منذ البداية ظلّ المرحوم سالم يفوت في بحث مضنٍ وحثيث عن كيفية بناء العقل العربي. «فلا غرابة إن سجل دبلومه للدراسات العليا مع الراحل محمد عابد الجابري حول: النزعة الاختبارية في أنتربولوجية ليفي ستراوس». بل كان يرغب في مواصلة بحوثه الإبستمولوجية «حول الرياضيات خصوصاً عند جان كاخاييس، الأمر الذي رفضه الجابري»، فتوجّه لتغيير مساره بشكل عارض إلى ابن حزم. وربما ابتعاد المرحوم سالم يفوت عن البحث في الفلسفة الإسلامية وطلبه الانكباب على دراسة الإبستمولوجية، عائد إلى جدّة هذا المجال وخصوبة البحث فيه، وشحّ الدراسات العربية فيه، ثم كونه قميناً بفهم أفضل للتراث، علاوة على استيعابه حقيقة أنّ النظر في الفلسفة العربية الإسلامية لا يخرج صاحبه عن مجال مؤرخ يسرد الحكايات ويستعرض الآراء ويجمع المواقف، وفي أفضل الحالات يردّد ما قيل. لذلك هو رجل جواد «جاد على الدراسات بأبحاث في الفلسفة الإسلامية والفلسفة المعاصرة خصوصاً مبحثها عن الإبستمولوجية». ووجه الشبه بينه وبين الأستاذ الجابري هو محاولتهما تطبيق المنهج الإبستمولوجي على مادة التراث الإسلامي، بهدف دراسته بشكل مستحدث. نحن أمام رجل نجح «في الجمع بين حقول معرفية متعددة، من البحث في الإبستمولوجية وتاريخ العلوم، إلى البحث في الفلسفة المعاصرة». وامتدّ نجاحه إلى مقاومة المتربصين بالفلسفة في المغرب، عبر التأليف والتدريس. الأمر الذي ألزمه بالتسلح بعدّة منهجية رزينة فاحصة ومتمرسة، وجدها في الدرس الإبستمولوجي القليل الزاد في الفكر العربي المعاصر. إذ منزلة الإبستمولوجية شبيهة بمنزلة المنطق الأرسطي. يستعان بتلكم العدّة المنهجية كي نقوّم أخطاء وهنات الفكر وطرق التعقل. إنّنا بصدد بحث يروم الفحص النقدي لآلية إنتاج الخطاب، ومحاكمة مصدر التأخر العربي الإسلامي، محاكمة تذكرنا بمحاكمة كانط (ت 1804) للمتافيزيقا.
لا نستغرب بعد هذا إن أعمل يفوت العدة المنهجية للإبستمولوجية: من قبيل القطيعة الإبستمولوجية، الاستمرارية والانفصال، الذاتية والموضوعية، لإعادة قراءة التراث، والتي ستكون موضع بحث وتنقيب في مقبل مقالنا هذا. فلم يكن "يفوت" بالرجل الذي يمسك بتلابيب الحاضر متغافلاً عن ما دار في الماضي من وقائع وأحداث. هو واع بكون الانخراط في قضايا الحاضر يقتضي تصفية الحساب مع تركة الماضي الذي مازال يطلّ برأسه في الحاضر ويشكل جزءاً منه. ظلّ الرجل يؤمن بأنّ خطوتين إلى الأمام تشترطان خطوة إلى الخلف، لذا اهتجس بهموم الماضي، مجرباً عليه عدته المنهجية الإبستمولوجية، كما سنرى مع ابن حزم.
يقرّر سالم يفوت السبب الذي دفع مفكري المغرب على وجه العموم، وهو على وجه الخصوص، للاشتغال والاهتمام بالدرس الإبستمولوجي، ألا هو مفارقة المثالية. يقول يفوت: «إنّ الاهتمام المتزايد بالإبستمولوجيا لدينا، عكس ميلاده الرغبة القوية في القطع مع التقليد...». يؤكد أنّ اكتشافه الدرس الإبستمولوجي خصوصاً مع قطيعة باشلار «كان له فضل الإيقاظ من سبات الميتافزيقا وخلخلته...، وأبرزُ مفهوم تمّ توظيفه في هذا الصدد هو مفهوم القطيعة». وكأنّه يعتبر مفهوم القطيعة خلخلة للميتافزيقا والمثالية، لهذا لا نستغرب إن تمّ توظيفه، فعليه قام الفكر المغربي، ويجب أن تقوم عليه الفلسفية العربية المعاصرة، وكإشارة المقال ينخرط في نقاش حول مدى إمكانية تحقق هذه الفلسفة.
فكيف أعمل هاته العدة، خصوصاً مفهوم القطيعة الإبستمولوجية، على فكر ابن حزم؟ وإلى أي حد وفق في إعمالها؟ وهل تمكن من التخلص من الميتافزيقا والمثالية بمجرد إعماله للإبستمولوجية؟ وكيف حضرت قضايا الإبستمولوجية في فكره؟ سنحاول الإجابة عن هاته الأسئلة من خلال المحاور التالية: 1- سالم يفوت وقضايا التراث. 2- سالم يفوت وقضايا الإبستمولوجيا.
1- سالم يفوت وقضايا التراث
القطيعة الإبستمولوجية في فكر ابن حزم:
يباشر سالم يفوت بحثه عن ابن حزم الظاهري الأندلسي (ت456هـ) من ملاحظة بسيطة، فحواها أنّ ابن حزم رغم تعدد الدراسات حوله وتنوعها إلا أنّ نتائجها «جزئية لا تلمس الإشكالية العامة التي تحكم فكر ابن حزم»[1]. ثم إنّ هذه الدراسات ربطتْ «كليّاً أو جزئياً بالمذهب الظاهري في المشرق الذي يرجع أصله إلى داود الظاهري(202-270هـ)»[2]، وحاولتْ رصد آثار وسبل استثمار ظاهرية داود في ظاهرية ابن حزم، مخفية كلّ جوانب الاختلاف، ومبرزة جوانب الاتفاق والالتقاء.
منذ البداية لا ترضي هذه النتيجة سالم يفوت، فيخصص كلّ البحث ويسوقه لكشف جوانب الاختلاف والتمايز بينهما، للقول بالقطيعة الإبستمولوجية بينهما، وعلى العموم بين الفكر الفلسفي في المشرق والمغرب. إنّه فكر تأصيلي يبحث عن الجذور، ويرصد تطور الأفكار وتعاقبها. ومنطلق أصحابه صورة عامة شائعة تأخذ صيغة: أنّ المذهب الظاهري يكتفي بما يبرز من معانٍ مباشرة من الكتاب والسنّة يأخذها على ظاهرها، دون الغوص في بواطنها، وكأنّها تمنع القياس والاستحسان والرأي والاجتهاد...، أي كلّ ما يمتُّ للعقل بصلة، يصير المذهب الظاهري دعوة للجمود على النص. في هذا الإطار يعلق يفوت: «إذا كان هذا الحكم يصدق على ظاهرية داود والمذهب الظاهري بالمشرق فإنّه قد لا يصدق على ظاهرية ابن حزم أو المذهب الظاهري بالمغرب»[3]. يتضح التوظيف المباشر من سالم يفوت لمفهوم مركزي متحه من الدرس الإبستمولوجي، وهو مفهوم القطيعة الإبستمولوجية بين نمطين فكريين: نقصد ظاهرية المشارقة مع داود ظاهرية المغاربة في شخص ابن حزم. فكلّ ما يصدق على الأولى لا يصحّ على الثانية، وكلّ ما يؤكد في الأولى لا يرسخ في الثانية. يصرّح يفوت بمنهجه مباشرة: «اعتمدنا أسلوب التحليل المعرفي (الإبستمولوجي) الرامي إلى الكشف عن طبيعة المفاهيم الأساسية التي يرتكز عليها نسقه ومذهبه الظاهري»[4]. فكأنّ تخليص ظاهرية ابن حزم من تبعيتها وتأصلها من جذر ظاهرية داود المشرقي هدف تغيّاه يفوت في بحثه. يصبح واجباً على الباحث النظر لمذهب ابن حزم في كُليته وشموله، عنذئد تصحّ المقارنة بينهما، وفي حينه تندفع الفروق والتمايزات للسطح. أمّا الاكتفاء بتجزيء النصوص وتبعيض فكر ابن حزم ثمّ مقارنته بداود الظاهري، فهو فعل من شأنه التعسف على النصوص، وقطع العلاقات بينه وبين بيئته الأندلسية المختلفة شكلاً ومضموناً عن بيئة داود المشرقية. «فالصلة بين الإنتاج النظري وبين الوجود المجتمعي، من البداهة إلى حد أنّ التصريح بها أصبح من قبيل الإطناب»[5]. ظروف نشأة أفكار ابن حزم غير ظروف نشأتها عند داود الظاهري، فكلّ فكر استجابة لنداء الواقع، ولو تمّ النقل لتمّت معه عملية التبيئة. والتبيئة احتفاظ بما يناسب واقع القرن الخامس الهجري، وتخلٍّ عمّا يخالفه، هي عملية انتقاء. لذا يخصّص سالم يفوت فسحة في بحثه عن الواقع الأندلسي والمناخ العام السائد إبّان تلك الفترة، ليخوض في حياته مع رصد منحدراتها ونتوءاتها، بهدف تجلية خصوصية واقع وبيئة ابن حزم التي تدخل في تشكيل شخصية متفردة لها خصوصية. ومع إعادة تشكيل للواقع وصورة ابن حزم، يتراجع كلّ قول بالتأثير أو الاستمرار بين النسقين، لتباين الإبستميتين (هنا يوظف سالم يفوت فكر مشيل فوكو).
لعل أول شكل من أشكال القطع مع النظام المعرفي المشرقي، القطع مع طريقة ونسق تفكيره القائم على قياس الغائب على الشاهد، وهو قياس ظنّي يوقع حكم الأول على الثاني لتشابه العلة بينهما، والأهم أنّه نظام قائم على مماثلة الخالق بالمخلوق، والطبيعة بالشريعة، وعالم الغيب مع عالم الشهادة...، عند التملي في هذا النظام المعرفي ورصد شكله المنهجي يتضح أنّ كلاً منهما قائم على بناء نظري مستقل له خصوصيته، وكلّ موازنة بينهما قضاء على هاته الخصوصية. والقول بالفصل بين الجانبين تقوية لهما. لهذا حقّ القول بالأثر الحزمي في فكر اللاحقين من الأندلسيين في القرن السادس الهجري، من قبيل ابن باجة (533هـ)، ابن طفيل (ت581هـ)، ابن رشد (ت595هـ)...، وفي هذا رفض للفكرة القائلة: إنّ المذهب الظاهري لابن حزم لا أدري، مكرّس للجمود والصنمية، يؤدي لانسحاب العقل واستقالته. وعند هذا الحد يصير فكر ابن حزم ثورة معرفية لها ما بعدها. والقول بالقطيعة المعرفية لا يستلزم القول بالقطيعة العرقية، ثم إنّ سالم يفوت يوظف الخلفية السياسية لشرح الموقف الفقهي لابن حزم[6]. إذ دافع باستماتة عن براءة مؤسس الدولة الأموية الموالي لها في الأندلس. قلنا دافع عن براءة معاوية بن أبي سفيان، فهو مجتهد أصاب أو أخطأ فله أجر. صحابي جليل طلبه مشروع بقتلة عثمان بن عفان كشرط لمبايعة علي بن أبي طالب، وهو ليس سبب الفتنة. خلافة الدولة الأموية مشروعة وصحيحة شرعاً، وإمامتها جائزة وواجب إتباعها لكلّ أندلسي أراد الخروج عن تشرذم الأندلس إلى ممالك متطاحنة متناحرة. الرهان على الدولة الأموية رهان على وحدة بيضة الأندلس وجمع لها تحت راية واحدة يمثلها خليفة أموي من آل البيت النبوي مشهود له بالورع والتقوى ومعروف بالعدل.
يبدو تفسير المرحوم محمد عابد الجابري متغلغلاً في نسيج أطروحة يفوت، ولا غرو فالرجل درس على يديه وأشرف عليه في إعداد أطروحته هاته، وهو من اقترح عليه هذا الموضوع بشهادة الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي. كما أنّه في كثير من المرّات يحيل على كتابات الجابري. ومعلوم كيف عمد هذا الأخير لتوظيف الإبستمولوجية في قراءته للتراث[7].
وربط اختيارات ابن حزم الثقافية- الإيديولوجية بالجانب السياسي يوفر المناخ المناسب لسالم يفوت للقول بالقطيعة الإبستمولوجية في فكر الرجل، فلولا هذا التمازج بين الجانبين لانقطع تصوره عن محيطه وبيئته، ولصحّ في الحال والمآل القول بتأثره بظاهرية داود المشرقي. والمقصود أنّ مشروعه السياسي المخالف دفعه لإنتاج فكر مباين، له خصوصيته وتميزه. مفهوم القطيعة أعملها يفوت حتى في الجانب الفقهي من فكر صاحب طوق الحمامة. فكيف حضرت في هذا الجانب؟
القطيعة الفقهية الحزمية:
قطع ابن حزم مع قياس الفقهاء لأنّه ظني، وأقبل على قياس المناطقة لأنّه قطعي، فالرجل هنا منطقي أكثر ممّا هو فقيه. وكأنّنا بسالم يفوت يشغل مفهوم القطيعة في فقه ابن حزم الذي ميز بين نوعين من القياس: قياس فقهي ظني، وقياس منطقي يقيني. تمسّك ابن حزم بالثاني، وتخلّى عن الأول وقطع معه، ليكمل القطيعة السياسية بالقطيعة الفقهية.
ظاهرية داود تدافع عن المنقول وتحافظ على صلاحية النص (القرآن) كقوة تشريعية دون غيره، وتعدّ إعمال العقل بدعة، لكونه يحاول لعب دور الكتاب وهو التشريع، فلو كنّا في حاجة إليه لما أنزل تشريع يحصر الحرام ويبين الحلال. إذا كان داود الظاهري في المشرق ثمّن المذهب الأشعري، وأنزل العقل ومشتقاته من قياس واجتهاد واستحسان منزلاً دونيّاً، فإنّ ابن حزم الأندلسي أخذ على مذهب الإمام مالك ولزم تصوره، اتباعاً منه لعمل أهل الأندلس الذين وجدوا في مذهبه خير معبّر عن بدويتهم، لاسيما أنّه ارتبط بالمدينة خير بقاع الأرض، المكان الذي عمره الرسول وسانده في نشر دعوته. علاوة على أنّ أهل الأندلس يشدهم لهاته البقعة أداء مناسك الحج. بالإضافة إلى مخالفة المذهب المالكي للعباسيين الذين قالوا بالرأي، ومالوا للمذهب الحنفي في بلاد الرافدين. غريب أن يكون المذهب المالكي صمام أمان في الأندلس ضمن ويضمن وحدتها ويجمع لحمتها. والأغرب أن يستعمل الهمّ السياسي في قضايا الفقه. ولمَ لا والطابع العام السائد في الأندلس قبل مجيء ابن حزم، يتّسم بالاهتمام بالفروع والانكباب على الجزئيات ولوك المختصرات، مع تحريم لكلّ اجتهاد أو قياس خارج أحكام الإمام مالك بن أنس (ت179هـ) الذي تمّ تشويهه من طرف علماء الأندلس؟ وبات التدريس «يقتصر على تدارس الملخصات المبسطة وكتب المسائل التي تزخر بالمسائل العادية التي تعرض في الحياة كلّ يوم»[8]، محصور عمل القضاة والفقهاء والمحققين في استنطاق النصوص والعودة إليها دون الحياد عنها، كلّ مروق عنها خروج عن أصل من أصول الدين، وما هي من أصول الدين، فقط لعبت هذا الدور.
وأمام التطور التجاري الذي شهدته حاضرة الأندلس في القرنين الثالث والرابع الهجريين، مع ضرورة تكييف الجوانب الثقافية لتتلاءم والتطور الجاري المشهود، لزم التحرر من رؤى الفقهاء المالكية المنغلقة على نفسها المتصلبة والمتشنجة أمام إعمال العقل وبذل الجهد. فلا عجب إن تحركت في هذا الأفق دعوة لتجديد الدين من الداخل، بالوقوف على الأصول وترك الفروع. وجد الفقيه نفسه مطالباً باستنباط الأحكام الشرعية من أصولها ومنابعها (القرآن، السنة، الإجماع) لا من فروعها ومظانّها. تلكم ثورة عقلية فقهية سياسية متكاملة مسرحها أندلس القرنين الثالث والرابع الهجريين، زحزحت عقلية فقهية متكلسة متواطئة مع التقليد، تقليد أقوال شيوخ المذهب المالكي.
يأتي التصور الفقهي الحزمي ضمن هذا السياق المتسم بروح التجديد وقوة التطور، ومناهضة كلّ أشكال التقهقر للخلف. تحت شعار: "هم رجال ونحن رجال". الأمر الذي استوجب منه المزاوجة بين العقل والنقل، العقل الأرسطي المتمثل في المنطق والفيزياء والكوسمولوجيا، والنقل المتجسّد في الكتاب (القرآن) والسنّة. مهمة ابن حزم الجديد رصّ الطرفين والجمع بينهما، جمعاً يحافظ لكلّ منهما على خصوصيته وفرادته، في محاولة تجديدية تستنهض الفقه من الداخل. تعيد ترميم النظام الكوسمولوجي وترتيب بيته من الداخل، في قمته الله القديم الخالق لكلّ شيء، وما دونه مخلوق له، أدنى منه منزلة، وضع في الكون نواميس وسنناً، ووضع للناس شريعة توازي نواميس الكون التي تمشي لمستقر لها لا تحيد قيد أنملة لرغبة أحد ولو كان نبياً مرسلاً أو ملكاً منزلاً، ما عدا في حالة المعجزة التي تخرق العوائد والطبائع. يقول ابن حزم: «...إذ من المحال قلب نوع إلى نوع، ولا فرق بين أن ينقلب نحاس إلى أن يصير ذهباً أو قلب ذهب إلى أن يصير نحاساً، وبين قلب إنسان أن يصير حماراً أو قلب حمار أن يصير إنساناً. وهكذا سائر الأنواع كلها، وهذا ممتنع البتة»[9]. كلّ ما هو طبيعي يحترم عناصر طبيعته، ويستحيل عليه التغير أو التبدل أو القلب في كله أو بعضه. إلا عند ارتفاع العقل وتوقف المنطق، وهذا غير مقبول لأنّه من طبيعة البشر وأخصّ خصوصيتهم. وبه رفض ابن حزم التنجيم والسحر...، ولا يتوقف ابن حزم عن القطع مع كلّ التفسيرات والتأويلات حتى التي جاءت في الشريعة من نص غير واضح الدلالة وقطعيها، ومن أخذ به عدّه بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وأنّه إضافة منهيٌّ عنها، بسبب أنّ صاحبها، وعى ذلك أو لم يعه، يظنّ أنّ الشريعة ناقصة يتمّمها بقوله. والحال أنّ ما أنزله الله من الشرائع استوفت شروط التمام لا تحتاج إلى إضافة ولا تبرير. بل حتى اللغة المعبّر بها عن حقيقة الأشياء توقيف إلهي، معانيها ودلالتها خلقت من الله، لا يمكن تغيرها، فقط الإذعان لها طواعية، كما نذعن للشريعة ونسلم بها تسليماً. ومصدر اللغة الإلهي يجعلها تامّة الألفاظ كاملة المعاني واضحة الدلالات، لذا حرّم الخوض في التشابه.
يأخذنا ابن حزم لاحترام ظاهر الألفاظ كشكل لاحترام الإرادة الإلهية الثاوية خلفها، وفيه ما فيه من خضوع لقيومية القيوم ومشيئته. فلا حقيقة إلا حقيقة ظاهر النص. وأحكام الله وأحكام اللغة متطابقة، وتحرّي ظاهر النصوص وحملها على وجهها دون زيادة أو نقصان هو العمل المنشود ممارسته من الفقيه. مثلاً للذهب حكمه وللفضة حكمها، فمتى امتزجا وظلّ كلّ واحد منهما محافظاً على صفاته لم يفقد شيئاً منها، وجب إخراج الزكاة لكلّ منهما حسب نصيبه المعلوم. وإن تغيرت صفاتهما سقطت زكاتهما لعدم ورود نص مباشر عنهما. وفي هذا رفض للقول في الدين بالرأي. يقول ابن حزم: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه»[10]. حتى القياس مؤخر دائماً عن القرآن والسنّة والإجماع عند المذاهب الفقهية، لظنيته والدين لا يبنى على الظن بل على اليقين والقطع. ولأنّ الشرع كامل من كلّ الوجوه ولم يترك الله سبحانه ولا رسوله شيئاً إلا بيّن حكمه، استحال في نظر ابن حزم وجود مسائل ونوازع لا نصّ فيها. وبه وجب إبعاد القياس من باب الاحتراز. وإبطال القياس ناتج عن إبطال المشابهة بين الأحكام. الأمر الذي أدّى بابن حزم إلى رفض حتى قياس الشاهد على الغائب، لأنّه لا يغيب شيء عن الله. وتشريعه كامل، لا لبس ولا نقص فيه، غير خفي ليحتاج للتنقيب والكشف. الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما متشابهات منهيٌّ عن بحثها لمن يجهلها لا لكلّ الناس. فمن المتشابهات المنهي عنها نقل حكم معلوم في الدين لحكم مجهول لم يرد فيه نص من القرآن أو السنّة أو الإجماع. فقط لكونهما تشابها في العلة، فيحلل أو يحرم هذا الفرع عند إلحاقه بالأصل. كيما توسع قاعدة الشريعة وتتمدد أحكامها (هاته إضافة لشريعة منهي عنها لكونها كاملة)، كما يحصل الآن في حكم المخدرات بالتحريم الصادر عن كونها تشابهت في علة إذهاب العقل مع السكر، فنقل لها حكم التحريم. يقول يفوت: «حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه أو إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لمشاركته له في علة حكمه عند المثبت أو تعدية لحكم الأصل إلى الفرع بعلة متحدة... »[11]. تسرب الشكّ إلى نفس ابن حزم، فقام يهدم المرتكزات والأسس المنهجية التي بني عليها الفقه، منكراً القياس والاستحسان والرأي...، مبطلاً الاشتقاق والتعليل والمجاز في اللغة، لظنيتها والريب الذي يطالها. ولا يتصور أن يبني صرحاً منهجياً يؤثث رونق العلوم الإسلامية وينتصب وأدها، على أسس هشة متداعية للسقوط، معرضة للتآكل والانهدام عند أيّة ضربة صغيرة. وكأنّنا بسالم يفوت يقوّض المشروعية التي جعلت ابن حزم قميناً بالقطع المعرفي مع الفقه والنحو المشرقي والثورة عليه. فها هو ذا يدخل ابن حزم في سلسلة مشروع معرفي ابتدأ من المشرق واستمرّ في المغرب والأندلس، ومن جهة أخرى يقول بمفهوم القطيعة بينهما.
ويستمرّ النفس الثوري في فكر ابن حزم حينما يجعل لكلّ العلوم العقلية فائدة ومنفعة، تتقاطعها مع العلوم النقلية، وكأنّه يوازي ويوفق بين مصدرهما العقل والنقل، إذ كلاهما حق، ولذلك يردّ على طوائف اختلط عليها الحابل بالنابل، فاعتقدت خطأ أنّ مسلك حماية الشريعة والذود عن حياضها مأتاه تحصينها من كلّ غريب دخيل (العقل هنا)، كيما تحافظ على وحدتها وتضمن تماسكها وتشتدّ لحمتها. وهؤلاء يقولون قولاً مستبشعاً، مضاره أوزر من منافعه، إذ كيف السبيل لمعرفة مواقيت الصلاة ونصاب الزكاة دون العلوم العقلية من علم الحساب والفلك...؟ وما الطريق لحماية الجسم من عاديات المأكل والمشارب الضارة والأمراض الفتاكة بغير تعلم صناعة الطب والتصعد في طلبه، حتى يصير فرض كفاية إن قام به البعض سقط عن الكل، وإن لم يفعله البعض وجب إتيانه للكل؟ يحلل ابن حزم هؤلاء تحليلاً سيكولوجياً معرفياً، فمن جهل شيئاً عاداه. وعداوة هؤلاء ناشئة عن جهل منهم، طمس عليهم رؤية حقيقة غايات هاته العلوم العقلية وأغراضها الشريفة.
لا يُفهم ممّا سبق، أنّ ابن حزم أقبل على دمج الفلسفة في الدين، وقال إنّ ما في الفلسفة مثالات لما في الدين، بل الحاصل معه تمييز بينهما ورسم لخطوط حمراء، تقيم لكلّ منها عالمه الخاص ومنهجه المعين وطريقته المتميزة. «وهذا ما يسمح بإقامة علاقة جديدة بينهما، تحافظ لكلٍّ منهما على كيانه المنفصل، وتسمح بتأسيس الشرع، ودعمه بالعقل»[12]. وبه وجب الإعلان باستمرار قطائع ابن حزم مع شكل المعرفة الذي كان سائداً قبله (إبستيمي المشرق) والثورة عليه، بما ينسجم وظروف الأندلس الاجتماعية والثقافية والسياسية.
حشد ابن حزم كلّ عدته الفقهية والنحوية والفلسفية والمنطقية لتخليص الشريعة من الظنيات والتخمينات المبنية على الرأي. الآن نفهم لماذا ساقنا ابن حزم للتخلي عن قياس الغائب على الشاهد، وجعله قياساً ظنيّاً. ولو نتج في الفلسفة ووظف في حياضها، كما الحال مع الكندي (ت256هـ) فقد تمّ رفضه، لما فيه من إسقاط لصفات إنسانية على الله. يقول سالم يفوت: «وعليه، فإنّ ابن حزم ومنهجه النقدي كان تمهيداً لظهور المدرسة الفلسفية بالمغرب ومقدّمة لها. إنّه مرحلة كانت لازمة من أجل التقويض والهدم بغية تصفية الحساب مع طريقة محددة في التناول سلكها الفكر الفلسفي في المشرق».[13] يستمرّ إعمال مفهوم القطيعة الإبستمولوجية في فكر يفوت، ليشرح العلاقة المتوترة التي جمعت الفكر المغربي ممثلاً في ابن حزم والفكر المشرقي مجسّداً في الكندي، قطيعة في المنهج وطرق التحليل والنظر...، ترسخ اعتقاداً فحواه: العودة للأصل في صفائه، والأصل إمّا كتاب أو سنّة أو إجماع في الفقه، أو الكلمات والمعاني العارية من التأويلات والتمحلات والمجازات في النحو، أو فلسفة أرسطو في منبعها الصافي قبل أن تتمرغ في أوحال الأفلاطونية المحدثة في المشرق. وهو جانب لا ينفي اتجاهه الإيديولوجي المستخدم لبناء نموذج إبستمولوجي بديل، يقدر مجابهة الدولة الفاطمية والعباسية في المشرق، لترجيح كفة الدولة الأموية في الأندلس وتقوية صلبها. وسيتواصل المشروع نفسه عند ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، مع تشذيبه وتهذيب منطلقاته وتوسيع قاعدته المنهجية. والمقصود بالمشروع: فصل العقل عن النقل وتقوية أحدهما بالآخر دون الزجّ بهما في كفّة واحدة. في هذا الإطار يأتي رفضه للسحر والتنجيم...، وردّ التصوف والهرمسية...، بالمقابل الإقبال على فلسفة أرسطو في صفائها وتنقيتها من الشوائب التي قضّت مضجعها، وخرمت بناءها المنطقي عندما مزجتها بالهرمسية والأفلاطونية المحدثة في شخص أفلوطين. هذا الخليط شكّل العمود الفقري لعلماء الكلام.
بات واضحاً إذن أنّنا أمام نمط فكري لسالم يفوت، يؤكد فيه وحدة وتماسك المشروع الأندلسي، القائم بالأساس على القطع مع بنية التفكير المشرقي، مشروع ابتدأ مع ابن حزم ويستمرّ مع ابن باجه وابن طفيل، ويتقدّم مساره مع ابن رشد. من مؤشراته القطع سياسياً مع الدولة الفاطمية المتغولة في المشرق، والفكر الهرمسي الأفلاطوني المحدث المتسيد في المشرق. بينما دور العقل الفلسفي محدود، مهمته التوفيق بين العقل والنقل، أمّا المنهج فمبني على قياس الشاهد على الغائب. توجهات قوبلت بالتجهم والامتعاض من طرف فلاسفة المغرب والأندلس، فقطعوا معها.
لا نقول إلا أنّ سالم يفوت عبّأ عدته المنهجبة المستجلبة من الإبستمولوجية، وسخّرها للذود عن أطروحة معدّة سلفاً، حتى قبل إعداد تصوره هذا، وهي أطروحة مشرفه على رسالته للدكتوراه المرحوم محمد عابد الجابري. والدليل اعتماده على العديد من مراجعه في إنجاز بحثه. وليس في هذا أيّ شطط لأنّ ابن حزم يستجيب لقراءة سالم يفوت، فالرجل حمل همّاً سياسياً يساند فيه تصورات الدولة الأموية في الأندلس، ضداً على تصورات الدولة الفاطمية في المشرق. فكان طبيعياً القطع معها في كلّ الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية. يصرّح المرحوم يفوت: «المشروع الثقافي الظاهري الذي ناضل من أجله فقيهنا كان مشروعاً سياسياً يتأطر فيه الإبستمولوجي بالسياسي، كما يتحدّد اتجاهه بالإيديولوجي»[14]. نحن بصدد قراءة موجّهة بشكل قبلي، تنظر في متن ابن حزم بناء على آخر منجزات العلم في مجال الإبستمولوجية. وكأنّها تجسر الهوّة بين التراث في شخص ابن حزم والعلم المعاصر. وهي إذ تصالح الجانبين تحاول تبيئة قضايا ابن حزم وجعله معاصراً لنا على صعيد المنهج والمضمون المعرفي. فالمشروع الحزمي لم ينقطع لليوم والتميز المغاربي ما زال مستمراً في الإنتاج الفلسفي، ترى هل هذه هي النتيجة التي يرغب في بلوغها سالم يفوت؟ يصرح: «إنّ هجوم ابن حزم العنيف على مذاهب علم الكلام ومحاربته للاعتزال والأشعرية، إضافة إلى التشيع والتصوف، كان هجوماً على إيديولوجيا الخصم السياسي، وعلى التيار السياسي»[15]. كلّ المشروع الحزمي موضوع في خدمة ولائه لمشروع الدولة الأموية المخالفة للدولة الفاطمية والعباسية السائدة في المشرق. فهل يصحّ اختزال كلّ فكر الرجل في الجانب السياسي؟ أليس في هذا تجزيء لفكر الرجل وحصره في مجال واحد؟ ثم ألم توظف العدّة المنهجية الإبستمولوجية كاستراتيجية لإدخال ابن حزم في صراع سياسي ربما لم يكن هو محركه الوحيد؟ وهل يصحّ شرح الفكر بالسياسة؟
2- سالم يفوت وقضايا الإبستمولوجيا
2ـ1: التعدد التاريخي من زاوية إبستمولوجية:
التقدّم البشري شهد نمو الوعي بالزمان وبأحداثه، والتي من بينها إعادة النظر في أحداثه وتركيبها بالشكل المناسب. نحن أمام كائن بشري صار واعياً بشرطه التاريخي بعد أن وعى شرطه الطبيعي (التحول من كائن طبيعي إلى كائن تاريخي). وارتبط هذا الوعي بالتاريخ بالإضافة لمفهوم التقدّم، بالقول بمفهوم الغاية. فهذا هيجل (ت1831م) يشبّه حركة التاريخ بحركة نور الشمس، تشرق من الشرق ومنه تبدأ مسارها وتغرب من الغرب وعنده يكتمل مسارها. وما يجيء من أحداث بعد هذا الاكتمال أحداث معادة ومكرّرة، فالزمان هو زمان الغرب والتاريخ تاريخه. أمّا نحن فعلى هامشه يفعل بنا من جهة ما يفعلون فيه. وبذا يتضح أنّنا نعيش في زمان غير زماننا وضمن إحداثيات تاريخ ليس تاريخنا، إنّنا ضمن حالة من الغربة الوجودية والزمانية. فيجب إعادة النظر النقدي في الشكل التاريخي الذي نرتديه، هل هو التاريخ المقدّس أم المدنّس؟
المقدّس شكل من التاريخ يأخذ شكل الكمال مع بداية الدعوة ثم يتراجع ويتقهقر كلما تقدّم الزمان للأمام إلى لحظة يوم القيامة. وهذا هو الشكل الذي دافعت عنه الديانات السماوية، وبشرت بسقوطه عند غلبة الشر على الخير وانتصاره عليه في آخر الجولات. لم تدم هذه المقاربة التاريخية طويلاً، خصوصاً بداية من القرن الثامن عشر الميلادي، بدأت القوميات تهتمّ بكتابة تاريخها غير الرسمي، بالإضافة لظهور الاكتشافات الجغرافية ثم الطفرة الصناعية مع تطور التقنيات[16]. كلّ ذلك حوّل مركز اهتمام التاريخ من الاهتمام بالتاريخ الإلهي إلى الاهتمام بالتاريخ البشري، خصوصاً تاريخ الإنسان العادي في إطار نشاطه اليومي. وأصبح دور المؤرخ منصبّاً على التفاعل مع التفاصيل والجزئيات، يحاول فهمها، لأنّها المكوّن الفعلي للتاريخ. بات التاريخ يتصل باليومي ويدرس المعاش، يمسك باللحظة المنفلتة وينكتب بها، له بداية ونهاية. وكأنّنا أمام تاريخ بمواصفات بشرية، فلا تاريخ للطبيعة ومكوناتها. يقول يفوت: «فميلاد التاريخية معاصر نفي لطبيعة الطبيعة. الطبيعة وحدها عاجزة عن أن تكون تاريخاً وعن أن تملك تاريخية»[17]. يبدأ التاريخ حين يعي الإنسان حركته داخله، أي يتعرف على صيرورته، ويفهم دوره فيه.
استبدّ بالإنسان في القرن السابع عشر الميلادي هاجس الاعتقاد أنّ الجديد أكثر نضجاً واكتمالاً من القديم. «وأنّ كلّ أقدمية زمانية هي نقص منطقي، وكلّ جدة هي ارتقاء ونموّ وتقدّم»[18]. لعل هذا ما يبرز البحث عن الخيط الناظم بين الأحداث والوقائع والمفاهيم...، بإخراجها من تبعثرها وانفصالها ولا معناها، لتصير أحداثاً منطقية حاملة لمعانٍ يتصل بعضها ببعض، تؤشر لحقيقة تتطلب منهجية منضبطة ليتمّ استخلاصها من التاريخ.
التحوّل أخذ منحى آخر، إذ حكم النظر للتاريخ من زاوية نسبية، تخرجه من عموميته إلى خصوصيته، من معنى كلي يطال كلّ الأفراد إلى معنى فردي يخصّ حقبة بعينها أو حادثة مخصوصة أو مجالاً محدّداً. فالتاريخ تواريخ، وهذا ما سكت عنه المؤرخون وظلّ مكبوتاً غير مفكر فيه، غُطّي بالاهتمام السطحي بالوثائق والمستندات...، لم يعد التاريخ سرد القصص والعجائب وسير الأبطال الأسطورية، أصبح معرفة مضبوطة لها منهجها، تحاول مساءلة الوثائق وإعادة بناء الأحداث بردّها لسياقاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية. يقول يفوت: «ليس الإنسان محور التاريخ ولا مركزه، ليس التاريخي معلقاً به، ما دام لا ينحصر في الإنسان وخبرته للأحداث ومعايشته لها»[19]. مثلاً للمناخ دور في التأثير في الإنسان، فيا عجباً كيف أغفل هذا الجانب وأبعد من التقصي التاريخي! والأغرب كيف فهم التاريخ البشري مجرّداً دون تأثيرات جانبية من عوائد وظروف المجال! «يدرس تاريخ المناخ ظواهر تحدث على فترات متباعدة جداً، فزمنه الممتد يحسب بالقرون، خلافاً للتاريخ الفلاحي مثلاً»[20]. فكم من حروب شُنّت بسبب العامل الاقتصادي وهو الذي لعب دور البطل! وكم من هجرات بسبب الأوبئة والجفاف...! الأمر الذي يبرز بجلاء التواريخ الموازية للتاريخ الرسمي البشري، يكون لها الشأن الأكبر في إحداث الأحداث وتفسيرها. فخلف التاريخ الرسمي الذي يعجّ بالحروب والمجاعات، ويسرد قصص الأبطال وإنجازات الملوك، تواريخ أكثر بُطئاً وأقوى تأثيراً، كتاريخ القمح وتاريخ الجفاف. نحن أمام معنى مستجد للتاريخ من المسح السطحي للأحداث إلى التوغل العميق في الحقب والنبش عن المنسي فيها. يقول يفوت: «تحوّل الاهتمام، عكس ما كان قائماً، من الوحدات المتسعة التي كانت توصف كعصور وقرون صوب ظواهر الانفصال»[21]. فوراء التاريخ المتصل تواريخ منفصلة أحداثها مشتتة مفتتة، توزع وتقسم، تهدم وتدك، تمحو الوحدة وتقيم بدلها الاختلاف، فليس في التاريخ أيّ ثابت أو أصل أو حقيقة أو بداية. وكلّ حدث تصير له أهمية وقيمته بانعزاله وتفرده.
2ـ2: سالم يفوت وفلسفة العلوم (نموذج العلم الحديث)
يحاول تفسير مجريات التقنية وأحداث الطفرة الصناعية اليوم، بالعودة للعصر الكلاسيكي وما شهده من تسيّد التفسير الآلي-الميكانيكي الذي كان بدوره ثورة على العصر الوسيط بسحرته ومشعوذيه، ولعل من نتائجه تعقبهم ومحاكمتهم. ودور يفوت في هذا العمل «سيكون تأريخاً لحياة العلوم ومخاضها، أي تأريخاً لتاريخها الفعلي المتمثل في نشأة التصورات العلمية وتحولها واستمرارها أو اندثارها، والشروط المحيطة بذلك»[22]. يبدو اهتمام يفوت منصبّاً على طرق إنتاج المعرفة العلمية وحيثيات ظهورها ووسائلها وأدواتها، أكثر من الركون لسرد حوادث العلم أو وصف أحداثه العظام. وكأنّ يفوت ينظر إلى العصر الكلاسيكي (لحظة انطلاق المشروع العلمي-التقني) نظرة الفاحص عمّا يمكن الاستفادة منه، لاستنباته في البيئة العربية. ولاستجلاء هذا الأمر يخوض في الحديث عن الثورة الفلكية التي غيّرت نظام الكون وكسمولوجيته، بداية من كوبرنيك (ت1543م) ثم غاليلي (ت1642م).
رأى أرسطو في إطار كسمولوجيته أنّ العالم مشكّل من عالمين: عالم ما فوق القمر مادته شريفة (الأثير) لا تقبل الفساد، وعالم ما تحت القمر يتشكل من العناصر الأربعة (الماء، النار، الهواء، التراب) قابل للكون والفساد، وحركته إمّا من الأعلى إلى الأسفل (التسفّل)، أو من الأسفل إلى الأعلى (التصعّد). محكومة حركة الجسم باشتياقه لمكانه الطبيعي، وإن بلغه أصاب الكمال فتوقف عن حركته، ما لم يمنعه قاسر. فالأصل السكون أمّا الحركة فعارض من العوارض. الكون محدود مركزه الأرض لا وجود فيه للفارغ. كلّ هذا سيعاد فيه النظر، استجابة لمتغيرات ثقافية واجتماعية... غاليلي سيشكك فيها لما رئي من حركة مستمرة في الكواكب والنجوم واضطراب في حركتها، بموجبه ثم توجيه منظاره للسماء مع غاليلي سنة 1609 سيصل فيه إلى أنّ السماء جسم طبيعي يتشكل من مكونات متعددة بينها تفاعلات وتجاذبات تمسك حركة الكون وتدفعه للاستمرار، مشدوداً لمركز جديد هو الشمس بدورها تدور في حركة دائرية، الأمر الذي يمنع من القول بكون لا نهائي، بل هو كون محدود. وهو ما لم يرق نيوتن (ت1727م)، لذا وضع قانوناً جديداً للعطالة مقتضاه: «الجسم يستمرّ في حركته بصورة مستقيمة ومنتظمة ما لم يخضع لأيّ مؤثر خارجي»[23]. حركة الجسم مستمرة دائمة أبدياً، يفضي إلى القول بكون لامتناهٍ منفتح. بدأت مؤشراته في الانقشاع مع برونو (أحرق 1600م) الذي قال بوحدة الكون، أسكن الوجود الإلهي في الوجود الطبيعي. وبما أنّ الإله غير متناهٍ، وإن قلنا غير ذلك عطلنا الإله وانتقصنا من قدرته «العالم تجلٍّ لله، والكثرة تجلٍّ للواحد»[24]. فعن ذلكم الواحد فاض الكون وتكثر وتعددت عناصره واختلفت مكوناته. فيض أشبه بانبلاج الأعداد عن الواحد إمّا بشكل مباشر كالثاني أو عبر الوسائط كالعدد ثلاثة وأربعة...، وهي أعداد لا متناهية، فكذا الحال بالنسبة إلى الكون أو الكسمولوجيا. لا غرابة إن صار كلّ عدد يحيل لمعاني الإلهية ويشحن بدلالات م989
- يفوت، سالم: الفلسفة والعلم في العصر الكلاسيكي، المركز الثقافي العربي، ط 1، الدار البيضاء 1989