أقلام فكرية
باريمندس وميتافيزيقا الوجود
[size=18]د. جميل حمداوي[/size]
المقدمـة: يعد باريمندس (Parménide) من أهم الفلاسفة الأنطولوجيين الذين اشتهروا بميتافيزيقا الوجود، إذ خصها بقصيدة شعرية تعنى بالطرائق التي يدرك بها الوجود الكائن، وتحمل هذه القصيدة المقطعية أو الشذرية مجموعة من التصورات التي تتخطى نطاق الطبيعة والحس والمادة إلى ماوراء الطبيعة، بمناقشة مواضيع مؤرقة جدا، مثل: موضوع الوجود، وموضوع الألوهية، وموضوع النفس، وموضوع الحركة والسكون، وموضوع المعرفة...ويلاحظ أن فلسفة باريمندس قد تجاوزت فلسفة العلل المادية الأولى التي كانت عند طاليس، وأنكسمنس، وأنكسمندرس، وأمبادوقليس، وهراقليطس... لتركز على وحدة الوجود، والإيمان بوجود الله الذي يتوسط الكون والمخلوقات، ويتوحد مع الموجودات والأشياء. إذاً، من هو باريمندس؟ وما أهم تصوراته الأنطولوجية والميتافيزيقية؟ وما طبيعة كتابته الفلسفية؟ وما أهم المآخذ على فلسفته ؟هذه هي أهم التساؤلات التي سوف نتوقف عندها بالرصد والتحليل والتقويم.
من هـــو باريمندس؟
عاش باريمندس(Parménide) في جنوب إيطاليا وصقلية، وولد فيما بين عامي 515 و510 قبل الميلاد، وفي رواية أخرى سنة 540قبل الميلاد، وتوفي في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد. ولا نعرف عن حياته الشيء الكثير سوى مقتطفات هنا وهناك. وقد نشأ في أسرة غنية ومحظوظة ومشهورة بحسبها ونسبها وجاهها وعلمها. وفي هذا السياق، يقول الدكتور نجيب بلدي:" أما باريمندس فقد كان أيضا حكيم المدينة التي عاش فيها، ويمكن أن نقول عنه أيضا إنه كان متكبرا، بل هناك كلمة أقوى في التعبير عن أرستقراطيته، وهي الأنفة، هذه الأنفة التي تتجلى في نفور باريمندس من التفسير الوضعي والعامي للوجود.إن الحكمة طريق مخالف لطريق المعرفة العامية، معرفة الجمهور، إنها هذه الأنفة وهذا التباعد..."[1]
ويعد أيضامن أهم الفلاسفة الأنطولوجيين اليونان الذين عاشوا قبل عصر سقراط، وقد تتلمذ على الفيتاغوريين، ولاسيما أمينيانس (Ameinias) وكسينوفان(Xénophane)، فقد نشأ في مدينة إيليا (Elea) بجنوب إيطاليا، وووضع لها قانونا تشريعيا كان مدار احترام الجميع . وقد أسس باريمندس المدرسة الإيلية التي تخرج منها زينون، وميليسوس، وجورجياس...
ويلاحظ أن فلاسفة المدرسة الإيلية " قد حولوا مسار البحث الفلسفي من البحث حول أصل العالم الطبيعي وتفسيره سواء من خلال العناصر الأربعة كما حاول ذلك الطبيعيون الأوائل، أو من خلال العدد كما فعل ذلك الفيتاغوريون، إلى البحث فيما وراء هذا العالم الطبيعي، إلى البحث في الوجود بما هو كذلك، أو بعبارة أخرى إلى البحث في ماهية الوجود ذاته."[2]
هذا، ولم ينضج باريمندس فكريا وفلسفيا إلآ في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد، وقد زار أثينا، واطلع على الفكر الفلسفي اليوناني، ولاسيما السقراطي منه[3]. وترتكز نظريته الفلسفية على الثبات والسكون، كما هو جلي في قصيدته (عن الطبيعة).أي: إن الوجود هو ثابت وساكن ومناقض للصائر والمتغير والمتحول. ومن ثم، فباريمندس فيلسوف الوجود الثابت الواحد الدائم والمستمر.
ومن حيث مؤلفاته الفلسفية، فقد ترك لنا باريمندس قصيدة شعرية شذريةمعروفة بقصيدة الوجود، وقد قال : "الوجود كائن، واللاوجود غير كائن".
وتنقسم قصيدته التي نظمها حول الوجود أو الطبيعة إلى قسمين رئيسيين هما: طريق الحق وطريق الظن، وتبتدىء القصيدة بمقدمة استهلالية ميثولوجية، يبين فيها باريمندس بأن شعره وحي رباني، استلهمه من ربة العدالة (ديك /Dike). في حين، كان الشعراء الآخرون يستهلون قصائدهم بالتبرك بآلهات متعددة أو بربات الشعر المتنوعة. ولم يبق من القصيدة سوى بعض المقاطع والشذرات القليلة التي تبلغ( 160) بيت شعري.
التصـــورات الفيزيائيــة:
يعد باريمندس أول فيلسوف يقول بكروية الأرض ضمن منظوره الطبيعي والفيزيائي، وأنها كرة مستديرة متصلة ومتكاملة في شكلها وحجمها، وتتموقع في وسط الكون. ومن ثم، يقسم الأشياء إلى : أرض ونار. كما طرح نظرية المناطق المناخية التي تتحكم في الكرة الأرضية، حيث قسمها إلى خمس مناطق: منطقتين قطبيتين باردتين لايمكن العيش فيهما، ومنطقتين معتدلتين يمكن العيش فيهما، ومنطقة فاصلة بينهما هي حارة جدا.
التصورات الميتافيزيقية:
لقد تناول باريمندس، في قصيدة الوجود، مجموعة من القضايا الفلسفية الميتافيزيقية والأنطولوجية، مثل: قضية الوجود، وقضية الألوهية، وقضية النفس الإنسانية، وقضية المعرفة.
فلسفـــة الوجـــود:
يميز باريمندس بين الوجود واللاوجود، فالوجود موجود، واللاوجود غير موجود. فلايعقل أن يصدر الوجود عن اللاوجود أو العدم، لأنه غير موجود أصلا، ولايدركه الفكر أو العقل.وقد نشأ الكون مكتملا وتاما وممتلئا. والفكر أساس الوجود، فبدون الوجود لايمكن الحديث عن الفكر، وبوجود الفكر يتحقق الوجود. ومن ثم، فالوجود لاماضي له ولامستقبل، فهو حاضر ثابت لايزول ولايتغير ولايتحرك. وبهذا، ينفي باريمندس الصيرورة الزمنية، والتغير الجدلي، والتحول التعاقبي، ويترتب عن ذلك غياب الفساد والتحول. وبالتالي، يكون الوجود والواحد متكافئين، إذ لايمكن الحديث عن الفراغ أو العدم أو التحرك أو التغير، بل العالم بمثابة وجود واحد ثابت، مستمر في ثباته الدائم، ينصهر فيه الجميع في إطار وحدة متكاملة وتامة ومنسجمة غير ناقصة، ولايوجود وجود آخر إلى جانب هذا الوجود الحقيقي.بل الوجود بمثابة كرة مستديرة متوازنة . ويعني هذا - حسب باريمندس- أن " الوجود واحد قديم ثابت كامل، وأن هذه الصفات لازمة من معنى الوجود. فآثر هذا اليقين العقلي، وأنكر الكثرة والتغير، واعتبرهما وهما ظنيا: أليس التغير يعني أن الموجود كان موجودا ولم يكن موجودا(أما صار إليه) وأنه باق في الوجود، ومع ذلك فهو ليس موجودا (على ماكان)؟ أو ليست الكثرة تعني أن كل وحدة من وحداتها هي كذا أي وجود معين، وليست كذا أي ليست وجودا ؟ إذ إن قولنا عن شيء إنه ليس كذا، معناه أن هذا الشيء حاصل على اللاوجود، وهذا معنى غير معقول."[4]
ومن هنا، يثبت باريمندس أن الأشياء واحد في العقل، وكثير في الحس.ومن هنا، فالفلسفة الميتافيزيقية يقينية، والعلم الطبيعي ظني وحسي وخادع.
وتتمثل الحقيقة عند باريمندس في وجود الواحد.وأما اللاوجود، فلاوجود له. ومن ثم، تعود الكثرة إلى الوجود الواحد . وبالتالي، فاللاوجود لايمكن تعلمه، أو إدراكه، أو الوصول إليه، أو فهم كنهه، كما قال الفيلسوف الإنجليزي باركلي - فيما بعد -: إن الموجود هو المدرك، أما اللاموجود، فهو اللامدرك. أضف إلى ذلك، أن الوجود لايمكن إدراكه إلا عن طريق الفكر والعقل والتأمل الميتافيزيقي الماورائي؛" لأن الفكر هو عين الوجود"[5]. ومن هنا، ينبغي أن يتجه التفكير نحو الوجود الموجود أو إلى الشيء الموجود؛ أما اللاشيء أو اللاموجود، فهو غير موجود. وفي هذا، يقول بارميندس في شذرته التالية:
" يجب التحدث عن الوجود الموجود والتفكير فيه
ذلك أن الوجود موجود واللاشيء غير موجود.وأنا
آمرك بقول ذلك، لأنني عن هذا السبيل الأول للبحث
أزيحك، وعن السبيل الآخر أزيحك أيضا.
ذلك السبيل الذي شكله الناس الجهلة المترددون
لأن عجزا جاثما على صدورهم، يوجه على خط مستقيم
فكرهم التائه، وهم مستسلمون لعملية نقلهم هنا وهناك
صم، بكم، عمي في الوقت نفسه، أفواههم فاغرة
حشود حيرانة، يشكل الوجود واللاوجود بالنسبة إليهم
نفس الشيء ونقيضه، والطريق بالنسبة إليهم جميعا
هي بمثابة عودة ترتد إلى ذاتها.[6]"
علاوة على ذلك، يؤمن باريمندس بوحدة الوجود، على أساس أن الموجودات والمخلوقات تشكل وحدة كلية متكاملة ونهائية، لايعتريها الفساد أو الموت أو الفناء . ومن ثم، لم ينبثق هذا الوجود الأزلي عن العدم، بل ظهر هذا الوجود الواحد كاملا وممتلئا ومنسجما وثابتا، بدون مسبب، وليس له بداية ولانهاية، ويتسم بالاستمرارية. ولايمكن أن يكون لهذا الوجود وجود مجاور له. وفي هذا السياق، يقول باريمندس في قصيدته (الوجود):
" وتبقى كلمة واحدة، كلمة طريق الوجود
فعلى قارعة هذه الطريق توجد علامات متعددة
تبين أن الوجود ليس له مسبب
ولكنه غير فاسد، وأنه كامل، واحد، غير متأثر
وأنه لانهائي، فهو لم يكن في أي حين ولن ولن يكون أبدا
مادام موجودا الآن في تمامه ووحدانيته واستمراريته.
وبالفعل، فعن أي أصل ستبحث لهذا الوجود؟
وما مصدر وكيفية ازدياده؟
إنني لن أسمح لك بأن تقول ولا أن تفكر في اللاوجود
فلو أخذ الوجود انطلاقته من العدم، فما الذي سيمنعه
من الانبثاق فيما بعد، بدل فيما قبل؟
هكذا، وجب أن يكون بالتمام أو لايكون
نهائيا، ولايمكن لقوة الإقناع أن تسمح أبدا
بأن ينبثق عن الوجود شيء ما مجاور له
...وهو أيضا لايتجزأ لأنه كامل
ومنسجم، لايتضمن شيئا زائدا
يمنعه من أن يبقى موحدا، ولاشيئا
ناقصا يمنع امتلاءه، فهو ممتلىء بالوجود
كامل كلية ومستمر.
ذلك لأنه وجود بجوار الوجود، أضف إلى ذلك أنه لايتحرك
في حدود العلامات الهائلة، فلابداية له
ولانهاية، لأن التكوين والفناء قد تم
طردهما بعيدا، فالاعتقاد الحق قد أبعدهما.
يبقى هو عينه، يتحرك بذاته."[7]
ويثبت باريمندس أن الوجود واحد، لايمكن تجزئته إلى عدة مبادىء أو عناصر كما يذهب إلى ذلك أمبادوقليس الذي قال بأن الكون أصله الأسطقسات الأربعة: النار، والهواء، والماء، والأرض( التراب). وقد أضاف العنصر الخامس، وهو أميل إلى اللطف والسرعة، وهو الأثير. ويعبر كل عنصر من هذه العناصر عن آلهة أسطورية خاصة. في حين، يرفض باريمندس هذا التعدد، ويرى أن الوجود واحد لاينقسم ولايتجزأ، فهو كامل، ومتصل، ومتناسق، ومنسجم. وبهذا، ينكر باريمندس الكثرة والفراغ، فالوجود واحد وموحد، وليس هناك فراغ بين العناصر، فالكون مثل: كرة مستديرة متصلة ومجتمعة ومترابطة الحلقات، لا فراغ بينها ولا انفصال.
" والخلاصة أن باريمندس قد استبعد ظواهر الحياة من فكرة الوجود، فألغى فكرة نشأة الكون أو ميلاده، وألغى نموه وحركته، وألغى تعدده، ولم يبق للوجود من الصفات سوى الصفات المنتمية لمقولة الكم، أما ما يوصف بالكيف كالحار والبارد أو النور والظلام فيقول عنها" فقد تعود البشر تسمية صورتين، ويجب أن يمسكوا عن ذكر إحداهما عند الانحراف عن الحق، وقد ميزوا من حيث تضادهما في الصورة، واستدلوا عليها بعلامات مختلفة إحداها النار في السماء، والصورة الأخرى تضادهما تماما، إنها الليل المظلم، جسم ثقيل كثيف."[8]
إذا كان الفلاسفة الطبيعيون يؤمنون بالتعدد والكثرة والحركة في الطبيعة، فإن باريمندس ينكر هذا التعدد، ويعتبر الوجود واحدا وكاملا وممتلئا ونهائيا ومتصلا ومتناسقا وساكنا. كما ينكر بدايته، وحركته، وتغيره، ونهايته. لذا، فهو يقول بالثبات المناقض للتغير والصيرورة الجدلية عند هيراقليطس؛ لأن باريمندس لو آمن بفكرة الحركة، لاستلزم هذا الافتراض المنطقي انتقال الوجود من الوجود إلى اللاوجود أو من اللاوجود إلى الوجود.