفلسفي لم تكن تقل عن جرأة الفاتحين الكبار. فهو لم يتردد مثلاً عن تطبيق نظرية انكسار الأشعة الديكارتية على المقطع التوراتي التالي :"يا شمس قفي على جبعون، ويا قمر على وادي أيَّالون. فوقفت الشمس وثبت القمر، إلى أن انتقمت الأمة من أعدائها"... هذا المقطع وارد في سفر النبي يوشع. وهو يناقض العقل وقوانين الطبيعة. فكيف فسره شخص عقلاني محض مثل سبينوزا؟ قال بأن النبي يوشع لم يكن يعرف علم الفلك الحديث لأن هذا العلم لم يكن قد وجد بعد، وبالتالي توهم أن الله أوقف الشمس فعلاً بطريقة خارقة للعادة. ولذلك فإنه جهل السبب الحقيقي لاستطالة النهار وتأخر الليل، فالواقع أن كمية الصقيع كانت كبيرة في تلك اللحظة في الهواء، فحصل انعكاس استثنائي لأشعة الضوء، وتوهم الناظرون أن الشمس توقفت في السماء ولم تعد تتحرك... لاحظ أن سبينوزا لا ينكر حصول القصة أو المعجزة. ولكنه يعزوها إلى أسباب طبيعية لا إلى أسباب خارقة للطبيعة. وهنا يكمن الفرق بينه وبين المؤمن التقليدي الذي يبتهج أكثر كلما كانت المعجزة أكثر انتهاكاً لقوانين الطبيعة. وأما فيما يخص المسيحية والإنجيل فإن سبينوزا تجرأ على رفض العقائد الأساسية للمذهب الكاثوليكي : كالتأكيد على تجسُّد الله في المسيح، أو القول بقيامة المسيح بعد موته ببضعة أيام، أو القول بالقربان المقدس : أي أن جسم المسيح ودمه موجودان حقيقة في الخبز والخمر الذي يعطيه الكاهن للمصلين في نهاية القداس.. فهذه خرافات في رأي سبينوزا، ولا يمكن لأي شخص عقلاني أن يؤمن بها. ولكي يترك مخرجاً للمسيحيين فإنه قال بتأويل هذه العقائد على أساس رمزي، لا حقيقي واقعي. فقيامة المسيح بعد الموت لم تكن جسدية وإنما رمزية أو روحية، وتجسد الله فيه هو أيضاً على سبيل الرمز، وقل الأمر ذاته عن قطع الخبز الصغيرة وجرعات الخمر... وبالتالي فالتفسير الرمزي أو المجازي ضروري لكيلا يحصل تناقض فظيع بين الكتاب المقدس وبين المنطق والعقل. في الواقع إن سبينوزا كان يعرف أن الدين يؤمن للناس البسطاء الطمأنينة النفسية التي لا يمكن أن يجدوها في أي مكان آخر. وبالتالي فمن غير المعقول أن يحرمهم من هذه الطمأنينة التي لا يمكن للإنسان أن يعيش بدونها. أما هو فكان يستطيع التوصل إليها عن طريق آخر غير الدين. وبالتالي فهناك جوانب إيجابية في الدين لا يمكن إنكارها. ولكن الشيء الذي كان يخيفه في الدين هو التعصب. نقول ذلك وبخاصة أن الصراعات المذهبية أو الدينية كانت حادة في هولندا عندما ألَّف كتابه. فالمذهب الرسمي المسيطر كان يحتقر المذاهب الأخرى على الرغم من أنها تنتمي إلى المسيحية مثله. لقد رأى أن الدين لايمكن أن حصره في ممارسة الشعائر والطقوس، وإنما أن جوهر الدين يكمن في محبة الآخرين، الدين هو المعاملة، وحسن الطوية، ومساعدة الفقير، ومحبة الآخر ولو لم يكن ينتمي إلى دينك أو طائفتك. هذا الفهم الواسع للدين، والذي هو أخلاقي بالدرجة الأولى، كان غريباً جداً على عقلية الأصوليين المتزمتين الذين يختزلون الدين إلى جملة من الطقوس والشعائر الشكلانية الخارجية، وجملة من المحظورات والمحرمات، وجملة من العقائد اللاهوتية التي تخرج عن سيطرة العقل. في الواقع إن التفسير العقلاني الذي قدمه سبينوزا عن الكتابات المقدسة يهدف بالدرجة الأولى إلى بلورة نوع الأخلاق الإجتماعية التي تجنِّب البشر الصراعات الطائفية والمذهبية. فالمبدأ اللاهوتي الذي نصّ عليه لا يمكن أن يُرفَض من قبل أي دين او مذهب. لا يوجد دين يرفض المبدأ القائل بمحبة الآخرين أو مساعدتهم ومعاملتهم بالحسنى. ولكن الطقوس والشعائر والعقائد التي تختلف من دين لآخر هي التي تفرق بين البشر وتشعل الحروب المذهبية والعصبيات الطائفية. وإذن فسبينوزا حاول حلَّ مشكلة اجتماعية خطيرة كانت تهدد هولندا التي يعيش فيها المسيحيون بشتى طوائفهم وكذلك اليهود.. فهؤلاء، لكي تجنّبهم الشقاقات والنـزاعات، ينبغي أن تجمعهم على مبدأ واحد يكون بمثابة القاسم المشترك للجميع. وبعدئذ يستتبُّ السلام العام في المجتمع وعندئذ تبتدئ بلورة الطريق الآخر المؤدي إلى الحقيقة : أي طريق الفلسفة، لا طريق التسليم والدين... في الواقع إن مشكلة سبينوزا كانت هي الكثرة : أي أغلبية الشعب التي سرعان ما تستفزها الأهواء والعصبيات فتنهض لكي تحرق الأخضر واليابس. وهي أكثرية عاجزة عن فهم الفلسفة أو الارتفاع إلى مستوى المعرفة الفلسفية. ولذا فمن المستحسن أن نقدم لها أخلاقاً عملية قائمة على الإيمان والدين المتسامح. ولذا لم يحاول سبينوزا أبداً تغيير عقلية أصدقائه أو جيرانه الذين كانوا يجدون طمأنينتهم في الدين وممارسة طقوسهم وشعائرهم. فما داموا يعيشون بسلام وأمان ولا يؤذون أحداً فإن تديُّنهم جيد ومقبول عند الله. ولكن إذا حاولوا الاعتداء على الآخرين أو إجبارهم على ممارسة الشعائر والطقوس أو إكراههم على اعتناق نفس العقائد، فإن تديُّنهم يتحول إلى تعصب غير مقبول. وهو تعصب يهدِّد السلام الاجتماعي في بلد يعجُّ بالطوائف والمذاهب المختلفة. في الواقع إنه كان يرفض شخصياً كل الطقوس والشعائر سواء أكانت مسيحية أم يهودية. لماذا؟ لأن جوهر الدين يكمن في مكان آخر، ولأن اختلافها من هذا الدين إلى ذاك، بل وأحياناً من هذا المذهب إلى ذاك، يدلُّ على عرضيّتها وطابعها التاريخي المحض. وبالتالي فهي ليست ملزمة وخاصة بالنسبة للفيلسوف. أما بالنسبة للعامة فبإمكانهم أن يمارسوها إذا كانت تؤمِّن لهم الراحة النفسية. __________________ [size=32]قبل القيام بالثورة، يجب تسليح الرأس لا الأيدي[/size] | |
|