يربط الدُّكتور رسول محمّد رسول دوافع إنجازه لكتابه هذا (الصّادر في طبعته الأُولى عن دار مكتبة عدنان للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد 2015) بتاريخ الاهتمام العربي المُتصاعِد، ولا سيما في العقدين الأخيرين بأعمال الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر (1889 _ 1976)، ويُخصُّ ذلكَ الرّبط بتلكَ الجُهود الكبيرة التي بذلَها الدُّكتور فتحي المسكيني في هذا المِضمار، والتي توَّجَها بترجمته الاستثنائية لكتاب هيدغر العمدة (الكينونة والزمان) الصّادر عام (2012)، بعد مُعايَشة الدُّكتور المسكيني لهذا العمَل “أكثر من ست سنوات بقصد الترجمة، ونحوَ عقدين من الزمان بقصد القراءة والمُراجَعة والفَهم والتأمُّل في خفايا متنه وخطابه بوصفه أحد فصوص الفكر الفلسفي الثمينة” (الصفحة 114).
يُمثِّلُ انزياح الفكر الهيدغري عن فكر أستاذه هوسرل (1859 _ 1938) أحد المنعطفات المُؤسِّسة لمشروع هيدغر الفلسفي، فـَ “إذا كان إدموند هوسرل (…) قد ولَجَ عالم العلامات عبر أبحاثه المنطقية ورؤاه في الفينومينولوجية الخاصة بالوعي، فإنَّ مارتن هيدغر ولَجَ العالم ذاته أو عالم العلامات عبر تأسيس نظرية أنطولوجية للوجود تتوسَّل الفينومينولوجيا والهيرمينوطيقيا مَنهجاً في النظر إلى العلامات ليسَ بعيداً عن (الرؤية العينية) التي ميَّزتْ تفكير هيدغر الفلسفي، وكذلكَ عبر باقة من المفاهيم والمصطلحات ذات السِّمة الأنطولوجيّة التي رصَّها في مَباحِثَ وفصول كتابه (الكينونة والزمان) على نحوٍ مُتتالٍ بارع” (الصفحات 14_15_16).
يكمن التحوُّل الهيدغري الحاسِم في انتقاله من قصدية الوعي Intentionality Of Consciousness عند هوسرل، إلى قصدية الوجود الإنسانيIntentionality Of Being، مُتجاوِزاً بهذا الفينومينولوجية الهوسرلية التي انتهَتْ إلى نمَطٍ من المثالية المُتعالية فاختزلَتْ الوجود داخل حدود قصدية الوعي نفسه، نحوَ أنطولوجيا تسعى لمُقارَبة الوعي نفسه، إلى جانب فَهم الوجود الإنساني، والموجودات، ضمن أبعاد ظواهر الوجود في عالم الخبرة المَعيشة، فإذا “كانت فينومينولوجيا إدموند هوسرل تمضي إلى الداخل؛ تمضي نحوَ ماهيّات الأشياء والظواهر وهيَ تمكث في الذهن والعقل والمخيال بوصفها ظواهر حتّى تنطبع العلامات بطابع كُلّ شيء” (الصفحة 40)، فإنَّ “فينومينولوجيا هيدغر تتصوَّبُ عكس ذلكَ؛ فهيَ تمضي إلى الخارج نحوَ الوجود أو الكينونة أو التوجُّد في تجلياتها وتمظهراتها وتواجداتها بوصفها موجودات (…) في أفُق الحياة المرئية” (الصفحة 40).
إنَّ بناء رؤية هيدغر للكينونة بينَ الحُضور والغِياب وهيَ تُعيد النظر في القصدية بوصفها اتّجاهاً نحوَ موضوعٍ ما، تأسَّستْ على تحوُّل محوري في فَهم (اللوغوسLogos) عبر تاريخ الفكر الغربي، وذلكَ بما هوَ تحوُّلٌ ينتقل لإدراك العالم وموجوداته بما هوَ مَعيش، لا بما هوَ مُتصوَّر؛ أي بالتحوُّل من اللوغوس/التعريف العقلاني المنطقي بجُذوره المُتمركزة على وَحدة الذات المُتحكِّمة بالعالم، والقادرة على تمثُّل الموضوعات ومُطابَقتها مع حقيقتها المُتعالية، وهو الأمر الذي يتمّ بإحضار تلكَ الموضوعات وإخضاعِها للذات وفق رُؤى ميتافيزيقا الحُضورThe Metaphysics Of Presence، إلى اللوغوس/البصَري الذي يختبرُ علاقة التطابُق في سياق ظاهري لأساليب الوجود المُنكشفة في العالم بطرائق مُتنوِّعة، وهذا فَحوى فَهم هيدغر للظاهرة الوجودية بوصفها عالم تجلّيات الكينونة، والتي هيَ حسبَ توجُّهاته تمثِّلُ الـ (فينومان Phanomen)، والذي يعني لديه المُنكشف والمُتجلّي والمرئي _في_ ذاتِ نفسه على أوجهٍ مُختلِفة حسب نمَط الولوج إليه في كُلّ مرّة (انظر الصفحتين 38_39)، لتكون “المهمّة المطلوبة هيَ انتزاع الحقيقة من الفينومات ليس بوصفها ماهية مُتوارية؛ إنَّما الحقيقة بوصفها تجلّياً، ذلكَ أنَّ وجود الفينومان ]أو الظاهرة[ هوَ أكبر من أي مظهر جزئي له، ومهمّة الأنطولوجيا الفينومينولوجية هيَ أنْ تكشف لنا ما هوَ هذا الوجود” (الصفحة 40).
وهكذا، يُعيد هيدغر النظر في الكينونة بوصفها مَظهَراً أو ظاهرة عينيّة عبر تجذيرها في العالم؛ أي بما هيَ وجود مُنكشف، ذلكَ أنَّ الكشف Exhibition ليس سوى ترك الموجودات توجد بأساليب وجود مُختلفة في مُنفتَح العالم، أو بلفظٍ آخَر في الانفتاح Alethia، وهذا الفَهم كان من أهمّ ما بنى عليه هيدغر نقده لتاريخ الميتافيزيقا المَديد في الفكر الفلسفي الغربي، والذي ظلَّ سجينَ الثنائيات الميتافيزيقية، وفي مُقدِّمتها ثنائية (الحُضور _ الغِياب)؛ فالأنطولوجيا الهيدغرية “هيَ أنطولوجيا بشرية أو إنسانية في أغلب توجهاتها، وهيَ أيضاً أنطولوجيا غير ميتافيزيقية؛ إنَّما هيَ أنطولوجيا تحتفل وتحتفي بوجود الموجود والكائن في كُلِّ أشكاله المُمكنة حتَّى لو كان مُستتراً أو مُحتجباً لضرورات أنْ يكونَ ويُوجَدَ تالياً” (الصفحتان 16_17).
ولإيضاح هذا المَنحى، لابُدَّ أنْ نعيَ قول هيدغر بفكرة نسيان الوجود أو نسيان الكينونة في الميتافيزيقا الغربية، وذلكَ بوصفه نسياناً للاختلاف بين الوجود والموجود (انظر الصفحة 74)، وتخطي هذا النسيان، بوصفه تخطِّياً للميتافيزيقا، يسمحُ للاختلاف والفرق الأنطولوجي بين الوجود والموجود، والكينونة والكائن، أنْ يتنفسا هواءً نظيفَ الأصل (انظر الصفحة 75)، ولهذا “كانَ مَسعى هيدغر في حياته بناء رؤية فلسفية تُعيد النظر في (الموجود) باعتباره (وجوداً)، بعدَ أنْ غرقتِ المَعارِف الميتافيزيقية المُتوارَثة منذ أفلاطون وأرسطو طاليس حتَّى زمان هيدغر وما بعده في بحر (الموجود) على حساب (الوجود) الذي طاله التغييب والهجران والنسيان القاسي” (الصفحة 17)؛ إذ لطالما انشغلَتْ هذه الميتافيزيقا بالموجود Existentمُؤسِّسَةً فَهْمَها للوجود Existenceانطلاقاً من علاقة العلّة والمعلول معَ هذا الموجود، فانطلَقَتْ دائماً من ذلكَ الموجود لتفسير الوجود، وهوَ ما أدَّى إلى نسيان الاختلاف الأنطولوجي Ontologic Differenceبوصفه اختلافاً بين الوجود والموجود، يتمُّ التغاضي عنه بطيِّ الوجود على مركزية الموجود؛ أي بالتَّحكُّم به بوصفه حقيقة تمثُّليّة مُطابِقة للموجود يتمّ إلحاقُها به عبر ميتافيزيقا الحُضور، غيرَ أنَّ هيدغر قد ميَّزَ بين الوجود، والشيء في الوجود؛ أي قال بالاختلاف بين الموجود بوصفه موجوداً إنسانياً فرداً مُستخدِماً مُصطلح (الوجود) في الدَّلالة عليه Existence، والموجود بوصفه وجوداً من جهة الكينونة؛ أي من جهة الوجود الكُلِّي العام مُستخدِماً مصطلح Being للدَّلالة عليه، وهوَ الأمر الذي أسَّسَ لمُجاوَزة ثنائية (الحُضور _ الغِياب) التقليدية عبرَ فَهم الموجود من جهة وجوده في العالم بأساليب وكيفيّات وجودٍ مُختلِفة في كُلِّ مرّة.
لكنْ: كيفَ يقوم هيدغر بتخريج هذه الصِّلة الجديدة المُغايِرة بين الوجود والموجود؟ أو بالأحرى: كيفَ يُوجِدُ الكائنُ كينونَتَهُ في العالم بما هيَ انفتاح كاشف يبسطُ وجوداً كُلِّيّاً في كُلِّ طريقة وجود جديدة؟
يقترِحُ هيدغر أنْ ينهَضَ (الدازين Dasein) بهذه الوظيفة الأنطولوجية، و”الدازين هوَ كينونة الهُناك، أو الهوَذاك، أو الهوَذا، أو الوجود _ هُناك، أو الوجود المُتعيِّن، أو الوجود _في_ العالم، أو الوجود المُتمثِّل في حالة الإنسان من زاوية وجوده، وطرُق كينونته، أو (كينونة الإنسان) بوصفها أفُقَ وجود” (الصفحات 22_23_24). فلا كينونة إلّا حيثُ يكون هناك دازين (انظر الصفحة 24)، و”هذا مُؤشِّر واضح على تلازُم بِنيوي وعُضوي بين الكينونة والدازين” (الصفحة 25)، ذلكَ أنَّ للدازين قيمة مُعيَّنة تكمنُ في أنَّهُ يَفْهَمُ ذاتَهُ على الدَّوام انطلاقاً من وجوده؛ ومن إمكان ذاته؛ أي أن يكون أو لا يكون ذاته، فهوَ الكائن الذي هوَ نحنُ أنفسنا في كُلِّ مرّة (انظر الصفحة 25)، وإمكانيّات وجود الدازين الخاصّة به إمّا أنْ يكونَ قد اختارَها بنفسه، أو أنَّهُ قد وقَعَ فيها، أو أنَّهُ قد نشأ عليها منذ أوّل أمره (انظر الصفحة 26).
وبما أنَّ التحليلية الأنطولوجية للدازين هيَ التي تشكِّلُ الأنطولوجيا الأساسية، وأنَّ الدازين يقوم مقام الكائن الذي ينبغي أنْ يُسائِلَ عن كينونته من حيث الأصل (انظر الصفحة 68)، لهذا فهو إلى جانب امتلاكه إمكانية أنْ يكونَ مع نفسه، يكونُ أيضاً مع غيره؛ أي إنَّ كينونة الدازين هيَ كينونة _في_ العالم، ووجود في قلب الحياة الإنسانية، ومُلاقاة للآخرين، وانهماك بالعالم، وانشغال باحتمالاته (انظر الصفحتين 28_29).
وفي هذا الإطار، لا ينفصل مفهوم (الدازين) عند هيدغر عن مفهوم (الجسم) و(الجسَد)، فالعلاقة بين هذين الأخيرين مُرتبطة بحُضور الدازين عبر فَهمه للهُنا الخاصّ به انطلاقاً من هُنالكَ التي داخِل العالم المُحيط، بحيث يكونُ انشغال الدازين بما هوَ وجود الموجود في العالم مُتَّصِلاً بنمَطٍ ما للكينونة _في_ العالم(انظر الصفحة 104)، فهيدغر بهذا التَّوجُّه قد دشَّنَ قطيعة فلسفية عندما تجاوَزَ ثنائيات الفكر الفلسفي القديمة التي ترى في الإنسان جسماً وروحاً، أو جسماً ونفْساً تكاد تكون مُنفصِلة برأسِها، في حين نظَرَ هوَ إلى كينونة الإنسان بوصفها وَحدة واحدة (انظر الصفحة 99)؛ أي “إنَّ السُّؤال حسبَ هيدغر يتعلَّق بكينونة الإنسان في جُملته (انظر الصفحة 99)، و”كينونة الكُلّ تُؤسِّسُ لكينونة الإنسان بوصفه وَحدة واحدة في بِنيته الجسمية والنَّفسيّة والروحية” (الصفحة 100).
وهُنا يُفرِّق هيدغر بين (الجسم) بوصفه عضواً حيوانياً لحميّاً أو غضروفيّاً أو عظميّاً أو مائيّاً، و(الجسَد) في ماهيَّته بوصفه وجوداً (انظر الصفحة 101)، مُتجاوِزاً مفهوم (الجسم) لصالح الحديث عن جسَديّة كينونة الإنسان التي احتفى بها، لاعتقاده أنَّ الكائن الإنساني هوَ وحده الذي يمتلكُ عالماً (انظر الصفحتين 101_102)، فـَ “الجسَد الهيدغري هوَ (جسَد أنطولوجيّ) غير مُنفصِل عن كونه الذي لهُ، وعن العالم الذي يُحيطُ به ويُوجَد فيه” (الصفحة 109)، واحتفاء هيدغر بالدازين بوصفه وجوداً مُتحقِّقاً أنطولوجيّاً أكثر من احتفائه بوجوده المُتجسِّد مادّيّاً (انظر الصفحة 110)، لا يعني أنَّ “(الجسم) الذي يتأمَّلُهُ هيدغر ميتافيزيقيّ الوجود أو مُفارِق الوجود، بل هوَ ذاكَ الذي يُوجَدُ هُناكَ، جسم مادّي منظوراً إليه وفقَ أنطولوجيَّتِهِ التي له” (الصفحة 110).
ما من شكّ أنَّ هيدغر يتجاوَز عبرَ مفهوم (الدازين) ثنائيّة (الذات _ الموضوع) بضربة واحدة فريدة إذا صحَّ التعبير، ذلكَ أنَّهُ يُشخِّص (العالم) والأشياء بوصفهما كوناً واحداً من دون الفصل بينهما على طريقة الذاتي والموضوعي، فليسَ للعالم والأشياء حُضوران مُنفصِلان؛ إنَّما يَحضر كُلّ منهُما عبرَ الآخَر، وبه، وعبرَه تخلُّلهما هذا يقومان بتخليق وسَط يتحدان فيه اتّحاداً حميماً هوَ اتّحاد الكينونة والوجود (انظر الصفحتين 84_85)؛ إذ إنَّ “الاختلاف يحمل (العالم) على اكتمال انبساطه بوصفه عالماً، ويحمل (الأشياء) على اكتمال تفتُّحها بوصفها أشياء، وعبرَ ذلكَ يحمل (الاختلاف) واحدهما إلى حُضور الآخَر” (الصفحة 85).
ولفَهم معنى هذا (الاختلاف)، لابُدَّ من فَهم (الكينونة) نفسها، وصِلَتِها بالحُضور والغِياب، وهوَ الأمر الذي يتمُّ عند هيدغر انطلاقاً من تجاوُز منطق الثنائيّات التَّقابُليّة في الميتافيزيقا التّقليديّة عبرَ رُؤية جديدة للكينونة تُوَحِّدُ بينَ الوجود والعدَم في أساليب انبساط الدازين في عالمه؛ فهيدغر يتجاوَز في الأنطولوجيا الأساسيّة مسألة (اللّا) أو النَّفي، كاللّاوجود واللّاكينونة، حيث إنَّ الفرق بمعنى الاختلاف كامِنٌ في الوجود نفسه الذي يضمُّ وجودَهُ وعدَمَهُ في آنٍ واحد، فلا يُمكِنُ الظفَر بحُضور الفرق أو الاختلاف بين الوجود والموجود إلّا عبر قفز لوجودنا الخاصّ إلى الإمكانيات الأساسيّة للكينونة في كُلِّيَّتِها (انظر الصفحتين 73_74)، وهُنا يرى هيدغر أنَّ العدم هوَ الذي يسمَحُ بتجلّي الكائن بما هوَ (أي العدَم) قارّ في الكينونة البشريّة، وبما هوَ ليسَ مَفهوماً مُضادّاً للكائن؛ إنَّما بما هوَ ينتمي أصلاً إلى حُدوث الكينونة، ويحدث في كينونة الكائن نفسه (انظر الصفحة 73)، وهذا الحُدوث للعدم عبر حُضور الكينونة يتمُّ بوصفه استجابة الكائن لنداء هذه الكينونة (انظر الصفحة 84)، وهذا النداء بما هوَ استدعاء لحُضور الدازين الذي تحضرُ عبرهُ الكينونة، لا يعني حُضوراً تامّاً، بقدر ما يعني احتفاظ الكينونة بغِيابها في الوقت نفسه، ذلكَ أنَّهُ “في النِّداء، الذي يستدعي الشيء والعالم، ما هوَ مُنادَى بالفعل، وهذا (المُنادَى) هوَ (الاختلاف)” (الصفحة 86).
وهكذا، يرى هيدغر أنَّ الوجود ليسَ “كينونة جاهِزة أو ماثِلة أمامَنا، وإنْ كانَ ذلكَ، كما أنَّهُ ليسَ عالَماً مُنغلِقاً عصيَّ الإدراك والفَهم، وإنْ كانَ يبدو كذلكَ أيضاً؛ فبمجرَّد فكّ أسْر الوجود عن الجدران الميتافيزيقية المُفارِقة يُصبِحُ مُمكِناً التعامُل مع الوجود بوصفه كينونة تتجلّى عبرَ مَراتِبَ وطبقاتٍ مُتعدِّدة” (الصفحتان 21_22)، ويُمكِنُ تفسير هذه الرؤية المُرَكَّبة لعلاقة الحُضور والغِياب بينَ الكينونة والكائن عبرَ فَهم توسُّل هيدغر الطريق إلى الموجود بوصفه وجوداً (أساليبُ وجودٍ في العالم) عبرَ الكينونة المُتوارِية في رُقادِها الطويل، والتي لم تستفق منه بعدُ لكي تنظُرَ إلينا، ونتعرَّف نحنُ إليها في تجلِّياتها. ولكنْ، وعلى الرغم من رُقاد الكينونة، فإنَّ الكينونة لن تبقى مَحجوبة أبدَ الدَّهر؛ ذلكَ أنَّ الموجودات التي تظهَرُ أمامَنا تُحقِّقُ، ضمناً، ظُهوراً ما للكينونة، ويحدث هذا الأمر في حياتنا اليومية التي نعيشُها كُلَّ لحظةٍ، ويضرب هيدغر مثالاً على ذلكَ بظُهور العُشب والخُضرة في الحَدائِق والمَزارِع والحُقول والغابات؛ فعندما ينبتُ العُشبُ الأخضر في الحقل، وتَظهَرُ الحُقول خضراء، تتجلَّى قدرة الطبيعة وحيويتها عبرَ هذا الظُّهور، لكنَّنا نتنزَّهُ في الحُقول الخضراء من دون أنْ تظهَرَ لنا الطبيعة نفسَها بوصفها طبيعة، وحتَّى حينما نشعر بحُضور الطبيعة الحيّ، نُدرِكُ هذا الشُّعور في تصوُّرٍ أو حتَّى في مَفهومٍ يُحدِّدُهُ، ليظلُّ جوهَرُ الطبيعةِ مَحجوباً من حيث هوَ كينونة. أمّا اختفاء الكينونة هذه فهوَ، في الوقت نفسه، الطَّريقة التي بها تلتفِتُ إلينا _الكينونة نفسُها_ أو تنتشِرُ أمامَنا في الموجود كالخُضرة والعُشب (انظر الصفحتين 31_32).
وعلى هذا النَّحو، “يتَّضِحُ التَّلازُمُ بين وجود الكينونة والكائنات التي تُجلي الكينونة وتُظهِرُها ماثلةً في حُضورٍ ما، فكُلُّ مفعولٍ إنَّما يكون (انبناؤه) في الكينونة، وينبعث (في أو إلى) الكائن؛ وهوَ تلازمٌ من شأنِهِ تأصيل العلاقة بينَ الطّرفيْن من دون أنْ يتركَ هيدغر أي مَجال لسطوة أحدِهِما على الآخَر في الظُّهورِ والتَّجلِّي والحُضور، حيثُ تقبَعُ أو تثوي في كُلُّ كائنٍ أو موجود أو أي شيء (كالعُشب والخُضرة) كينونَتَهُ القابلة للتَّخارُج (انظر الصفحة 35)، ولذلكَ قال هيدغر ينبغي البَحث عن كُلِّيّة الكينونة فيما وراء جنس الكائن؛ فالكينونة، وبِنية الكينونة، تقعان ما وراء كُلّ كائن (انظر الصفحتان 35_36)؛ وكينونة العُشب تكمن وراء العُشب بوصفه كائناً، وكينونة الخُضرة تكمن وراء ما هوَ أخضر اللّون بوصفه كائناً (انظر الصفحة 36).
ويبدو أنَّ هذا الفَهم المُركَّب قد دفَع هيدغر كي يؤكِّد _وهوَ يُعيدُ اكتشاف الكينونة وقراءَتَها على نحوٍ مُغايِرٍ؛ أي بوصفها حقيقة مُتوارية لكنَّها مُندسَّة على نحوٍ تلقائيٍّ في كُلِّ ما يُحيطُ بنا، حتَّى لو كانتْ مَحجوبةً عنّا_ أنَّ هذه الكينونة لا تُستنبَطُ من جهة التَّصوُّرات العُليا، ولا تُستعرَضُمن جهة التَّصوُّرات الدُّنيا؛ إنَّما ينبغي النَّظَر إلى ماهية الكينونة بوصفها تصوُّراً مَفهوماً بنفسه (انظر الصفحة 34). فالكينونة مُفترَضةٌ سلَفاً في كُلِّ أنطولوجيا، وهيَ أوسَعُ مدىً من أيِّ كائنٍ، إذ ليستْ كينونة الكائن بحدِّ ذاتها كائناً، وهيَ المسألة التي تعني أنَّ خُضرة عُشب الحقل هيَ كائنات وموجودات وأشياء تُخفي كينوناتها، لكنَّ كينوناتها تلك ليستْ في ذاتها هيَ الكائنات أو الأشياء أو الموجودات، وهذا لا يتناقض مع توجُّه هيدغر القائل بأنَّ الكائن يُمكِنُ أنْ يتعيَّنَ في كينونته، بمعنى أنَّ كينونة خُضرة الحقل مثلاً يُمكِنُ أنْ تُعيَّنَ من جانب الطبيعة في الحقل، ولا سيما أنَّ الكينونة هي في كُلِّ مرّة انفتاحَ كينونةِ كائنٍ ما (انظر الصفحة 35).
لهذا لا تكونُ الكينونةُ ذات ماهيّة مُسَبَّقة ثاوية خلف الوجود أو الموجود على طريقة أفلاطون وديكارت وبقيّة المثاليين، لكونها تنبسِطُ أنطولوجيّاً عبرَ انفتاح فضاءاتها على نحوٍ تواصُليّ، وتُكوِّنُ بعضَها بعضاً من باب الخروج والانكشاف والتَّجلّي (انظر الصفحة 53)، وبمعنىً أوضَح، تظهَرُ الكينونةُ في كُلِّ مرّة في أساليب أو كيفيّات وجود جديدة تنطوي على إمكانيات حُضورٍ وكشفٍ بما هيَ إمكانيّات تبسطُ وسيطاً علاماتيّاً حسبَ هيدغر، وهوَ وسيطٌ غير مُباشَر، أو هوَ توسُّطٌ (انظر الصفحتين 42_43)؛ فمثلاً “ما يعتمِلُ داخِلَ الجسم من خللٍ بيولوجيٍّ يتوسَّلُ بما لهُ من إمكانيّة كشف غير المكشوف، فغير المكشوف، أو غير المُنكشِف، هوَ حالة مُتوارِية عَنِ الأنظار، ثاوية وقابعة في داخِلٍ ما، حالة غير قادرة على الانكشاف بنفسِها، وفي نفسِها، فتتوسَّلُ بعلامةٍ تُظهِرُها، وتُحقِّقُ ظُهورَها، أو بعض ظُهورِها. إنَّهُ نظام استعاضي واستعاني مِنَ الظُّهور حتَّى لتبدو العلاماتُ أو الشيء الوسيط _العلامة_ الذي من شأنِهِ الانكشاف لتوصيل ما يُريدُ إشهارَهُ والإنباء عنه عندَ الألم أو العُطل البيولوجيّ أو الحَيَاوي الثاوي في الدّاخِل؛ أي: ذلكَ الدّاخِل الذي يَرومُ الانكشافَ عبر وسيط علاماتي أو عبرَ توجُّدٍ علاماتي” (الصفحة 43).
إنَّ كُلّ علامة تمتلِكُ في داخِلِها مُحيلاً يُنبئُ عن حالة خاصّة به، وبذلكَ فهوَ مُرسِل لإيصال رسالة يُريدُ أنْ يتوجَّدَ بها (انظر الصفحة 43)، “وهذا المُحيل، إذا ما أنبأَ بذاتِهِ، وعلى نحوٍ مُنكشِف أو غير مَحجوب بذاته، فإنَّهُ سيكونُ فينوماناً أصليّاً يُعبِّرُ عن كينونته ورسالته الأصليّة في الظُّهور التام والحُضور الشّامِل إذا رامَ ذلكَ أصالةً؛ أمّا إذا لم ينكشِف بنفسه، فعندها سيلجأ عبرَ التَّوجُّد العلاماتي إلى علامات؛ علامات تُعبِّرُ عن كينونته ورسالته وطُموحه في التَّوجُّد والحُضور، وهوَ تعبير لا يمتلِكُ من الأصالة سوى وجهاً من وجوهها؛ فالقمَر وهوَ هلال ليسَ هوَ كُلّ القمَر، ما يعني أنَّ المُحيل لغيره _القمَر_ لهُ إمكانيّة الانكشاف سواء أكان ذلكَ على نحوٍ أصيل، أو غير أصيل، وانتفاء الأصالة في أيِّ انكشاف لا يعني انتفاء الحاجة إلى الوسيط العلاماتي أو العلامات” (الصفحتان 43_44).
لعلَّ فَهم هيدغر لـِ (اللّوغوس) من أهمّ الأسُس الجديدة التي بنى عليها رُؤيتَه المُغايِرة لمسألة الكينونة بين الحُضور والغِياب؛ فهوَ يبتعِدُ في نقاشه لمفهوم اللوغوس “عن فَهمه في ضوء فكرة المُطابَقة بينَ الحقيقي وغير الحقيقي، أو بينَ الصّادِقِ والكاذِبِ، (…) ويقترِبُ من فَهمه الخاصّ به في ضوء ثنائيّة الانحجاب والانكشاف، وهيَ جدَليّة _وإن كانَ هيدغر لا يُحِبُّ هذه المُفرَدة_ تتطلَّبُ المَزيدَ من حالات التَّرائي، والتَّمظهُر، والإبصار، والتَّسمُّع، وكلُّها تجلّيات للعُنصُر الفيزيائيّ كما نراهُ ونحِسُّ به في العالم الخارجيّ التي تداهِمُنا كينونتُهُ مَحجوبةً مرَّةً ومُتنكِّرَةً مرَّةً أُخرى في ظُهورِها، والإيضاحُ لا يُعالَجُ إلّا “ضمنَ إبانةٍ وإشارةٍ” (الصفحة 44).
وبهذا الشكل، يَستنبِطُ هيدغر الفروق بينَ الحُضور والغِياب عبر سَبْرِهِ للفروق بينَ “الذي ينكشِفُ واللّا_مُنكشِف، ويجعَلُ من (المَظاهِرِ المَرَضيّة) التي تعرض لكائنٍ ما، وليكُن الإنسان الذي تظهَرُ عليه تورُّمات في جسَدِهِ، تلكَ المَظاهِر العليلة تنكشِفُ لنا مرئيّاً بوصفها علامات دالّة على مُتغيِّرٍ جسَديٍّ ما، مُتغيِّر مُضمَر ألا وهوَ تلكَ الاضطرابات البيولوجيّة القارّة في داخِلِ الجسم التي تظهَرُ بوصفها علاماتٍ في سطح الجسَد من دون أنْ تكونَ مُنكشِفة بذاتَها” (الصفحة 42). ولذلكَ يعتقد هيدغر أنَّ المظهَرَ الذي هوَ مظهَرٌ عن شيء ما، لا يدلُّ على أنَّ شيئاً قد انكشَفَ بذاته؛ إنَّما هوَ يُنبِئُ بشيء ما، لا ينكشِف أو لا يكشف عن نفسه، عبر شيء ما من شأنه أنْ ينكشِف أو يكشِف عن نفسه، ذلكَ أنَّ التَّمظهُرَ هوَ ضَرْبٌ مِنَ اللّا_انكشاف، أو هوَ انكشافٌ منقوص (انظر الصفحة 42).
لقد حرص هيدغر على الإبقاء على العلامات بوصفها كينونة فلسفيّة، وليسَتْ مجرَّد كينونة لُغويّة أو حتَّى ذهنيّة سابِحة في فضاء الذات البشريّة من دون بناء وجوديّ (انظر الصفحة 68)، فكينونة الكائنات في انكشافها أو اختفائها، أو في تجلِّيها وتواريها مُرتبِط عُضويّاً بكينونتها _في_ العالم، وبوجود الكائن داخِل العالم (انظر الصفحة 45)، وهذه (العلامة _ الكينونة) المَطبوعة بطابع الظُّهور الأنطولوجيّ ليسَتْ قَبْليّة الهُوِيّة، إنَّما بَعديّة عبرَ تَوَجُّدِها الذي لا يتضمَّنُ أيَّ تكريسٍ ماهوي مُسَبَّق (انظر الصفحة 66)، ولذلكَ عرَّفَ هيدغر “العلامة بأنَّها أداة إشاريّة. ويُمكِنُ القولُ عَنِ الإشارة إنَّها الطابع الأداتيّ للعلامة، وأنَّ فعل الإشارة، وهيَ تظهَرُ، يُمارِسُ نمَطاً مِنَ الإحالة؛ فارتداء الثوب الأسوَد اللَّون هوَ علامة على الحُزن لوفاة شخصٍ ما نحبُّهُ ونشعرُ بافتقادِهِ عندما رحَلَ، وقد يكونُ في ارتداءِ الثوب الأسوَدِ اللَّون تضمينٌ دلاليٌّ للموضة أو الإثارة إذا ما كانَ مُنسجِماً معَ بشرةِ مُستخدِمِهِ” (الصفحة 56).
لكنَّ ظُهور الطابع الأداتيّ للعلامة لا يتحقَّق إلّا عبرَ فكرة (التَّلاقي) المُرتبطة بفكرة (الانشغال)؛ ذلكَ أنَّ كلتاهُما تُشيرُ إلى حالةِ الفعل المُلاقي، أو الفعل المُنشغِل، فلكي نفتَحَ باباً ما، لابُدَّ مِنْ أنْ نمسكَ مِقبَضَهِ، ومسْكُ مِقبَضِ البابِ هوَ انشغالٌ وتلاقٍ بينَ عُنصُرَي حالة. ويُسمّي هيدغر الكائنَ الذي يُلاقينا عندَ الانشغال بـِ (الأداة)؛ فعندما تكونُ الكتابةُ انشغالاً يكونُ القلَمُ أداتَها، والمخيط أداة الخِياطة…إلخ. غير أنَّ هيدغر ينتقِلُ مِنَ الأداة نحوَ فكرة (الأداتيّة) بوصفها نمَطَ كينونة في عالم الانشغال والمُلاقاة والتَّلاقي، فهوَ يُريدُ وَصْفَ نمَطِ كينونةِ الأشياءِ التي تُستعمَلُ مِنْ قِبَلِنا _بما نحنُ كائناتٍ يوميّة_ داخِلَ حقلِ انشِغالٍ عينيٍّ هوَ نفسُهُ نمَطٌ مِنَ الفَهم لمَعنى الكينونة في العالم” (انظر الصفحتين 47_48).
وهذا النَّمَط مِنْ فَهمِ (الأداة) عبرَ مُلاقاتِها والانشغال بها بوصفه فَهماً لمَعنى الكينونة في العالم يدفَعُ هيدغر كي يُسمّي “جنسَ كينونةِ الأداةِ بـِ (الكينونة _تحتَ_ اليد)” (الصفحة 49)؛ ففي عالم (الكينونة _تحتَ_ اليد) يتجاوَزُ هيدغر فكرةَ (التَّحديق) في ما هوَ تحتَ اليدِ مِنْ أدواتٍ مُنشغِلة بها اليد إلى (الإحاطة أو التَّبصُّر)، فكينونة (ما _تحتَ_ اليد) لا تنكشِفُ بمُجرَّدِ التَّحديقِ المُباشَرِ في جسْميَّةِ أدواتِ ما تحتَ اليدِ أو حتَّى في حركتِها ونشاطِها؛ إنَّما عبرَ نمَطِ معرفةٍ هوَ نمَطُ الإبصار الخاصّ بِهِ الذي يُزوِّدُها بالثِّقة النَّوْعيّة التي لها، ويجعَلُ كينونةَ ما تحتَ اليدِ أصيلة في حُضورِها تبعاً للمُمارَسة التي تجعَلُنا نُلاقي (كينونة_ما_تحتَ_اليد) على نحوٍ أصيلٍ وحقيقيٍّ وفقَ إحالات مُتبادَلة مِنَ التَّلاقي المُبصِر بينَ الإنسان والأداة (انظر الصفحة 50).
ومِنَ المُهمّ في هذا السِّياق أنْ نعِيَ أنَّ (الأداة) بحدِّ ذاتها لا يُمكِنُ أنْ تكونَ (علامةً)، لكنَّ (العلامة) تُشارِكُ الأداةَ في أداتيتها، فالمطرقة مثلاً لا يُمكِنُ أنْ تكونَ علامةً؛ ذلكَ أنَّ العلامة بوصفها أداةً لا تُصبِحُ علامةً ذات قيمة إلّا عندما تتحوَّلُ أداتيتُها إلى وظيفةِ إشارة (انظر الصفحة 57) كما ذكرْنا مِنْ قبل. وهذا التَّحوُّلُ يتأتَّى عن طريق العمَل تحديداً (انظر الصفحة 50)، حيث يبدأُ رفْعُ الحِجابِ عَنِ الغائبِ، وإحضارُهُ إلى الوجودِ عبرَ “بِنيةِ الإحالاتِ؛ فإنتاجُ الحذاءِ غايتُهُ الانتعال، انتعال الحذاء، وتلكَ علاقة إحالة، وإنتاجُ السّاعةِ غايتُهُ قراءةُ الوقت، وتلكَ علاقة إحالة، ففي العمَلِ والإنتاجِ تتجسَّدُ الإحالةُ في الوقت نفسه إلى المواد الموجودة في العالم المُحيط بنا في قيمومَتِها المَحضة التي لها بذاتها؛ المواد التي يُرفَعُ عنها الحِجابُ عبرَ إبصارِ وفَهْمِ وإدراكِ كينونتِها بالخُروج التَّدريجيّ (لكينونتِها)، وعبرَ نفاذٍ مُتبصِّرٍ لإحالاتٍ مُتنوِّعة، فعندما نستخدِمُ (ساعةَ اليدِ) لقراءةِ الوقت، تكونُ طبيعةُ العالم _ المُحيط هيَ أيضاً _تحتَ_ اليدِ، ويجري ذلكَ في تعاضُدٍ ضِمنيٍّ” (الصفحتان 50_51).
إنَّ مُجاوَزةَ هيدغر لفَهْمِ (العالم) بمَعناه المُعتاد بوصفه مُجرَّد الوجود الطَّبيعيّ المَنظور على نحوٍ مُباشَرٍ، أو بمعناه الأنطيقيّ الخاصّ بالموجودات العينيّة ذاتِ الحُضور القائمِ أمامَنا في العالم على طريقةِ (ما_ينتمي_إلى العالم)، أو على طريقةِ (ما_هوَ_داخِل_العالم)، وفَهْمِهِ بوصفه (طريقةَ كينونةٍ يوميّةٍ مِنْ شَأنِ الدازين)، وذلكَ بالاعتمادِ الظواهريِّ على هذه الطريقة؛ يعني أنَّهُ ينبغي لشيءٍ ما مِنْ قَبيلِ العالمِ أنْ يتأتَّى للبصَرِ بطريقِ تأويلٍ أنطولوجيٍّ للكائنِ المُلاقي داخِلَ العالم المُحيط؛ أي بطريقِ التَّعامُلِ داخِلَ العالم ومعَ الكائِنِ الذي داخِلَ العالمِ بما هوَ انشِغالٌ بوازِعِ السُّؤالِ الفينومينولوجيّ المُنْصَبِّ على كينونةِ كائنٍ يُلاقينا كُلَّ مرَّةٍ ضِمْنَ انشغالٍ ما (انظر الصفحات 45_46_47).
ما مِنْ شكٍّ أنَّ هيدغر قد قدَّمَ جُمْلةً مِنَ الرُّؤى المُبتكَرة التي منحَتْهُ جِدَّتَهُ في فَهْمِ الكينونةِ بوصفه فَهْماً يتجاوَزُ عبرَهُ النَّظَرَةَ إلى ثُنائيَّةِ (الحُضور _ الغِياب) نظَرةً تقليديّةً تقابُليّةً ميتافيزيقيّةً، وهوَ الأمرُ الذي تحقَّقَ بوُلوجِ هيدغر إلى عالمِ الكينونةِ عبرَ تجلِّياتِها الأنطولوجيّة التَّداوُليّة وفقَ مَداخِلَ ثلاثة هيَ: المدخل الأنطولوجيّ، والمدخل الفينومينولوجيّ، والمدخل الهيرمينوطيقيّ (انظر الصفحة 19)، وهذهِ مسألةٌ مُتراكِبةٌ وغنيّةٌ وتحتاجُ باعتقادي إلى مَزيدٍ مِنَ البَحْثِ والتَّوسُّعِ والتَّقصِّي في قراءاتٍ قادِمة أطمَحُ _رُبَّما_ إلى الخوضِ فيها في قادِمِ الأيّام.