ا تعريف الدين ــــــ
إنما يصبح القيام بتوضيح دور الدين في العالم الجديد ميسوراً من خلال إعطاء «تعريف للدين»، وكذلك «المعرفة بالعالم الجديد». ويجب أن نعرف ما هو الدين؟ وأي عالم هو العالم الجديد؟ لكي يصبح بإمكاننا توضيح دور الدين في العالم الجديد، كيف سيكون؟ أو كيف يجب أن يكون؟
نحن نرى أن الدين يمثل «خبر الإرادة التكوينية والتشريعية الإلهية». وبعبارة أخرى: هو تفسير وحدة عالم الوجود والتدبير الإلهي لحياة الإنسان. وبعبارة أوضح: الدين هو مجموعة الأخبار الواقعية بشأن الوجود، وحياة الإنسان. وكذلك هو مجوعة التعاليم القانونية والقيمية النازلة من قبل الله تعالى عن طريق الأنبياء، أو التي تفهم عن طريق العقل السليم.
وقد أعطى الدين تفسيراً واضحاً للوجود والإنسان. والله سبحانه وتعالى هو خالق الوجود والإنسان، فهو عالم بحقيقة الإنسان والوجود. والدين هو الذي يعكس ويبيِّن مراد الله تعالى ومرامه في الوجود، وعلاقات خيرة ما خلق في الوجود، أي الإنسان، مع الله تعالى، والطبيعة، وبقية الناس، ويعطي بطبيعة الحال الإجابات الصائبة على الأسئلة الأساس بخصوص العالم والإنسان. ومن هنا يذعن العقل أيضاً بأن الإنسان سيؤمن بالأخبار النازلة من قبل الله تعالى بشأن علاقته مع العالم والإنسان. وبما أن ما نزل من قبل الله تعالى بعنوان لائحة العلاقات الإنسانية تمثل أدق القوانين والتعاليم، وأكثرها صواباً، فعلى الإنسان أن يلتزم بها. وبما أن هذه المعارف والقوانين تستمد عطاءها من مصدر الحقيقة فإن الاعتقاد الجوانحي بهذه الأخبار، والالتزام الجوارحي بهذه القوانين والتعاليم، يمكنه أن يضمن سعادة الإنسان وكماله.
إنّ النظام الحياتي الذي يختاره الإنسان، إذا لم تتدخل فيه الموانع والعوامل القهرية، سيقوم قطعاً على نوع معرفته بالوجود. وكقاعدة عامة لا يمكن للإنسان أن يرى العالم بشكل معين، ويعمل بشكل آخر في سلوكه وعلاقاته، وإلا فإنه سيعاني من الازدواجية في شخصيته.
ويحتاج الإنسان إلى أشياء أخرى غير الأخلاق؛ لإدارة شؤون حياته الدنيوية. كما أن الدين ليس مجرَّد مجموعة من الوصايا الأخلاقية المحضة. فقد وضع الله تعالى نظاماً كونياً مناسباً ومحدَّداً بناءً على رؤيته الكونية. فالدين بلا دنيا ليس بدين، ولا يعدو كونه مجرد مسلك عرفاني لاغير. والدين الذي يفتقر لبرنامج دنيوي للإنسان ليس بمقدوره الادعاء بأنه سيعاقبه أو يثيبه في الآخرة. ومن المؤكَّد أن خالق الإنسان يريد له حياةً أكبر من الحياة الحيوانية أو النباتية. وبدون «الأمر والنهي» من قبل الخالق، و«الترك والفعل» من قبل المخلوق، لا معنى للحرمان والتنعّم الأخروي.
مشاكل العالم الجديد ــــــ
ولكن في ما يتعلق بـ «العالم الجديد» ـ وتجدر الإشارة إلى أني سأشير هنا إلى «عيوب العالم الجديد ونواقصه» فقط، بناء على ما يقتضيه سياق البحث ـ فإنه يعاني اليوم من مشاكل وأزمات متعددة، من قبيل: أزمة المعرفة، وأزمة الأمور المعنوية، وأزمة الأمن النفسي، وأزمة الهوية، والأزمة القانونية، وأزمة البيئة المحلية، وغيرها. والأزمة الرئيسة للعالم المعاصر، أي «أزمة المعرفة»، ناجمة عن المنهج النسبي. فالحضارة والمدنية السائدة اليوم عاجزة عن إعطاء تفسير صحيح للوجود. إن العلوم الأساسية المقبولة اليوم لا تمتلك تفسيراً دقيقاً للإنسان. إن المنهج الاستهلاكي للفرضيات العلمية لا يعطي مجالاً لإنسان اليوم كي يدون تفسيراً صحيحاً وقويماً للوجود والإنسان، والغاية من الحياة. والنظرة الجزئية للعلم الطبيعي، التي تمثل ملكة العلوم في عصرنا، لا تستطيع أن تعطي رؤية كلية تجاه العالم؛ إذ إن فقدان العلم الشامل، الذي ينظر إلى كل الوجود نظرة واحدة في آن واحد، ويعطي تعريفاً دقيقاً للوجود وحياة الإنسان، يمثل اليوم المشكلة الرئيسة للبشرية.
لقد سُلبت حالة الاطمئنان الروحي من الإنسان اليوم. ويبدو المستقبل أمامه غامضاً مظلماً. وقد أصبح السعي نحو السعادة والكمال أمراً منسياً. وأوجد اعتماد مبدأ الشهوة، والشهوات البدنية الزائلة والفاسدة المفسدة، أزمة أخلاقية للبشرية لا يمكن اجتنابها. كما تسبب زوال القيم، وانهيار كيان الأسرة، بمعضلة معقّدة لحياة البشرية المتحضِّرة، لا يمكن حلها.
تعد الأزمة المعنوية وأزمة الهوية من أهم أزمات العصر الجديد. إنّ الطرق الإجبارية الجديدة، وتكبيل الإنسان بقبضة التكنولوجيا والبيروقراطية، جعلته غريباً عن نفسه. فكل فرد في المجتمع الإنساني لا يكون على وئام مع هذين الغولين الجديدين سيسحق، وإذا لم يسحق فسينظر إلى تحرُّكه على أنه حركة عقيمة، وتسير في عكس اتجاه الحركة العامة للحياة الإنسانية، وسوف لن تحقِّق مساعيه تلك أية نتيجة تذكر. إن قافلة الحياة الجديدة اليوم تشبه حركة قطار يذهب بجميع ركابه باتجاهٍ ما دون أن يكون لإرادتهم أي دخل في ذلك. ولو تحرك أحد ركابه بعكس الاتجاه الذي يتحرك تجاهه القطار فإنه سينزل في نهاية المطاف مع الآخرين في النقطة التي يصل إليها القطار!
لقد قضت العلاقات القائمة على «أحقية السلطة» على الأمن القانوني، وجعلت الشعوب الضعيفة عاجزة أمام القوى العظمى، وأمام الحكومات، وفقدت بالتالي أمنها وسلامتها أمام ذوي النفوذ والسطوة. كما أن المساعي النفعية والأنانية للإنسان لاستغلال الثروات الطبيعية جعلت المحيط البيئي يعاني من مشاكل لا يمكن حلها.
ويعطي الدين أجوبة واضحة مطمئنة عن التساؤلات الأساس للبشرية. وأجوبة الدين عن الأسئلة الأساس للإنسان قاطعة وثابتة وحقيقية. وينظر الدين إلى الوجود باعتباره حقيقة قائمة ذات غاية، وإلى النظام الأخلاقي بأنه هو الحاكم على العالم. ويقول الدين للإنسان: من أنت؟ من أين جئت؟ ولماذا جئت؟ وماذا ينبغي أن تفعل؟ وإلى أين ستذهب؟
ويحتفظ الدين بمكانة سامية للإنسان في الخلق والوجود. وعلى الرغم من أن الإنسان العصري رفع شعار الإنسانية، وأن «ذاته المتألهة» تفكر بنفسها فقط، إلا أنها أنزلت الله تعالى إلى مرتبة أدنى من الحياة البشرية، ولم تصل بالإنسان إلى المرتبة الإلهية. الدين يسمو بالإنسان إلى ما هو أبعد من الجماد والحياة والنبات، بل إنه ينزله منزلاً أسمى من الملائكة.
يضفي الدين على الحياة معناها، ويمنح الإنسان فسحة الأمل، ويحرره من القيود الداخلية. وعندما يتحرر من القيود الداخلية فالأولى أنه سيتحرر من القيود الخارجية أيضاً. إن الإنسان المتحرر من النفس سوف لن يقع أسيراً للتكنولوجيا، أو لأي عامل أو أمر خارجي آخر، ولن تعيقه البيروقراطية. يصحح الدين العلاقات الاجتماعية على المستوى الوطني والدولي. وإن إقامة السلام والعدالة لن تتحقق إلا بمعرفة منزلة الإنسان، والشعور بالمسؤولية أمام الله تعالى، والإيمان بالمعاد.
مَنْ كان يؤمن حقاً باليوم الآخر فإنه لن يظلم بني البشر إطلاقاً. ومَنْ كان يؤمن بالإنسان خليفة لله تعالى، ويقرّ بحرمته وكرامته، ويرى نفسه ممثِّلاً للحق تعالى، سيتصرف بشكل إلهي، وبالتالي سوف لن يضيّع حقوق سائر الأمم والشعوب الأخرى في النطاق الدولي، ولن يتجاوز على أي من أبناء جلدته في النطاق الوطني، ولن يجد الإجحاف سبيلاً إليه، فلا يزعج المؤمن، ولا يؤذي الكافر.
ينظر الدين إلى الطبيعة والبيئة بأنهما لله تعالى أولاً وأخيراً؛ لأن الوجود مخلوق من قبل الله تعالى وملك يمينه، وقد خول الإنسان بالعرض استعمار الوجود. فهو ـ أي الإنسان ـ أمينٌ، ويتصرف بهما على حدّ الضرورة. وانطلاقاً من أن جميع الناس هم عباد رب واحد فلهم الحق في التصرف فيها على قدرٍ متساوٍ، وبشكل عادل. ينظر الدين إلى الطبيعة على أنها فعل الله تعالى، وبالتالي فهي مقدسة، ويعتبر البيئة ثروة للبشرية كافة. ولا يعتبر أي فرد أو قوة مالكاً مطلق العنان للوجود. ومن هنا فإن قوانين الدين تنقذ البيئة من التخريب. وتتسم نداءات الدين بالعمق، والدقة، وبأنها حقيقية، وتبعث على الاطمئنان.
وعلى أية حال أكتفي بهذه الإشارات؛ بسبب ضيق الوقت، وما يسمح به نطاق البحث.
نظراً للمشاكل والقضايا المعقَّدة للبشرية اليوم في جميع نقاط العالم، وأزمات الإنسان، ومقتضيات الحالة التي يبحث فيها الإنسان عن الطريق إلى الكمال والسعادة، وهو في خضم تدافع أمواج الاضطرابات والكآبة وحالات اليأس، حيث تكون الماديات والحياة المادية قد أرهقته، فيرمي ببصره نحو نافذة مضيئة، ومخرج من هذا النفق المظلم. ومن هنا فقد عمت جميع أرجاء المعمورة موجة من التعطش إلى القضايا الروحية، وبخاصة بين أوساط الجيل الصاعد من الشباب. وهذه المسألة تزيد اليوم من عبء الرسالة الملقاة على رجال الدين، وتصبح رسالة أصحاب الأديان الحقيقية، وهي الأديان الإبراهيمية، أثقل. ويصبح الابتعاد عن النزاعات والمجادلات المذهبية، التي لا طائل من ورائها، والتمسك بالحبل الإبراهيمي (أبو جميع الأديان الحقيقية، والأديان التوحيدية)، والتوجه نحو الألفة والحوار، والاتحاد ضد الإلحاد، من واجبات رجالات الأديان. وتمثل معرفة عالم اليوم، وظروف الإنسان المعاصر، واحتياجاته، ومعضلاته، أعظم رسالة لأتباع الأديان التوحيدية. كما يُعدُّ الإقبال الصحيح على الدين، والتقديم الصحيح لتعليمات الدين، وبشكل منسجم مع ظروف الزمان وفهم الجيل المعاصر، واستئصال الخرافات والمبالغات والأوهام والموهنات من ساحة الدين، والاستفادة من تعطش الجيل الحالي، واجباً وفرضاً على المؤمنين. إن القلوب المترقِّبة، والأذواق المتعطِّشة، في جميع أنحاء العالم هي في حالة بحث عن نقاء وعذوبة المعنويات. وهذه الموجة من الأجواء المعنوية والإقبال على الدين، التي نشاهدها في العالم، تعني انبثاق نوع من التغيير التاريخي، بمعنى أن المسيرة التاريخية إذا كانت خلال القرون الأخيرة تسير نحو ظلام الأجواء غير الدينية فقد تغير مسار التاريخ في ظل الأوضاع الحالية،