نيتشه فيلسوف غني عن التعريف، افتتح بمقولاته المبدعة عن العود الأبدي، وإرادة القوة، والنزعة العدمية، عصراً فلسفياً جديداً، سمي ما بعد الحداثة، كان فيها الإنسان مبدعاً خالقاً للحقيقية لا عبداً مطيعاً لها.
استطاع نيتشه بنزعته الما بعد حداثوية أن ينقد الثوابت الفلسفية التي اعتاد عليها العقل الفلسفي منذ المرحلة اليونانية، والتي لم تتجلى في هدم شكل التفكير الفلسفي المعتمد على النسق كسمة لصيقة به تميز التفكير الفلسفي عن غيره فحسب، وإنما أيضاً قد نقد مضمون هذا التفكير الأوربي منذ البدء الأفلاطوني حتى هيغل، الذي يقيم نسقه على مقولة العقل أو الأوثان الخالدة – بالتعبير النيتشوي- والذي أنتج الفكر العقلاني، بوصفه مصدر الكوراث أو الأزمات التي يعانيها الفكر الأوربي، من خلال دعوته إلى محاربة الحياة عبر الأقيسة المنطقية، والأساليب النظرية المحضة.
وعلى الرغم من كل ما يقال بأن الوضوح يلف النصوص النيتشوية، فإن نيتشه نفسه يخشى من سوء الفهم لنصوصه، وهذا ما شكا منه نيتشه في عصره، ولعل أهم مظاهر سوء الفهم هو تحوير فكره إلى معتقد أو منزع أو حتى مذهب سابق، لأنه أول من رفض هذا التصنيف وحاربه، حتى أن البعض يحاول أن يقيم مقاربة تلفيقية بين مقولة نيتشه الإنسان الأعلى، وبين النظام الفاشي في ألمانيا أيام هتلر، الذي قام على أساس عنصري محض.
وفي واحدة من أكثر القراءات الكتابات إكسترا على موقع الأوان لثلاث مقالات معنونة بـ “نيتشه والفلسفة اليونانية” عن طاليس وانكسمنيدس وهيراقليطس، للكاتب “فادي كحلوس”، ومقالتين أخريين تخصان فكر نيتشه للكاتب نفسه، سنركز اهتمامنا على المقالات التي تخص الفلسفة اليونانية لأنها نموذجاً لقراءة نيتشه لتلك الفلسفة. فالقارئ لهذه المقالات دون على الاطلاع على نصوص نيتشه يفاجأ بلغة فلسفية مصوغة بطريقة دقيقة قل نظيرها في الكتابة الفلسفية. وما يفسر هذا المستوى الراقي في طريقة التفكير أو شكل الكتابة ليس عبقرية الكاتب فادي كحلوس، إنما هو نيتشه نفسه، لأن – فادي كحلوس- لم يقم سوى نقل النص من كتاب الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي لنيتشه، إلى مقالات على الموقع المذكور كلمة بكلمة وحرفاً بحرف حذو النعل بالنعل بلغة القدماء، أو النسخ واللصق بلغة الكمبيوتر.
فالمقالة الأولى المعنونة بـ “نيتشه والفلسفة اليونانية طاليس” مأخوذة كاملة من الكتاب المذكور من الصفحات 46- 50. فالكاتب لا يكتفي بتغيير بعض الكلمات لينسب الفكرة لنفسه من مثل “لا يعتقد نيتشه أن هذه الفرضية ما زالت تحتوي على طريقة في الحقيقة”، في حين يقول نيتشه في الكتاب المذكور “أنا لا أعتقد أن هذه الفرضية ما زالت تحتوي على طريقة في الحقيقة” ص47، بل يحذف بعض الأسطر المهمة التي تلقي الضوء على الفكرة من وجهة نظر نيتشه. بمعنى أنه لجأ إلى تشويه النص من خلال حذف كلمات أو حتى الجمل المهمة التي يصل إليها الاستنتاج النيتشوي. فعلى سبيل المثال لا الحصر – لأنها كثيرة – عندما يقول “الكاتب” والكلام لنيتشه طبعاً: قال طاليس إن الماء أصل الأرض لكنّا أمام فرضية علمية خاطئة، رغم صعوبة دحضها بعرضه هذا التمثل الوحداني القائم فرضية الماء. لكننا عندما نعود إلى النص الأصلي نجد أن “الكاتب” يحذف النتيجة المهمة المستخلصة وهي كالآتي: قال طاليس إن الماء أصل الأرض لكنّا أمام فرضية علمية خاطئة، رغم صعوبة دحضها ولكنه يتخطى الإطار العلمي المحض بعرضه هذا التمثل الوحداني القائم فرضية الماء، ص46. أم المقالة الثانية المعنونة بـ “نيتشه والفلسفة اليونانية انكسمينديس”، وهي مسروقة مباشرة بعد الصفحات المقالة السابقة، وقد جاءت من الصفحة 50- 53، فإن “الباحث” يسطو على هذه الصفحات كاملة، ولا يحذف سوى ثمانية أسطر من هذه الصفحات، كونها فقط تناسب حجم مقالة في الموقع المذكور. والأمر مع المقالة الثالثة ب “الفلسفة اليونانية هيراقليطس” كالأمر مع شقيقتيها السابقتين، فيبدأ اللصق مع التشويه من الصفحة 54 و55، ثم يحذف الصفحة 56 و57، ليتابع سطوه مع حذف سطر أو سطرين حتى الصفحة 61، ليحذف أكثر من خمس عشرة سطراً، ليصل الصفحة 62، ليسرق حوالي خمسة أسطر. ولما كان عدد الصفحات في الكتاب المذكور لا يناسب حجم مقالة، فإن صاحبنا يلجأ إلى حذف الصفحات الثلاث المتبقية من موقف نيتشه من هيراقليطس، لتتناسب وشروط النشر بل “النشل”.
وما يثير الانتباه حقاً هو عدم قدرة الكاتب على إضافة أي فكرة أو تحليل لأي جملة في النص، أو حتى شرح بسيط أو تعليق على كلام نيتشه، لأن عدد الكلمات التي يقدمها “الكاتب” لا يتجاوز أصابع اليدين، من مثل: يقول نيتشه، يعتقد نيتشه، يرى نيتشه، يتساءل نيتشه، يجيب نيتشه، اعتبر نيتشه، في هذا المضمار يدعو نيتشه، محاولاً إيهامنا أن الكلام السابق أو اللاحق هو كلام “الكاتب” نفسه، على الرغم من حفاظه على نفس تنسيق الأفكار في بدايتها أو نهايتها، كما هي موجودة في كتاب الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي.
أخيراً، أهم ما يوصف به نيتشه، بأنه الفيلسوف الشجاع الذي لا يخشى في أفكاره لومة لائم من سلطة سياسية أو دينية أو اجتماعية أو حتى أخلاقية، فكان هو ذاته، يعبر عنها كما يريد، لا كما يريده الآخرون منه، من هنا نقول “للكاتب” يجب على المرء أن يكون هو ذاته لا غيره حتى ولو كان نيتشه، لأن الروح الفلسفية تقوم على التجاوز والإبداع للأفكار السابقة مهما أدعت مماهاتها للحقيقة.
محمد نور النمر : باحث من سوريا – ماجستير في الفلسفة