اضطرّ زين العابدين بن علي، الرَّئيس الثَّاني للجمهوريّة التُّونسيَّة بعد استقلالها عن فرنسا، لمغادرة العاصمة مساء 14 يناير/كانون الثّاني 2011 عبر مطار قرطاج، هاربًا من احتجاجات شعبيَّة أشعلَتها نيرانٌ أحرقت محمد البوعزيزي حتَّى الموت. لعلّ أيمن الدَّبوسي، الأخصائي النّفساني وكاتب راوية “انتصاب أسود” (دار الجمل، 2015) قد كان وقتها، شأنه شأن “أيمن”، شخصيتـ(ه) السّاردة، بين المتظاهرين المحتفلين برحيل “الزّين” في شارع لحبيب بورقيبة، أو لعلّه كان في مكتبه بمستشفى الرّازي للأمراض العقليّة بصدد تنقيح تقارير النّزلاء وتقليبها، خِلسة عن الإدارة، لغايات غير طبيَّة. لا توجد بين الفضاءين – فضاء الثَّورة وفضاء الجنون- مسافة كبيرة، لكنَّها مسافة كافية لصناعة نصّ خلاسيّ، مائع وشرّير ووضيع حتَّى، يجعل من تداخل الوقائع السّياسيَّة وتدافع الهواجس الذَّاتيَّة أدوات ملائمة لصياغة مادَّة ماجنة وغاضبة في آن. هذا تمامًا ما أراده “النّفسانيُّ” وهو يُنزل سحّاب سرواله قصد مكاشفة مقيّحة تعمّدت غثيانا بدئيًّا: هل يكتب الرّواة، عبر بورتريهات ذاتيّة، مقاطع من تاريخ دولة أم أنّ لعبة التَّخييل الذَّاتيّ هي الَّتي تصنع الأحداث وفقًا لمغالطات سرديّة؟
السّلطة المختونة
“ما من انتصاب إلاّ ويعقبه ارتخاء”، تفتح هذه الجملة الفصول السَّبعة الّتي تشكّل الهيئة النَّصيَّة لرواية مغاربية جديدة، تجمع مظاهر الوساخة والجلالة من خلال موضوعات أصبحت، أو تكاد تصبح، المجال المفضّل لجيل متمرّد من المشتغلين بالأدب والفنّ داخل “الحدود” المغاربيَّة: الجسد والسّيادة والآثار والأشباح، على مفترق حضارة وتراثين. مُجون الدَّبوسي لا يشبه مجون محمَّد شكري الغائص في واقعيَّة اجتماعيَّة صادمة. جنونهما هو الآخر غير متشابه. شكري كان مقيما في مرستان بتطوان لدواعي الاكتئاب، والدَّبوسي مقيم في الرّازي لدراسة الكآبة، لكن المكتئب ودارسه يتبادلان الأدوار في غالب الأحيان. كلاهما يُعربد، لكنّها عربدة مختلفة السّياق مع أنّها قد تتقاطع مع مرجعيات أسلوبيَّة أمريكيَّة. قد يخطر على الذّهن، للوهلة الأولى، أنّ المؤلِّف يستهدف كتابة نصّ إباحيّ متماه مع سيرة ذاتيّة تشمله، كما تشمل شلّة من الأصدقاء، وربَّما كان ذلك واحدًا من أهدافه الخفيَّة، أي الإرباك عبر “الاستبداد” بضمير المتكلّم، لكن النصّ يطرح تحدّيات نفسيَّة وتقنيَّة متداخلة لا تتوقَّف عند غرض التَّشويش والمحاكاة، بل هي محاولة لتعقيد علاقة الكتابة بالتّجربة المقدَّمة.
يُكثّف الفصل الثَّاني، الَّذي يحمل عنوان “كريستوف لا تحاول”، حالة شبّان ولدوا في ثمانينات القرن الماضي في تونس، وفي غير تونس. توانسة وفرنسيون وأمريكيون بعيدون ومغربيّة يتيمة، جاؤوا إلى تونس أو رحلت إليهم قصص البلد عبر أحد السّاردين. يقول “أيمن”: “…كُنّا في منتصف شهر فيفري تقريبًا، أي شهرًا بعد هروب الدّكتاتور (…) كنّا نشهد التَّاريخ يتغيّر أمامنا ولا نملك غير الرّكض واللّهاث للحاق بالأحداث (…) كُنّا نتحدَّث كثيرا، نحلم كثيرًا، نأكل كثيرًا، نسْكر كثيرًا، نضاجع كثيرًا، نمزح كثيرًا، نفكّر كثيرًا، وننام قليلاً. أصابنا ضرب من المسّ البهيج. كُنّا دفقًا هدّارًا من الفرح والإمكانات الرَّائعة. كنّا نهذي”. يبدو «أدب النّكاح» الَّذي تقترحه الرواية ملحمة بطوليَّة لانتصار هذا “الجيل” على سلطة سياسيَّة عمّرت لعقود، لكنَّه سرعان ما يتحوّل إلى انتشاء غير سياسيّ، إلى فوز قضيبيّ، كأنّ النَّصَّ يريد أن يهمس: ها قد نكحنا القهر السُّلطويَّ، واقتصصنا من قضيبه علامة التَّجبر، ها قد خرجنا من صمتنا وبلغنا الرُّشد الماتع والماجن.
في أحد مقاطع هذا الفصل يدخل “أيمن” في حوار مباشر وصريح مع صديقين فرنسيين جاءا لاكتشاف تونس بعد الأحداث. تظهر البورنوغرافيا، كردّ فعل حيثما استبدّت السُّلطة السّياسيَّة أو الثَّقافيَّة (مثلا في الحوار مع كريستوف وهيلين ص.31-43)، أمَّا الإيروتيكا فتتبدَّى حينما يهدأ السَّرد ويتلطّف، ويتحوّل إلى رسائل أو مقاطع غزليَّة ونوستالجيَّة، أي حينما يصير الجسد مكان تجريب قيم مثل الصَّداقة والفقدان، خاصّة في الفصلين الأوّل والسّادس. لم يكن من مناص أن يستنجد السَّارد، في حديثه مع كريستوف، المصوَّر باعتباره فرنسيًّا متحذلقا ممحونًا بالمثليَّة الجنسيَّة، بالكليشيهات المتداولة في المخيال الغربيّ بشكل عام: الفحولة العربيَّة. كأنَّنا أمام “صدام حضاريّ”، محفزّه فتاة صهباء سكرانة هي هيلين، ومظاهره شواهدُ على الجسد: الختان والانتصاب وانكشاف القُلفة أو انكماشها. يتمُّ تقديم القضيب المختون كـ“حجّة” على انتفاء الغموض عن المسلمين أمام استشراق متوارَث يُلهب البعثات الطُّلابيَّة الأروبيَّة ويستشري بين دارسي اللُّغة العربيَّة الَّذين يقصدون المغرب الكبير أو الشَّرق الأوسط. “بيتنا تحوّل إلى محطّة للكثير من الطَّلبة والنَّاشطين اليساريين من الأجانب (…) كان الأمر وكأنَّ البلد يحتضن ألعابًا أولمبيّة أو شيئًا أعظم، إنَّها ثورة، ثورة”، يقول النَّصُّ وكأنّه يتهيأ للقذف بانتشاء في وجه الإيديولوجيات بما في ذلك الأوهام الثَّوريَّة.
حيوات منويّة
داخل هذه اللُّعبة المائيَّة، تتكافل خراطيم مكافحة الشَّغب وبصاق الكهول على صور الطَّاغية مع دموع الثَّكالى في البيوت، ومنيّ المستيقظين الثَّوريين المتدفّق في الغرف السّريَّة مع قيء السكرانات في أوّل الصّباح، بين حي باردو والمنزه7، لتعطي سيلاً من الذَّوات والحيوات المنشطرة، تغدق علينا بمتعة تأريخ وتحليل وانحلال حقبة زمنيَّة كاملة، من خلال ذكرياتٍ مراهقةٍ تصاحب النَّاس إلى بدايات الثَّلاثين عابرة وإيّاهم بوابة النّضج المنقوص. تغلق فقرة الرّواية، في شيء من الخسارة التراجيديَّة، كالتَّالي: “طار الملاك وبقي الشَّيطان. غاب الجمال واحتشد القبح يدوس ويلعق الدَّم السَّماويَّ على الأرض (…) شعرت بالقهر، فقدت أملي في الحياة مرَّة أخرى، أردت الصّراخ والسُّباب، لكنّي لم أستطع إلاَّ السُّقوط على ركبتي، مهزومًا، وقد رحت، أخيرًا، أتقيأ وأتقيأ وأتقيأ… وهناك، في الخلف، وراء الحشد الشّامت، كانت الشَّمس تشرق من القيء”. القيء، شأنه شأن البول والدّم والمنيّ والدُّموع والمداد، يرسم لوحة تشكيليَّة في عدد من فضاءات هذا العمل الرّوائي (الحمّام، الشارع، المزبلة،…) محوّلاً مسألة الغضب والتَّمرُّد، والعصيان الأسلوبيّ حتّى، إلى حساسيَّة عضويَّة لا تتدشّن إلاّ مع دخول الجسد حلبة الملاكمة السَّرديَّة. إنّه نصّ ملاكم، يوجّه لك لكمة، ويمكنك أن تسقطه بالضَّربة القاضية كقارئ، لأنّه لا يدّعي فحولة فجّة كما قد يعتقد البعض.
قبل الثَّورة، كانت تسنيم. وبعد الثَّورة ظهرت علياء في فصل مُفردٍ لمراسلات افتراضيَّة. بين فصليّ “تسنيم” و“رسائل إلى أمريكا”، تبدو فتاة أخرى باسم إيناس تأتي لتهذيب السَّرد وإخراجه من طابعه البورنوغرافيّ الصّرف، يصير المتن الثَّوريُّ متنا هامشيًّا، هامشًا بوليًّا لمثانة ممتلئة بالقلق والأسى، مثلما يمتلئ الجوف بالخليط القيئيّ، ومثلما يتخلّص الإحليل القضيبيّ من الزَّوائد والفضلات الجسميّة؛ فينتقل إذّاك “النّفسانيّ” إلى استطراد، وضرط، سمومه الدَّاخليَّة وآلام القطّ الأحمر الَّذي يسكنه، حتَّى أنّ القارئ يخال النَّص “واقعيًّا”، بيد أنّ في الأمر خدعة مَّا: وضعيَّة إدغام الأجساد مع الأحداث، في حركة geste/gesture نسج نصّيّ ظاهر، تنطوي على رغبة، شخصيَّة ودفينة، لتحطيم مركزيَّة الأنا في الكتابة الأوتوبيوغرافيَّة. “الأنا” (Je-Ich-I) مضمحلّ أساسًا في عربيّة مشتّتة الذَّوات، لغة تتمنّع بتعنّت المحافظين من داخلها عن تفجير رأس “الأسلوب” كموضوع للرّواية. يقول أيمن الدَّبوسي: “الكثير من الأشياء تحدث حولنا. تؤثّر فينا ونؤثّر فيها. بعضها عرضيٌّ وبعضها الآخر محكم التَّدبير. فيها العاديُّ والاستثنائيُّ. لكن تحويلها إلى أثر قصصيّ يحتاج معالجة خاصَّة. إنَّه الأسلوب. تلك الطَّريقة الخاصَّة في إرسال الحبر، على غرار زخة الحبّار الفريدة”.
في روما القديمة، كانت المراحيض العموميَّة مجهّزة بصهاريج مخصّصة لتجميع البول. كان الرّومان، والتُّونسيون أقرب إليهم مـ(نّا)، (نحن) مغاربة الجهة الغربيَّة القصيَّة من التلال الأمازيغيَّة، يحفظون هذا المحلول المائل إلى الاصفرار أو الحمرة، لنَقْعِ ثيابهم وتطهيرها فيه. الغرض: إحياء نقاوة الثَّوب وبياضه بفضل غاز الأمونياك. وإلى حين، سواء اعتبرنا التَّخييل الذَّاتيَّ لعبة مراوغة لتنقيح الذَّاكرة والالتفاف عليها وحولها أو اعتبرناه مجرَّد قفزة طارئة للأسلوب على فخاخ السّيرة الذَّاتيَّة، يحاول “النَّفسانيُّ” حجب أشياء على حساب أخرى، بأناقة ودهاء، وهو يصرخ في القارئ: لا، لست أنا. لست أنا لا الكاتب ولا السَّارد ولا جمهرة الرُّواة. أنا أخصائيّ أمراض عقليَّة، أعيش ما أقصّه عليكم وأحكي عيشا يُقصّ عليّ، ليس إلاّ. طبعًا هو لا يقول كلّ ما قلته عنه. هناك أمر واحد، يبقى معلَّقا، مع أنّه خارج متن الرّواية: من حطّم النّصب التّذكاري لشكري بلعيد في المنزه6، أكانت الشّعريَّة النَّاضجة أم الإيديولوجيَّة المراهقة؟ لم يجبنا أحد عن الاستفسار وبقيت محاضر البوليس متضاربة.