بحثاً عن أخلاق طبيعانيّة*
تمثال نصفي لشيشرون - ويكيبيديا
" يأتي كلّ ما هو صائب, أخلاقيّاً, من المصادر الأربعة التالية: التصوُّر الشامل أو الاستنتاج الذكي لما هو صائب, المحافظة على مجتمع مُنظّم يأخذ فيه كل عضو ما يستحقه وأن تكون كل الواجبات فيه مُنَفَّذة, العظمة والقوّة لروح نبيلة لا تُغلّبْ, أو الأمر والاعتدال في كل قول وفعل, ما يعني, القناعة وضبط النفس ".
شيشرون
هل انشغلت يوماً, بما يمكن أن يفكّر به راعي أغنام قد عاش بالقرن الأوّل الميلادي: فيما لو يمكنه العيش بيومنا هذا؟ ماذا سيفكّر بخصوص: الحصول على مياه صالحة للشرب في المنزل بمجرد فتح صنبور, شفاء أمراض خطيرة جرّاء حقن سائل ما, السفر بزمن يفوق زمن سير الحصان أو بارتفاع أعلى من ارتفاع نسر, أسلحة يمكنها القضاء على ملايين الاشخاص بلحظة, بتركيب أعضاء عندما تفشل الاعضاء الاصلية, الحصول بثواني على كل المعلومة التي نريدها في لوحة مضيئة وملوّنة؟
يمكن لفجوة الألفي عام هذه, أن تجعله يرانا ككائنات ساحرة ذات قدرات فوق طبيعيّة يصعب عليه استيعابها. حتى بالنسبة لنا, سيكون من الصعب فهم عدم حدوث انقراض نوعنا, في حال عاش أسلافنا بظلّ شروط محدودة كثيرة. وصلت الإنسانية, إثر مرور 1000 عام من الركود حتى القرون الوسطى, إلى وعي متزايد للحاجة إلى التعايش السليم والتعاضد والتضامن مع آلام الآخرين.
قطعة من القانون السادس من مسلّة أشوكا - موجودة في المتحف البريطاني حالياً - ويكيبيديا
مسلّة حمورابي وعليها شريعته - ويكبيديا
ليكرغوس - ويكبيديا
سولون - ويكيبيديا
وخلافاً لما يمكن التفكير فيه, اعتباراً من وجهة نظر دينية, فإنّ مبادئنا الأخلاقيّة تمتلك مكونات تطوريّة واجتماعيّة قويّة: تعكس توافقات " روح الحقبة ". وكأمثلة على هذا, لدينا قوانين أشوكا الأخلاقيّة في الهند, قوانين حمورابي في بابل, قوانين ليكرغوس في أسبرطة أو قوانين سولون في أثينا, وهي قوانين سادت بوقتها ضمن حضارات متطورة, لكن بمرور الوقت ثبت خطأها في فهم الطبيعه البشرية وبالنهاية جرى إقصاؤها.
من خلال متابعة حثيثة لتطوُّر السلوك البيولوجيّ الاجتماعي: نجد أنّ ما يجري اعتباره مزايا الأخلاق الحصريّة بالبشر { أخلاق بشرية }: المعاملة بالمثل, الأنظمة الاجتماعية, التصالح, التشاعر والبحث عن السلام, ما هي إلّا أخلاق يمكن ملاحظتها عند كثير من الحيوانات القطيعيّة كالشمبانزي والدلافين. حيث يطرح Frans de Waal في كتابه " الرئيسيّات والفلاسفة " فكرة تقول: كل الحيوانات الاجتماعية قد اضطرت لتحديد أو تعديل سلوكياتها بصيغ مختلفة لأجل تأمين التعايش والبقاء على قيد الحياة. لقد ورثنا تلك المحددات والسلوكيات من أسلافنا أشباه البشر, وهي تشكل بالوقت الراهن جزء من مجموعة من المواقف التي تمّ تشكيل الأخلاق البشرية من خلالها.
من المواقف الأهمّ الموروثة من أسلافنا: امتلاكنا الثقة غير القابلة للتغيير في طفولتنا بكل ما يقوله لنا آباءنا أو مربينا بالعموم, حيث يوفِّر هذا فائدة انتقائيّة بمواجهة مخاطر قد تتواجد في بيئتنا. فبمواجهة مواقف حرجة, يمكن للطفل اختبار الأخطار التي يتوجّب أخذها بالحسبان من قبل الآباء, ولهذا نتعلم بأنّ السكاكين تجرح, السيارات تدهس, وفيما لو نقع على درج المنزل قد ينكسر عظم ما فينا. بلحظة ما, يقبل الطفل دون أيّ مساءلة: ما ينقله الأب من " معرفته المفيدة " حول ما هو مفيد وما هو ضار, حول كيفية التصرُّف وفقاً لما هو مقبول اجتماعياً, لكن كذلك ينقل له الآباء تحيزاتهم { أحكامهم المُسبقة }, التابوات والأخطاء { المفاهيم الخاطئة }.
بهذه الصيغة تمّ تصنيع احتياجات زائفة في عقل الطفل الذي كان ضعيفاً من ناحية استخدام المنطق وإجراء المحاكمة الذهنية: كوجود كائنات ساحرة مثل بابا نويل, الملائكة التي تحمينا, حياة بعد الموت والعقاب بالنار الخالدة, جرى قبولها دون براهين, وبعيداً عن الأدلة مع برهان " أنّ أشياء مؤكّدة لا تكون مخصصة لتكون مفهومة مع التعليل ". حين يصبح هذا الطفل بالغاً, سيقوم بنقل هذه " المعرفة المفيدة " بدوره للجيل اللاحق, حيث يعزِّز بهذه الصيغة مفاهيم: فيما لو تكن سهلة الدحض, فهي ستكون صعبة الاجتثاث.
على مدار قرون, جرى تقديم الفكرة القائلة بأنّ أنظمتنا الأخلاقيّة تتمركز في كائن علويّ متفوِّق كامل, أبٌ, صديقٌ يمكنه فعل أي شيء ويعرف كل شيء, يستمع لنا ويحمينا, وبدونه سنضيع بوصفنا كائنات ناقصة. سيخدم هذا الأفق بأفكارنا الطفوليّة الطبقات الكهنوتيّة بصورة رئيسيّة, حيث يقومون بالترتيب والتفسير لمختلف الاشارات السماوية, يستقبلون فهمهم بوصفه وحي, لكنهم ببعض الأحوال قد شجَّعوا, وعلى مدار قرون, على ارتكاب الجرائم وتعزيز الجهل.
خرجت من داخل الجماعات المتدينة شخصيات غير راضية عن الحقيقة التي يدعيها الوحي, اضافة لعدم رضاهم عن التناقضات القائمة بعقائد تلك الجماعات الدينية, ولذها قرّروا استخدام قدراتهم الذهنية لحلّ ومواجهة أمور عديدة مُقلقة حول الكون والحياة. يكونوا غاليلو, نيوتن وداروين, اضافة لآخرين غيرهم: أشخاص متدينين بالنسبة للكثيرين, وعبر بضع خطوات قليلة يُحسدون عليها, قد ساهموا بتكوين الجسم المعرفيّ الذي قاد في آخر 500 عام لتحقيق الكثير من الازدهار بحياتنا الحديثة.
يشكّل نظام التصويب الذاتي للعلم, أمراً حيوياً يسمح بالتقدُّم وإقصاء كل ما يجري دحضه بالأدلة, حتى لو جرى اعتباره صحيحاً بلحظة ما. فالآن نفهم بثقة كبيرة ووضوح شديد ودون بذل كثير من الجهود: بأنّ الأرض لا تكون مسطّحة, وأنّه لا يمكننا المشي على المياه, وأنّ الفروقات الشكلية بين الاشخاص لا تعني وجود الأدنى والأرقى, أنّ ولادة العذراء مستحيلة فيزيولوجياً. في المستقبل, قد تسمح اكتشافات جديدة بفهم ظواهر الطبيعة التي يعتبرها البعض حتى الآن سحرية أو يسببها كائن علويّ لا مُبالٍ.
أن يكون الشخص منطقيّ ويفهم عمل محيطه: لا يعني بأنّه قد فقد إنسانيته. بغضّ النظر عن الاعتقاد الديني, مستوى التعليم أو الثقافة, فجميعنا قد اختبرنا مشاعر كالحبّ, النشوة, الأمل أو الإعجاب, وكذلك شعرنا بأمور مأساويّة كالحزن أو الألم. يمكن لهذا المستوى الروحانيّ توجيه سلوكنا في المجتمع أحياناً, لكنه بالتأكيد لن يتمكّن من تفسير طبيعة الواقع.
بوقت حديث, تمّ انطلاق البحث حول الأخلاق علميا. فمن خلال تحليل إحصائيّ للاستجابات تجاه معضلات معقدة أخلاقياً, تمّ التوصُّل لتحديد قواعد أخلاقيّة مقررة تطورياً في دماغنا, الأمر الذي سمح بتحضير نماذج يمكن تطبيقها في إدارة الصراعات والمفاوضات. وقد برزت التجربة الأخلاقيّة المسماة " معضلة الترامواي رقم 4 Dilema del Tranvía ", والتي يمكن إيجازها بالتالي:
من cosasdejosep
يمشي ترامواي خارج السيطرة في طريق. في طريقه أي على سكّته, ربط فيلسوف شرّير 5 أشخاص. لحسن الحظّ, يمكن تغيير مسار الترامواي إلى طريق آخر من خلال كبس زرّ, لكن لسوء الحظّ, يوجد شخص مربوط أيضاً هناك, هل يتوجب ضغط الزرّ وتغيير المسار؟
وافقت غالبيّة الاشخاص المطلقة, التي سمعت القصّة, على السماح بكبس الزرّ. على الرغم من كون المتميزين بتكوين أخلاقيّ دينيّ قد بدوا مترددين في كبس الزرّ, إلاّ أنّ غالبيتهم العظمى رأت بأنّ هذا الخيار, أخلاقياً, هو الأفضل { حيث يُسفر الخيار الآخر عن قتل 5 أشخاص }. تتكرّر هذه النتيجة بشكل ثابت, وبصورة مستقلة عن الثقافة, مستوى التعليم أو الاعتقاد الديني. يشكّل هذا مؤشِّر لما يمكن اعتباره نموذج أخلاقيّ أدنى: لا يكون ضرورياً فيه حضور الآلهة التي تتدخّل بسلوكياتنا.
لا يمكن تنظيم سلوكنا الإجتماعي عبر نظرية النسبيّة العامة أو قوانين الترموديناميك, فمن الرعونة التفكير بأنّه يمكن استخدام العلم والعقل بوصفهما نظام أخلاقي كفء, لكن كما رأينا, فهي توفِّر لنا أدوات تعرفنا على أنفسنا بصورة أفضل, نفهم مواقفنا, نرى بوضوح ودون أحكام مُسبقة, نتزوّد بمباديء أخلاقيّة موضوعيّة جديدة يمكن تقييمها على ضوء قدرتها بتحسين أحوال المجتمع.
في تمرين واضح عن الحياء الثقافيّ, سمح لنا استخدام العقل بامتلاك وعي بالمسؤوليات التي تقع على عاتقنا كأعضاء في المجتمع, لقد تمكنا من التعلُّم بأنّ حرياتنا تصل للحدود التي تقرُّها حقوق الآخرين. نمتلك تقدُّم ملموس بهذا الاتجاه مقارنة بحقب الإيمان الأعمى المسيطر وغير القابل للمساءلة, لقد تطورت حرياتنا بصورة معقولة, معتدلة وتخضع لأنظمة أخلاقيّة شاملة تقوم بتنظيم السلوك البشريّ الأرضيّ والراهن: دون تأمُّلات في القيم الصوفيّة الفوق طبيعيّة.
* طبيعانية (بالإنكليزية: Naturalism) هي فلسفة ترى أن الوجود ممتنع خارج الطبيعة أي لا يوجد شيء لا يمكن رده إلى سلسلة وقائع مشابهة لتلك التي نختبرها. من ويكبيديا |