امتدت النسبية في تأثيراتها وتداعياتها من الفيزياء والعلوم إلى الفلسفة والحياة، فهل تغير أيضًا من فهمنا وتفسيرنا للنصوص الدينية، وتفكيرنا الديني؟
لم يعد العلم قائمًا على الحقائق الثابتة كما كان طوال الحقب السابقة للنسبية، والمعلوماتية التي تسم المرحلة الحاضرة في المعرفة والتقنية قائمة، بشكل واضح، على النسبية والاحتمالات ، والرؤى الفلسفية لم تعد تنشد الحقائق والأفكار المطلقة، لأنها ليست موجودة في عالم البشر، فالمطلق في الحقيقة والصواب والعدل هو لله وحده، وأما البشر فهم يجتهدون دائمًا في الاقتراب من الصواب والعدل، ولا يصلون أبدًا للغاية النهائية.
قال تعالى: "وأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً" فلا حد للإيمان، ولا يمكن بلوغ الكمال فيه، ويظل مطلوبًا من الإنسان مراجعة إيمانه وصيانته وحمايته من النقص، وقال تعالى: "وقل رب زدني علما" فالعلم ِأيضا يظل في زيادة مستمرة، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يملك العلم الكامل في مسألة أو قضية، وربما، وهو الأغلب، كلما زاد علمه اكتشف خطأ سابقاً في الفهم والتفكير، لأن زيادة المعرفة هي الكشف عما نجهل، بل إن العلم هو تحديد وإدراك ما نجهل، ولذلك فإن العلماء هم الأكثر تواضعًا وشكًا والأقل يقينًا، لأنهم يدركون مدى الجهل أو المساحات العمياء والمجهولة في حقل معرفتهم وعملهم بشكل أكبر، والجاهلون هم الأكثر يقينًا وتعصبًا لفكرهم..
ويكاد العلم يكون مثل عملية استكشاف لصحراء أو غابة، فهو محاولة لتحديد ما لا نعرفه، وكلما أدركنا مدى ما لا نعرفه، أي مدى جهلنا، يزداد تقدمنا العلمي..
وهي فلسفة قد تغير من تفسير النصوص وتطبيقها العملي في مسائل وقضايا لا يملك أحد الجزم بها مطلقًا، مثل العقوبات، فهل تعبر عن الحد الأقصى، أم تصلح لتقدير نسبي للجريمة ولتقديرنا للذنب؟، فلا يملك قاض أو حاكم أن يعتقد أنه يملك العلم الكامل والعدل المطلق ليقرر حكمًا مطلقًا في الصواب والعدل، فقد يحدث مع زيادة العلم وتوالي الأدلة أن يجد ما يغير في حكمه ورؤيته للقضية، فهل يصح في حالة كهذه أن تطبق العقوبة القصوى كالقتل أو الجلد أو قطع اليد على جريمة لا يملك أحد أن يقول إن حكمه فيها صائب تمامًا؟ وهل تكون هذه العقوبات في حدها الأقصى رمزية ليس لتطبيقها تمامًا، ولكن لفهم حدود الجريمة وبشاعتها، والعقوبة المقدرة تقترب من الحد المطلق بحسب تقدير نسبية الجريمة إلى حدها الكامل، والتي لا يمكن لبشر الوصول فيها إلى الحد النهائي المطلق، فكم جريمة تضافرت عليها الأدلة والاعترافات، ثم تبينت فيما بعد أدلة ومعلومات جديدة تغير من الحكم السابق، أليس من المفترض إذن أن يبقى ثمة مجال للمراجعة والتصحيح؟ طالما أن المراجعة حقيقة حياتية لم تتوقف في تاريخ البشرية على مستوى الأفراد والجماعات والأفكار والعلوم والمؤسسات، وإذا كان الشك لصالح المتهم، وهو أمر لا يمكن نفيه أبدًا في أية قضية ألا يعني هذا أن الحدود والعقوبات هي مقولة مطلقة نهائية تقترب العقوبات منها ولا تصل إليها طالما أن الجريمة نفسها لا يمكن الجزم بأنها كاملة..
وتمتد النسبية إلى فهم كل النصوص والأحكام وتفسيرها على نحو تنتفى معه مقولة الحكم اليقيني المطلق، ولذلك فإنه "لا إكراه في الدين" لأن صواب الاعتقاد والمحاسبة عليه، لا يملكه أحد ولا يحيط به سوى الله عز وجل، ومن ثم فهل يمكن أن يكون الحكم على المرتد بالقتل حكمًا دينيًا صحيحًا؟ أم أنه تقدير سياسي تتولاه مؤسسات الحكم والقضاء وفق ما يترتب عليه من التزامات وحقوق سياسية؟ فحين يكون الدين أساس المواطنة فإنه يترتب عليه التزامات وحقوق سياسية وأمنية ومالية، ولكن حين تقوم الدول على أساس المكان فإن المواطنة لا تقوم على الدين الذي لا يغير من الالتزامات والحقوق في عقد الدولة مع المواطنين، وفي حالة كهذه هل تكون الردة أمرًا اعتقاديًا فكريًا لا يغير من ولاء المواطن والتزاماته السياسية للدولة والمجتمع، وحتى مفهوم الردة الذي أطلق بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يكن كله دينيًا ولكنه سياسي، فالكثير من المجتمعات والكيانات السياسية التي دخلت في صراع مع دولة المسلمين الجديدة بقيادة أبو بكر لم تكن ترفض الإسلام دينًا واعتقادًا، لكنها لا تريد أن تكون تابعة سياسيًا لدولة المسلمين التي أخذت بعد الرسول طابعًا سياسيًا وإداريًا، فيقول شاعر من هؤلاء المرتدين"
أ طعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عباد الله ما لأبي بكر؟
أيورثها بكرا إذا مات بعده وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
والعرب في تاريخها وسيرتها تنفر من الملك، ولم تكن تألف أن تكون ملتزمة تجاه دولة أو حاكم بشيء، ولا يتعلق الأمر بالإيمان، والخلاف على الزكاة لم يكن حول فرضيتها، ولكن حول أدائها للخليفة (الحاكم المركزي في المدينة) ، فلا مانع أن تجمع وتؤدي بعيدًا عن سلطة مركزية، لأن أداءها للحاكم تعبير عن التزام سياسي نحو الدولة والمواطنة، وهو ما كان مرفوضًا، والقتال والصراع لم يكن دائمًا بين إيمان وكفر، ولكنه بين الدولة والمتمردين عليها، أو بين الشرعية السياسية وبين عدم الاعتراف بها، ولا يختف الأمر عن كل الصراعات السياسية الأخرى في التاريخ الإسلامي، مثل صراع الأمويين والهاشميين، والأمويين والعباسيين، والعثمانيين والمماليك، فهل كان إعدام سلطان المماليك على يد السلطان العثماني حكمًا دينيًا أمرت به الشريعة الإسلامية؟
النسبية تصلح لتطوير الفهم والعمل ومراجعتهما وتطويرهما باستمرار، وربما تتفق مع جوهر الإيمان لأنها عملية بحث مستمرة، واعتقاد دائم متواصل أن هناك ما هو أفضل وأكثر صوابًا، وأن الصواب والعدل في حدهما النهائي المطلق لله لا ينازعه فيهما أحد، ومن ثم فإن ادعاء الصواب يتنافي مع الإيمان، قال تعالى "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"."
ومع الصعود السياسي والاجتماعي للحركات الإسلامية السياسية اليوم ومشاركتها الواسعة في الحكم والانتخابات تدور تساؤلات جديدة وجدية وواقعية عن مدى قدرة الفكر الديني الإسلامي على التكيف والاندماج مع مبادئ النسبية وعدم اليقين التي شكلت العلوم والفلسفة والسياسة ومن ثم الحضارة والمجتمعات على مدى القرن الماضي، ولكن الحركات والأفكار السياسية والاجتماعية في الشرق العربي والإسلامي (ليس الإسلامية منها فقط) ظلت في منأى عن هذه الموجة، وهذا يضع الخطاب الإسلامي حتى مع القبول والمشاركة "الإسلامية" في اللعبة الديمقراطية منذ عقدين من الزمان أمام إعادة صياغة وتكييف الأفكار والفلسفات الموجهة للعمل السياسي "الإسلامي"، ووجودهًا أيضًا وفق عالم يتشكل على أساس عدم اليقين.
فالديمقراطية الحديثة تقوم على أساس أننا لا نعرف الصواب، ولا نملك اليقين إزاء المشكلات والتحديات والقرارات التي يلزمنا إدارتها، ولأجل ذلك نلجأ إلى التصويت، ولكنا نلتزم موقف الأغلبية ليس لأنه صواب، الأمر الذي يقتضي حتمًا أن كل الأفكار والمواقف حتى لو لم تنل تأييد الأغلبية يظل النظر إليها قائمًا باعتبارها يمكن أن تكون صوابًا، ويمكن أن تتحول إلى أغلبية، بمعنى عدم جواز إقصائها أو منعها او محاربتها أو إخفائها أو تهميشها مهما كانت، وذلك يتناقض جوهريًا مع المنهج الديمقراطي الإسلامي السياسي وليس الديني، لأن الدين يحتمل كثيرًا النسبية وعدم اليقين بعكس ما يبدو للكثيرين في الوهلة الاولى، والذي يتحرك على أساس اليقين بفكرته وموقفه وصوابها على أنها من السماء..
التطور الذي حدث هو التقدم بـ"الصواب والحق المنزل من السماء" على أساس الانتخابات الديمقراطية، وهذا يقوض من الأساس الديمقراطية وفلسفتها وعقدها المؤسس للمجتمعات والدول وسلوك الأفراد..
هل يحتمل الفكر الديني النسبية وعدم اليقين؟ بمعنى هل يمكن أن يكون الفهم الديني نسبيًا ومرتابًا منه، وأن يكون ذلك راسخًا في الفكر الديني والتطبيق السياسي للحركات الإسلامية؟ لم يقدم بعد الفكر السياسي الإسلامي ولا الخطاب السلوكي والتطبيقي للإسلاميين المعاصرين نماذج قائمة على النسبية وعدم اليقين، ومازالت جهود الباحثين والمفكرين في المجال السياسي الإسلامي تركز على أساس التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، وفرص إقامة دولة مدنية إسلامية ، إذا كانت مدنية بالفعل فماذا يعني كونها إسلامية أيضًا؟
وكما غيرت النسبية في العلوم إلى الفلسفة والحياة، وكل شيء في العالم المعاصر، وحولت الفلسفة والعلم قبلها إلى تراث تاريخي مع الاحترام والتقدير؛ فإن"الريبة" العلمية التي أعقبت النسبية بربع قرن جعلتها، أي النسبية، موضع شك ومراجعة مع الاحترام والاعتبار أيضًا..
وإذا كنا لا نملك اليقين المطلق بصواب فهمنا وتطبيقنا للدين، ما يقتضي حتما أن يظل الفهم والتطبيق مستوعبًا لاحتمالات المعرفة الجديدة والتغير في الفهم والتأويل، فسوف يظل الخطاب الإسلامي حتى بعد استيعاب النسبية أمام مأزق عدم اليقين ليس باعتباره حتمية قائمة على عدم قدرتنا على معرفة كل شيء، ولكن لأن كل ما يوجد إنما يوجد بوصفه احتمالاً، فهذا مختلف عن الحكم البدهي من أن البشر يعرفون أشياء ولا يعرفون أخرى، وعن الحكم الحتمي أو السببي من أننا لو عرفنا أشياء لعرفنا كل شيء، ولكن لأن العلم يحتم الجهل، أو لأن العالم قد وجد على نحو يحول دون قدرتنا على فهمه، وليس لأن البشر قد وجدوا على نحو يحول دون قدرتهم على فهم العالم..