حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 غريزة الحرّية: تشومسكي والفوضويّة والطبيعة البشريّة/ عديّ الزعبي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حسين
فريــق العــمـل
فريــق العــمـل
حسين


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 473
معدل التفوق : 1303
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 18/12/2011

غريزة الحرّية: تشومسكي والفوضويّة والطبيعة البشريّة/ عديّ الزعبي Empty
20032017
مُساهمةغريزة الحرّية: تشومسكي والفوضويّة والطبيعة البشريّة/ عديّ الزعبي




 
غريزة الحرّية: تشومسكي والفوضويّة والطبيعة البشريّة/ عديّ الزعبي %25D8%25AA%25D8%25B4%25D9%2588%25D9%2585%25D8%25B3%25D9%2583%25D9%258A2




غريزة الحرية: تشومسكي والفوضوية والطبيعة البشرية
عُدي الزعبي 
الجمعة، 29 تموز 2016

[rtl]


هذا مقالٌ في الأصول الفلسفية للاشتراكية التحررية، كما يراها الفيلسوف الأميركي نعومتشومسكي.


في الزمن الراهن، أرى أننا بحاجة إلى إحياء مذهب يساري تحرري، يستطيع مواجهةالتحديات الفكرية والعملية لعالمنا المعاصر، ويفتح المجال لمشاركة أوسع قطاعات منالناس في بناء حياتهم وتقرير مصيرهم. لذا، أقترحُ أن نعيد قراءة مفاهيم الاشتراكيةالتحررية، كما نجدها عند أقطابها: كروزا لوكسمبورغ، جورج أورويل، باكونين،كروبوتكين، برتراند راسل، نعوم تشومسكي، وغيرهم. لا نريد أن نقدّس نصوص هؤلاءالمفكرين، بل أن نستفيد من أعمالهم لحلِّ الأسئلة المعاصرة والآنية. هناك اختلافاتٌ بينهؤلاء المفكرين، وهناك تقاطعات. اختياري لتشومسكي يأتي من الأهمية الاستثنائيةلعمله الفلسفي، كما سنوضّح في متن المقال. مفهوم تشومسكي عن الطبيعة البشرية يتيحلنا بناء تيار فكري فوضوي اشتراكي تحرري عابر للثقافات1، وهذا جوهر حاجتنا اليومفي عالم تتقدم فيه النسبوية والتعصب والانغلاق، يداً بيد مع الرأسمالية والطغيان.

يتميز عمل تشومسكي بغناه الاستثنائي على صعيدين مختلفين تماماً: اللسانيات والنشاطالسياسي. يُروى أن طلاباً من اليابان لم يصدّقوا أن الناشط السياسي تشومسكي هواللغوي نفسه، تشومسكي صاحب القواعد التوليدية. أعمال تشومسكي تتوزع بين هذينالقطبين، وتكاد تخلو من أي عمل متكامل يجمعهما معاً. باستثناء بعض المحاضراتوالمقالات التي يتطرّق فيها إلى العلاقة بين النشاطين عرضاً، لا نجد شرحاً وافياً للعلاقةالملتبسة بين الحقلين2. من جهة، يعارض تشومسكي سياسة الولايات المتحدة بشدة، منمنطلق الاشتراكية التحررية. من جهة أخرى، قاد تشومسكي الثورة الإدراكية فيالفلسفة، أي الثورة في كيفية محاولة فهم الكائن البشري: يرى تشومسكي أننا يجب أنننظر، أولاً، إلى البنى الفطرية العقلية، وليس إلى البيئة المحيطة بهذا الكائن، لتأسيسفهمنا للبشر؛ أي البحث في الطبيعة البشرية والبنى الإدراكية المشتركة بين البشروالمعطاة بيولوجياً، قبل البحث في البيئة المحيطة والثقافات المختلفة. سنشرح في هذاالمقال أن ما يجمع النشاطين هو مفهوم الطبيعة البشرية، الذي يراه تشومسكي المحورالرئيس في علوم الإنسان: من اللغة إلى علم النفس إلى العلوم الاجتماعية، وصولاً إلىعلم الجمال، وانتهاءً بالأخلاق والسياسة. هذه الثورة ستجعل تشومسكي، بنظر البعض،الفيلسوف الأهم في القرن العشرين، بلا منازع.

ينقسم مقالي إلى ثلاثة أقسام. الأول يناقش أسس العمل السياسي عند تشومسكي، والثانيالأصول الفلسفية للاشتراكية التحررية كما يراها فيلسوفنا، أما القسم الأخير فهو محاولةٌللاستفادة من عمله في تطوير تيار عريض كوني لليسار التحرري، عابر للثقافات، فيعالم اليوم.

النشاط السياسي: خطوط عامة للعمل التحرري

لا نريد هنا أن نستعرض عمل تشومسكي السياسي ونشاطه في فضح سياسات الولاياتالمتحدة وحلفائها. هذا الأمر أُشبع بحثاً وتحليلاً وتبجيلاً من قبل فئات يسارية تعاديإمبريالية أمريكا. لا يعنينا هذا الجانب من عمل تشومسكي، ولا نرى بأننا نستفيد منهكثيراً؛ بل على العكس، نرى أنه استُخدم من قبل منظّري السلطات عندنا للدفاع عنمواقفهم المنحازة لأنظمة قمعية تبرر وجودها بمواجهتها المفترضة مع إسرائيل وأمريكا. يحتاج هذا الأمر، أي توظيف تشومسكي وغيره من اليساريين، سواء بموافقتهم أو بالرغمعنهم، في الدفاع عن ديكتاتوريات العالم الثالث، مقالاً منفصلاً. ما يعنينا هو التنظيرلاشتراكية تحررية تساعدنا على التخلص من أنظمة الطغيان القائمة عندنا. في هذاالمجال، هناك كثيرٌ مما يمكننا الاستفادة منه في عمله، ومما يتجاهله منظّرو السلطاتالقمعية عامدين.

سنعمل، إذاً، على عرض الأسس التي يقوم عليها فكر تشومسكي السياسي، على أن نربطبينها وبين مفهوم الطبيعة البشرية في القسم التالي.

الملاحظة الأولى المثيرة في عمل تشومسكي، هي أن نشاطه السياسي المباشر لا يرتبطبعمله اللغوي والفلسفي. أكثر من ذلك، يرى تشومسكي أننا يجب ألا نربط بين العملالسياسي والفلسفي، بل يجب التمييز بين هذين العملين، قدر الإمكان3.

ثلاثة أسباب، متداخلة، تدعوه لتبني هذا الموقف.

أولاً، يعتقد تشومسكي أن معرفتنا بالإنسان ما زالت قاصرة وبدائية. لا يوجد معرفةعلمية حقيقية في مجالات علم النفس والاجتماع والإنثروبولوجيا4. أكثر من ذلك، يعتقدتشومسكي أن بعض الأسئلة لن نستطيع الإجابة عنها نهائياً، لأنها تقع خارج متناولالمعرفة البشرية، ويطلق عليها اسم الألغاز أو الأسرار، في مقابل المشكلات التي يبدوأنها في متناول الحل. يميل تشومسكي إلى القول إن معظم الأسئلة حول حرية الإرادةوفهم الفعل البشري هي ألغازٌ لا سبيل للوصول إليها5.

على أي حال، الفعل السياسي ليس مرتبطاً بهذه الأسئلة النظرية. يعتقد تشومسكي أنعلينا العمل لمواجهة الظلم وتحكم السلطات بالناس العاديين مباشرةً. من الخطأ الاعتقادبأن العمل السياسي والدفاع عن المظلومين، يجب أن يؤجّل إلى أن نجد أجوبة شافيةلأسئلة فكرية معقدة حول ماهية الإنسان وطبيعته 6.

في ظل هذا الجهل بطبيعة الإنسان، ما الذي يمكننا فعله؟

يرى تشومسكي أن الحسّ الإنساني السليم والفطرة البشرية الأخلاقية تستطيع أن تخبرناببساطة بالأحكام الصحيحة أخلاقياً، وهذه هي النقطة الثانية. يؤمن تشومكسي بأن الناسيعرفون الصواب والخطأ مباشرةً، وأن العمل على كشف الأكاذيب الحكومية يحقق نتيجةمباشرة: أن يرى الناس الواقع كما هو، وبالتالي سيعمل البشر على تغيير الواقع. لسنابحاجة إلى نظريات أخلاقية معقدة وعميقة، بل بحاجة إلى كشف الزيف الحكومي. ماالذي نحتاجه لإدانة قصف غزة أكثر من الوقائع؟ أو لإدانة تدمير فيتنام على يد الولاياتالمتحدة او اجتياح الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان؟ ما الذي نحتاجه لإدانةالنظام السوري أكثر من وقائع مفصلة حول تدمير المدن السورية بالبراميل؟ هذا يفسر لنالماذا يعمل تشومسكي على سرد وقائع حرب فيتنام والقضية الفلسطينية بالتفصيل. عرض الحقائق، وحده، يكفي للوصول إلى حكم أخلاقي حول الصواب والخطأ7.

النقطة الثالثة في وجوب التمييز بين العمل النظري الفلسفي وبين النشاط السياسيوالإيديولوجي. ليست السياسة والمقدرة على الحكم الأخلاقي حكراً على الخبراء، منسياسيين ومثقفين وإعلاميين وأساتذة جامعة وكتّاب وصحفيين وفنانين. أحد أهم وأقوىأسلحة السلطة هو الادعاء بأنها، أي السلطة، أو الدولة، أو حتى معارضتها الرسمية، أيالأحزاب التي تشكل بنية إيديولوجيّة تعكس بنية السلطة، أو تكون جزءاً منها، هو القولبأن الخبراء فقط يستطيعون اتخاذ القرارات السياسية الهامة. هذا سلاح يجب تحديهوإسقاطه. كما قلنا أعلاه، معرفتنا العلمية بالإنسان شبه معدومة، لذا فالقول إن الخبراءيستطيعون قيادة المجتمع قول فارغ مبني على كذبة تافهة: في الحقيقة، كل الناسيتمتعون بالمقدار نفسه من المعرفة في الشؤون السياسية والأخلاقية؛ وكلنا نجهل ما هوالإنسان، تقريباً8.

تحاولُ الحكومات أن تقنع مواطنيها بأنهم في أيدٍ أمينة، أيدٍ خبيرة تعرف ما هو الصوابوما هو الخطأ، وتوجههم في الدروب الصحيحة. تتحكم السلطات بنا عن طريق هذهالكذبة. منذ الستينيات، رأى تشومسكي أن الاتحاد السوفييتي وطليعته الثورية وقيادتهالشيوعية، والديموقراطيات الغربية، بتشويهها للديموقراطية، تحولت إلى ديكتاتورياتتتحكم بالناس عن طريق الإعلام، وجهاز كامل من الأكاذيب: المدرسة والجامعةوالصحف وغيرها من وسائل التحكم. هذا التحكم يجب مواجهته وفضحه، عن طريقفضح كذبة الخبراء: لا خبراء في السياسة والأخلاق 9.

يصرّ تشومسكي على أن كافة الدراسات السياسية يجب أن تُكتب بسلاسة ووضوحوصدق. من هنا ينبع احتجاجه على التذاكي والشطارة والغموض الذي يطبع كتاباتفلاسفة القارة، ككتابات لاكان وديريدا وجيجيك وغيرهم. يتبع تشومسكي هنا تراثاً أصيلاًفي الفلسفة يُعلي من الوضوح والدقة ويحتقر الغموض والتذاكي، من أقطابه ديكارتوجون لوك وديفيد هيوم وجون ستيوارت مل. على أن هذا الأمر أصبح أكثر أهمية فيالقرن العشرين، حيث انفصلت الفلسفة التحليلية عن فلسفة القارة. برتراند راسل وكارلبوبر وجون سيرل و ج. ل. أوستن وغيرهم أشاروا إلى أهمية الوضوح والدقة فيالكتابات الفلسفية والفكرية أيضاً. يوافق تشومسكي على أن بعض الكتابات العلمية قدتتسم بالصعوبة، ولكن لا يوجد أي صعوبة في السياسة والأخلاق والكتابات الاجتماعية. يسعى بعض الكتاب قاصدين إلى إحاطة أنفسهم بهالة من القدسية عن طريق نصوصسخيفة وغامضة، علّهم يكسبون بعض الأتباع. لا شيء أكثر إساءة للفعل السياسي منهذه النصوص10.

من هنا، كان تشومسكي يقول بوجود مسؤولية أخلاقية على المثقفين والأكاديميين؛ يتمتعهؤلاء بفرصة أكبر لرؤية الحقائق كما هي، ويتمتعون أيضاً بمكانة وحصانة نسبية فيالدول الديموقراطية تتيح لهم أن يجدوا جمهوراً يصغي إليهم. المسؤولية تقتصر علىعرض الحقائق وقول الحقيقة للناس. لا يوجد عمق نظري حقيقي، ولكن هناك شجاعةفي عرض الحقائق وحاجة ماسة إلى وضوح ذهني لفضح وكشف شبكة الأكاذيبالسلطوية. الإيديولوجيا تتحكم بوسائل الإعلام وبالتعليم وبالخطابات الرسمية؛ المسؤوليةالرئيسية للمثقفين تكمن في فضح هذه الإيديولوجيا.

على أن تشومسكي يرى أن دور المثقف ينحصر بشكل شبه كامل في المجتمع الذييعيش فيه المرء. على سبيل المثال، تشومسكي المثقف اليهودي الأمريكي يخصصنصف أعماله لانتقاد الولايات المتحدة وإسرائيل. يقدّر تشومسكي عالياً المنشقين اللذينينتقدون مجتمعاتهم ودولهم. لا يوجد أي معنى ثقافي نقدي حقيقي في المثقف الأمريكيالذي ينتقد غياب الديموقراطية في المشرق، أو قمع الأقليات أو المثليين أو المرأة في دولالعالم الثالث، ولكنه يصمت، بل ويشجع، تدخل الولايات المتحدة ودعمها لطغاة مصروالسعودية، على سبيل المثال. الأمر نفسه ينطبق على مثقفين عرب ينتقدون إسرائيلوالولايات المتحدة ليل نهار، ولا يجرؤون على الإشارة إلى قصف حلب بالبراميل أو إلىاعتقال مئات الشباب في مصر السيسي أو الإعدامات في المملكة السعودية. الدورالنقدي، من وجهة نظر أخلاقية، ينحصر في القدرة على التأثير على الناس، وعلى تغييرمجرى الأحداث، والتأثيرُ يكون أعمق وأبعد مدى عندما ينبع من الداخل. لا يستطيعالمثقف الأمريكي التأثير علينا، كما لا يستطيع مثقفنا العتيد التأثير على الجمهورالأمريكي. حقيقةً، انتقاد الطرف الآخر يصبّ في توكيد ودعم المنظومة الإيديولوجيةالقائمة في الأصل على شيطنة الآخر، وعلى كوننا نحن الأخيار. لذا، هؤلاء اللذينيتخلون عن دورهم النقدي، متنكرين بشكل أعداء الإمبريالية هم في الحقيقة أصدقاءللطغيان، وللإمبريالية أيضاً، في العمق؛ والمثقفون الأمريكيون اللذين يريدون لناالديموقراطية، وينتقدون الثقافة الإسلامية باستمرار، صامتين عن جرائم أمريكا، همأعداء للديموقراطية في العمق11.

لا بأس من الإطالة هنا قليلاً. يُخطئ من يبحث عند تشومسكي على إجابات ومواقفواضحة لتحدياته الآنية. تشومسكي، أدان ديكتاتورية القذافي وصدام حسين وحافظ الأسدوابنه، وسمّاهم بالاسم. أيضاً، أدان وبشدة الاتحاد السوفييتي واستعباده للبشر، من لينينوتروتسكي، إلى ستالين وخروتشوف وبقية الرفاق، وأدان الخمير الحمر وديكتاتورياتالعالم الثالث. إلا أن موقفه من الأحداث التي تقتضي مواجهة طغاة لا يتبعون مباشرةلأمريكا معقّد وغير مريح، برأيي.

لا يلتزم تشومسكي بالدور الذي رسمه لنفسه، غالباً ما يعلّق على الصراعات التي لاتتعلّق بالضحايا المباشرين للسياسة الخارجية الأمريكية من وجهة نظر الناصح الذييحذّر من الدور الأمريكي المخرّب، متجاهلاً بعض الحقائق والأرقام، التي يبرزهابوضوح في حالات العداء لأمريكا. يبدو في مثل هذ الصراعات كأنه يطلب من الناس أنتلتفت إلى خطر مفترض بعيد بدلاً من مواجهة طغاة مفسدين مباشرين، ويكاد يتماهىأحياناً مع أولئك اللذين ينتقدهم باستمرار: من يبررون الطغيان باسم اليسار. هكذا، تكادتمّحي الفوارق بينه وبين مناصري اليسار التسلطي الذي يعاديه تشومسكي نفسه12.

في التحذير من حكم الخبراء، ينطلق تشومسكي من أفكار فوضوية معروفة تتجه إلىالناس لا إلى السلطات. يرافق ذلك شكٌّ عميق بفعالية الديموقراطية التمثيلية؛ ويطالببتنظيمٍ اجتماعيٍ يعتمد على المشاركة المباشرة للناس في تسيير شؤون حياتهم. يكررتشومسكي أن لا شيء أصيلاً لديه ليضيفه إلى التراث الفوضوي، ينطبق الأمر ذاته علىانتقاداته للرأسمالية.

تُشكّلُ الأفكار السابقة أسس عمل تشومسكي السياسي، وتتلخص في النقاط التالية: يجبالتمييز بين العمل النظري الفلسفي والعمل السياسي؛ كل الناس يشتركون في الملكةالأخلاقية التي تتيح لهم الحكم على الوقائع السياسية الأخلاقية بسهولة ويسر، ولا يوجدأي سبب للادعاء بأننا نملك نظريات علمية اجتماعية أو نفسية عميقة. على المثقفوالأكاديمي مسؤولية فكرية لكونه يملك منابر عامة ويستطيع الوصول إلى الحقائق،وعليه أن يستغل هذه المنابر لفضح السلطات وإيديولوجيتها التي تسعى إلى السيطرة علىالبشر. الناس هم من سيغيرون الواقع: الناس العاديون اللذين يجب أن يحصلوا على حقهمفي تقرير حياتهم وإدارتها، كما قال الفوضويون.

القسم التالي سيناقش صلة الوصل بين العمل الفلسفي النظري والنشاط السياسيالفوضوي.

الأصول الفلسفية للاشتراكية التحررية: الطبيعة البشرية

قلنا إن تشومسكي يميز بين عمله السياسي وعمله الفلسفي/اللغوي؛ وأحد أسباب هذاالتمييز أن العمل السياسي لا يحتاج إلى نظريات علمية ولا إلى فكرٍ عميق، بل يحتاجفقط إلى شجاعة ووضوح، على العكس من العمل اللغوي الذي يدخل ضمن النطاقالعلمي. على الرغم من ذلك، هناك صلة وصل بين العملين. في هذا القسم سنشرح هذهالصلة، ألا وهي مفهوم الطبيعة البشرية، وكيف تربط بين العمل السياسي والفلسفي.

سنبدأ بعرض مفهوم الطبيعة البشرية كما يراه تشومسكي، من خلال تقديم رؤيته للصراعبين التجريبيين والعقلانيين، ثم سننتقل إلى الجانب السياسي من صراع التجريبيينوالعقلانيين، وفي النهاية إلى تأصيل الاشتراكية التحررية في مفهوم الطبيعة البشرية، أيالصلة المباشرة بين الفلسفة والسياسة.

يشكل الصراع بين التجريبيين والعقلانيين أحد أهم أوجه الصراع الفكري في تاريخالفكر الغربي، وفي مقال سابق (تشومسكي قارئاً راسل) عرضتُ بعض جوانب هذاالصراع بتبسيط. سأكرر هنا العرض الرئيس للتيارين المذكورين كما ورد في المقالالسابق، متعمّقاً في التفاصيل، قبل أن نبحث في النتائج السياسية لكل منهما.

يتمحور تاريخ الفلسفة الغربية، منذ القرن السابع عشر، حول صراع التجريبيينوالعقلانيين الذي يدور حول السؤال التالي: هل المعرفة البشرية مكتسبة من خلالالتجربة أم فطرية؟ قال التجريبيون إن المعرفة تأتي عن طريق الخبرة والتجربة؛ فيحين قال العقلانيون إن جزءً رئيساً من المعرفة فطريٌ غير مكتسب، وإن جميع الناسيشتركون، بالولادة، بمجموعة معارف ثابتة13.

منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، سيطرت التجريبية بشكل شبه كامل. أتت ثورةتشومسكي في اللسانيات لتبعث العقلانية من جديد. لأكثر من خمسين سنة، دافعتشومسكي عن أطروحته البسيطة القائلة بأن قواعد اللغة معطاة بيولوجياً، فطرياً، لجميعالبشر، وأن هذه القواعد التوليدية العامة تشترك فيها جميع اللغات البشرية. اليوم، في علماللغة، يرى الباحثون أن تشومسكي وخلفاءه قد ربحوا المعركة. لم يعد أحد تقريباً يؤمنبأن معرفة اللغة مكتسبة فقط عن طريق التجربة والبيئة، في العالم الأنكلو-ساكسونيعلى الأقل.

لنسجل بدايةً أن العقلانيين يؤكدون بالطبع أن جزءاً كبيراً من المعرفة يُكتسب عن طريقالخبرة والتجربة، ولكنّهم يُصرّون على أن بعض المعرفة يجب أن تكون فطرية. حجموطبيعة هذه المعرفة الفطرية، وماهيّتها بالضبط، هو السؤال الذي تحاول الفلسفة، وبقيةعلوم العقل، الإجابة عليه اليوم. ولنسجل أيضاً أن هناك فارقاً بين فطرية القرن السابععشر وفطرية القرن العشرين14. كان فطريو القرن السابع عشر يبحثون عن معرفةبالقضايا والمفاهيم، كمعرفة الله على سبيل المثال. في القرن العشرين، اتجه البحث نحوبُنىً تسمح بتلقي الخبرة، وليس معرفةً بالمعنى التقليدي. هناك نقاش عميق حول استخدامكلمة «معرفة» هنا، وتشومسكي نفسه لم يكن متّسقاً دائماً، كما يبدو. أياً يكن الإشكالحول «المعرفة»، وحول العلاقة بين فطرية القرن السابع عشر وفطرية القرن العشرين،الحجة الفلسفية هي ذاتها: لا يمكن تلقي الخبرة دون بنية أو معرفة أصيلة داخلية فطرية،سواء كانت معرفة بقضايا أم بنى تحدد قواعد اللغة، وغيرها من الخبرات المكتسبة.

أحد أبرز إنجازات تشومسكي الفلسفية تكمن في إعادة قراءة الصراع بطريقة جديدةومختلفة. ما هو الجديد في قراءة تشومسكي، بالضبط؟

يرى تشومسكي أنه لا يوجد تجريبيون راديكاليون، بمعنى أنه لا يوجد شخص عاقل يُنكروجود بنية فطرية في الدماغ تسمح لنا بتلقّي المعلومات والخبرة من البيئة المحيطة بنا. لولم تكن مثل هذه البنية موجودة ومحددة بيولوجياً منذ الولادة، لما استطعنا تلقي أيمعلومات من البيئة. لا يوجد أي خيار آخر، ولا يوجد أدنى احتمال بعدم وجود مثل هذهالبنية: عدم وجود بنية تسمح بتلقي الخبرة، يعني عدم القدرة على تلقي الخبرة. إنكار هذهالبنية هو لغو فارغ غير معقول على الإطلاق. بهذا المعنى، يعيد تشومسكي قراءةالصراع على أرضية مختلفة تماماً: هناك بنية تسمح بتلقي المعلومات، والصراع بينالعقلانيين والتجريبيين يدور حول ماهية هذه البنية.

تشومسكي يقرأ بطريقة مختلفة أقطاب التجريبية، لم يكن معظمهم تجريبيين راديكاليين،لأن هذ الموقف غير معقول. هيوم، الذي يؤخذ عادةً على أنه أبو التجريبية، يقول بوجودبنية سطحية بسيطة. ولكن تشومسكي يجادل بأن البنية الفطرية معقدة وشديدة الغنى،وتختلف بعمق بحسب الأنواع البيولوجية، وتختلف أيضاً بحسب القدرات المختلفة لكلنوع، وتختلف، أيضاً، بدرجات مختلفة وتبعاً للقدرات المدروسة، بحسب أفراد كل نوع. أي أن الخلاف بين التجريبيين والعقلانيين تحول إلى الأسئلة التالية: هل البنى الفطرية،تحديداً العقلية، تختلف بين الأنواع، وإلى أي درجة؟ هل البنى الفطرية، تختلف بحسبالقدرات المدروسة، أي هل هناك بنى فطرية مختلفة عند الإنسان مثلاً، لكل من اللغةوحل المشاكل العلمية والتفاعل الاجتماعي والموسيقا وغيرها، أم أن هناك بينة واحدةلكل هذه القدرات؟ وهل البنى متقاربة أم مختلفة بين الأفراد؟ يجيب تشومسكي،والعقلانيون عموماً، بالإيجاب على كل من هذه الأسئلة، باستثناء الأخير، حيثالاختلافات، التي يُفترض وجودها، تتغير تبعاً للقدرات المدروسة، ولكنها قليلة الأهميةمن وجهة نظر علمية وعملية. في حين ينحو التجريبيون إلى الإجابة بالنفي. المقصود أنالخلاف التجريبي العقلاني ما زال قائماً، ولكن على أرضية مختلفة: هل يتشكل الإنسانبشكل رئيس تبعاً لبيئته، أم تبعاً لبنية داخلية؟ يُعلي العقلانيون من شأن البنية الداخلية، فيحين يُعلي التجريبيون من شأن البيئة المحيطة. لا ينكر أي منهما وجود بنية فطرية أودور رئيس للبيئة؛ الخلاف حول درجة وطبيعة كلٍّ من هذين العاملين15.

هذه البنية الداخلية هي الطبيعة البشرية، التي نولد بها، وتميزنا عن الأنواع الحيةالأخرى. لا ينكرها أحدٌ من الفلاسفة تقريباً16، وعليها سيبني تشومسكي ثورته اللغوية،ورؤاه السياسية اليسارية الفوضوية17.

ننتقل الآن إلى الوجه السياسي للصراع التجريبي/العقلاني، كما يراه تشومسكي.

يرى تشومسكي أن انتصار التجريبية الراديكالية وإنكار الطبيعة البشرية، أو التجريبيةعلى العموم بنسختها الأكثر اعتدالاً، يشكل أحد أعمدة حكم الخبراء الديكتاتوري، كماتجلى في القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. انتشرت التجريبيةوسادت بشكل غير مسبوق في العلوم الإنسانية والاجتماعية في بدايات القرن العشرين،وترافقَ ذلك مع صعود اللينينية والستالينية من جهة، ومشروع السيطرة والتحكم بآراءالناس وتوجهاتهم في الولايات المتحدة منذ العشرينيات. يستند كلا المشروعين علىتجريبية راديكالية عميقة تؤمن بإمكانية إخضاع البشر وتكوينهم بحسب رغبة الحكاموالمدرسيّن والإعلام، أي بحسب رغبة السلطات، طالما أنه لا يوجد طبيعة بشرية،وطالما أن البشر يتشكلون بشكل كامل بحسب البيئة المحيطة بهم. تجسَّدَ انتصارالتجريبية في سيادة المذهب السلوكي في تلك الفترة18.

يرى تشومسكي أن الجانب السياسي للعقلانية هو في العمق أقرب إلى التحرر منه إلىالطغيان، وحجته هي التالية: إن كان البشر يتشكلون بشكل كامل من خلال البيئةالمحيطة، أي العادات والتقاليد والثقافة والتربية، سيتمكن أي طاغية يتحكم بالإعلاموالتعليم والرقابة من إخضاع الناس لرغباته وسلطاته. هذه النتيجة بسيطة وتنبع مباشرةمن الراديكالية التجريبية التي تنكر الطبيعة البشرية وترى أن الإنسان يتشكل بشكل كاملمن خلال البيئة المحيطة. في المقابل، الفطرية تجعل البشر مقاومين لمحاولات تشكيلهممن قبل السلطات. للبشر طبيعة أصيلة، تجعلهم يقاومون محاولات قولبتهم وخلقهمبالشكل الذي تريده السلطات. الفطرية، في جوهرها، معادية للطغيان.

الحجة السابقة هي جوهر تفكير تشومسكي السياسي الفلسفي.

ثلاث نقاط بحاجة إلى شرح وتوضيح.

أولاً، لا يوجد علاقة ضرورية منطقية، ولا حتى تاريخية، بين التجريبية والطغيان أوبين العقلانية والحرية. أي أن العقلانية، أو التجريبية، من الممكن أن تخدم الحرية أوالطغيان. قد يرى القائل بالطبيعة البشرية أنها خلقتنا بشكل محدد وبمراتب معطاة لكلفرد، أو أن الرجل أذكى من المرأة، أو أن المثلية الجنسية انحراف عن الطبيعة البشرية،أو أن البيض أرقى من الملونين؛ كل هذا الكلام الفارغ قدمه دعاة الطغيان باسم الطبيعةالبشرية. ولكن لم يقدّم أحد دليلاً علمياً على أن هذه الادعاءات تنتمي إلى الطبيعةالبشرية.

من جهة أخرى، يبدو أن بعض التجريبيين، أي من ينكرون وجود طبيعة بشرية، يقفونإلى جانب الحرية. ألّا يكون للإنسان قدرٌ مسبقٌ مكتوبٌ عليه، يفتح كافة إمكانياتالمستقبل للبشرية. لا يوجد طبيعة بشرية ثابتة غير قابلة للتغيير. هذه الطبيعة الثابتة، تبعاًللتجريبيين الراديكاليين، أسطورة تنتمي إلى عصور متخلفة، مرتبطة بأديان وثقافاتتحاول السيطرة على الإنسان وكبحه باسم الطبيعة البشرية. تأتي التجريبية الراديكاليةلتحرير الإنسان من كل هذا القمع الممارس باسم الطبيعة البشرية.

تاريخياً، ارتبطت أسماء اقطاب التجريبيين بالحرية، من الإنكليز لوك وهيوم وملوبرتراند راسل في مرحلته التجريبية المبكرة، إلى فولتير والموسوعيين الفرنسيين منأتباع لوك19، إلى الاشتراكيين أتباع ماركس الكهل، وغيرهم.

بالنتيجة، يستطيع المرء أن ينكر أو يؤكد الطبيعة البشرية، ويبقى مناصراً للطغيان أوداعياً للحرية.

نعوم تشومسكي يجادل بأن إنكار الطبيعة البشرية، في القرن العشرين، زوّدَ منظّريالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بإيديولوجيا تدعم محاولتهم التحكم في رقاب الناس. هناك حالة تاريخية أخرى يشير إليها تشومسكي، ربطت بين التجريبية والطغيان: لوكوعنصريته تجاه الملونين. حتى في عصر العقل (أي القرن السابع عشر)، وعند أقطابالتنوير، استندت العنصرية إلى راديكالية تجريبية: السود وأبناء المستعمرات ليسوا بشراًكالأوروبيين، لأنهم أبناء ثقافة مختلفة لا تحترم العقل أو الحرية. هنا، بعض أصواتالعقلانيين رفضت العنصرية: كل البشر يولدون متساوين في العقل، وكلهم يسعون إلىالحرية ويستحقونها.

ثانياً، المفهوم الإنسانوي للطبيعة البشرية. يصرُّ تشومسكي على أن كل ما يُقال عنالطبيعة البشرية هو تخمينات. من هنا، عمله الفلسفي يثبت نقطة واحدة بسيطة: لا بد منوجود بينية فطرية، طبيعة بشرية، تسمح بتنظيم الخبرة الخارجية. حجم وطبيعة هذهالطبيعة، وعلاقتها بالبيئة، وتفاعلها مع الأنظمة الإدراكية المختلفة، هو أمر نجهله اليوم. يقتبس تشومسكي من أعمال باكونين وهمبولت وبرتراند راسل. دافع هؤلاء عن مفهومإنسانوي للطبيعة البشرية، حيث يولد الناس بقدرات خلاقة متنوعة، وعلى الفلسفةالسياسية أن تسعى إلى خلق عالم حر، يسمح لهذه القدرات بأن تنمو وتزدهر وتثمر. كيتكون العقلانية الفطرية قريبة من مذهب سياسي تحرري، يجب أن تدافع عن مفهومإنسانوي للطبيعة البشرية الخلّاقة. المزيد عن هذا المفهوم الإنسانوي سنعرضه أدناه فيالنقطة الثالثة التي سنناقشها.

ثالثاً، الفوضوية. يرى تشومسكي أن الفوضوية هي الوريث الشرعي لليبرالية الكلاسيكيةوالاشتراكية معاً. تحرير قدرات الناس كان في صلب اهتمامات الليبراليين الأوائل، علىأنهم لم يدركوا أن رأس المال سيتحكم بالناس بطريقة مشابهة لما تفعله الدولة أو الكنيسةفي زمنهم. هذا ما رآه ماركس والاشتراكيون بوضوح في القرن التاسع عشر.

تكمن أحد أبرز إنجازات تشومسكي في الفلسفة السياسية فيما يلي: يربط تشومسكي بيندراسته للغة وبين أعمال أقطاب الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية والفوضوية. ما قال بهديكارت، وما أثبتته اللسانيات التوليدية، يُضاف إلى أعمالٍ تتراكم منذ الخمسينيات عنالبنى الرئيسة الإدراكية، تربط الطبيعة البشرية الخلّاقة التي قال بها باكونينوكروبوتكين وآخرون، مع الاستخدام الخلّاق للّغة عند ديكارت: ربطُ تراثِ ديكارتبتراثِ باكونين هو إنجازُ تشومسكي الرئيس في الفلسفة السياسية.

أقطاب الفوضوية، كباكونين وكروبوتكين، بالإضافة إلى راسل وهمبولت، دافعوا عنالطبيعة البشرية ولم يكونوا تجريبيين. تقوم فكرتهم على ما يلي: هناك طبيعة خلاٌقة،فطرية، حرة وغنية، يجب إطلاقها كي يعيش البشر بسعادة. باكونين، أشهر الفوضويين،آمن بوجود غريزة أصيلة في كل البشر، هي غريزة الحرية. يجد تشومسكي أن الملكةاللغوية فطرية، وخلّاقة أيضاً، وهو أمرٌ قال به ديكارت. ويجادلُ بأن معظم قدرات البشرالإدراكية فطرية وخلّاقة معاً. يتيح هذا لتشومسكي أن يربط عقلانية ديكارت، التي تقومعلى فكرة أن القدرات اللغوية للإنسان فطرية وغير محدودة، بغريزة الحرية التي نادىبها باكونين.

إطلاق الطاقات الخلّاقة الفطرية هو جوهر الليبرالية الكلاسيكية كما نجدها عند همبولتوروسو، وجوهر الاشتراكية أيضاً التي تعادي تشييء الإنسان واغترابه. ماركس الشابآمن بطبيعة بشرية جعلته يدافع عن العمال ويرفض تحويلهم إلى آلات: منطقياً، يجبالقول بطبيعة بشرية كي يستقيم هذا الدفاع. لو استطعنا تكييف وتغيير العمال كي يقوموابما تريده السلطات، لانتفى مفهوم الاغتراب.

في المحصلة، تقسيمات اليمين واليسار لا تطابق مع تقسيمات من ينكر أو من يعترفبالطبيعة البشرية:

يشير تشومسكي إلى أن منظّري الإيديولوجيا اليمينية والمؤمنين بالرأسمالية يرتكزون،أحياناً، على مفهوم أناني للطبيعة البشرية. آدم سميث وأتباعه، مثلاً، يرون أن الإنسانأناني وطمّاع، مما يسوّغ بناء مفهوم حول سعيه الدائم للربح20. في المقابل، أيضاً، تبنىكواين وغودمان وسكينر، أشهر منكري الطبيعة البشرية وأتباع التجريبية بنسختهاالمعتدلة، مواقف يمينية عموماً.

على الضفة الأخرى، يميل اليسار عموماً إلى إنكار الطبيعة البشرية21: يستشهدتشومسكي بغرامشي ولينين وماركس الكهل22، كأمثلة. في المقابل، بعض أقطاباليسار، كباكونين وكروبوتكين وراسل، يرون أن الإنسان يسعى إلى التعاون مع الآخرينبشكلٍ فطري، كجزءٍ رئيسٍ من الطبيعة البشرية المشتركة. أكثر من ذلك، يرى باكونينوراسل وتشومسكي أن الطبيعة البشرية معقدة وفيها اتجاهات مختلفة ومتناقضة. علىالنظام السياسي أن يشجع نزعات التعاون، لا أن يشجع على الطمع والأنانية، كما هوالحال في الرأسمالية. أرى في هذا الرأي معقوليةً أكبر من أيٍ من الآراء الأخرى.

ختاماً، يرى تشومسكي أنه لا مجال لإنكار الطبيعة البشرية، إلا أننا نجهل ماهية هذهالطبيعة. إنكار الطبيعة البشرية مذهبٌ فكريٌ فاسدٌ تماماً، إلا أن له أتباعاً؛ تبعاتهالأخلاقية متنوّعة ومختلفة. ولكن، بحسب تشومسكي، الإيمان بالمفهوم الإنسانويللطبيعة البشرية، بالرغم من أننا لا نستطيع اليوم أن نتوثق منه، وربما لن نستطيع أبداًالتوثق منه، يتيح لنا الدفاع عن الحرية في كل مكان وزمان، ولكل الناس.

في القسم الأخير، سنشرح أهمية عمل تشومسكي في فهم مشاكلنا، اليوم، في أزمة الربيعالعربي.

الطبيعة البشرية ومستقبل الربيع العربي

يبدو لي أن عمل تشومسكي مفيد في الدفاع عن الربيع العربي، وقيمِه التي حملها فيتحرير الناس من العبودية. يرى تشومسكي في الفوضوية محاولة لتحرير الناس وإطلاقطاقاتهم الكامنة. ينطبق هذا التحليل على كل الناس. كل أفراد الجنس البشري يتمتعونبغريزة الحرية، وبطاقاتٍ كامنة، مختلفة ومتعددة وغنية، وعلينا أن نسعى إلى نظاماجتماعي يتيح لهم تطوير قدراتهم هذه. لا فارق بين العرب والصينيين، بين المسلمينواليهود، بين النساء والرجال؛ كل البشر يحق لهم التعبير عن أنفسهم بالأسلوب الذييرونه مناسباً. إطلاق الطاقات الكامنة في الفرد البشري قيمة كونية مشتركة23.

منذ بدايات النهضة العربية، أي في القرن الثامن عشر، طُرِحَ السؤال حول القيمالمشتركة بيننا وبين الأوربيين الغزاة. لم يكن الجواب سهلاً: من جهة، جلبَ الغزاة معهممفاهيم التنوير: الديموقراطية والانتخابات وحقوق الإنسان24؛ وفي الوقت ذاته، عاثهؤلاء الغزاة فساداً في بلداننا، ضاربين عرض الحائط بكل مفاهيم الديموقراطية وحقوقالإنسان والحريات العامة والخاصة. إلى اليوم، ما زالت العلاقة مع الغزاة ذاتها: يحاضرعلينا قادتهم في حقوق الإنسان، ويتعاونون مع أعتى طغاتنا بوقاحة منقطعة النظير.

السؤال الذي طُرِحَ وما زال يُطرح: هل هناك قيمٌ مشتركة لجميع الناس، بغض النظر عنثقافتهم وزمنهم وبيئتهم؟ الجواب الذي أقدمه هو نعم بالطبع.

قيم التنوير عامة مشتركة. تنوير تشومسكي مستمدٌ من تنوير كنط، من الإيمان بأنتحرير الناس ليستخدموا عقلهم في الحكم، وفي إدارة حياتهم كما يريدون، هو جوهرإنسانيتنا. بعيداً عن تفاصيل ملحّة وخاصة في كل مكان بعملية تحرير الناس من السلطاتالقامعة، يشكل دفاع تشومسكي عن تنوير حقيقي وعن فوضوية تبدأ من الناس ولاتُفرض عليهم من أعلى، ليحرروا قواهم الخلاقة ويستخدموا إمكانياتهم إلى أبعد مدى،قاعدة نستطيع البناء عليها جميعاً في معركتنا ضد الاستبداد: قاعدة لكافة البشر دناستثناء.

يبقى السؤال اليوم، مع انسداد أفق الربيع العربي، هو: هل نتخلى عن قيم التنوير أمنعممها؟ جواب جزء من القوميين والإسلاميين، من جهة، وجزء من الغربيين، من جهةأخرى، هو أن التنوير لا يصلح لنا: العرب، أو المسلمون، أو الشرقيون، أو غيرالغربيين بشكل عام، لهم قيمهم الخاصة. أما قيم التنوير: رفض القدرية التي تقول بوجودمراتب ثابتة للبشر: حكّامٌ أزليون ومحكومون أزليون؛ إعطاء دور رئيس للمواطنالعادي في إدارة الشؤون العامة والسياسية؛ تحرير المرأة وإلغاء الرق؛ كل هذه القيم لاتصلح إلا للغربيين25.

ينطلق كلا الطرفين، أصحابُ الخصوصية عندنا من إسلاميين وقوميين، والغربيون ممنينكرون علينا التنوير، سواءً العنصريون الذين يرون فينا تخلفاً وهمجية، أو ما بعد-الحداثيين ممن يعتقدون أنهم تقدميون بإنكارهم حقنا في التنوير، من فرضية واحدة: لايوجد طبيعة مشتركة بين البشر، أي من تجريبية راديكالية تنكر الطبيعة البشرية. قلناأعلاه أن هذا الإنكار خاطئ تماماً وبشكل كامل ومطلق. السؤال هنا، لماذا يتبناه البعض،بالرغم من خطأه الفاقع؟ الجواب يكمن في رغبة عميقة عند المنكرين في تبني سياساتمحددة: معاداة التنوير والحرية باسم خصوصيات ثابتة ونهائية ومطلقة، خصوصياتتصنعها الثقافات والبيئات بشكل كامل. ينطبق هذا على المذكورين أعلاه: الأصوليونالقوميون والغربيون العنصريون والغربيون ما بعد-الحداثيون. لكل من هذه الأطرافالثلاثة أسبابها التي لن نخوض فيها هنا. كلهم، من وجهة نظر بحثنا في الطبيعة البشرية،كما يوضّح النقاش أعلاه حول التجريبية الراديكالية، مخطئون.

إذاً، يبقى لنا هنا أن نوضّح كيف أن الإيمان بالمفهوم الإنسانوي للطبيعة البشريةسيساعدنا في الدفاع عن الربيع العربي.

الإيمان بأن كل الناس يتمتعون بغريزة الحرية، وبأنهم يستحقون حياة أفضل مناستعبادهم من قبل مجموعة طغاة مخبولين وعملاء، وأن كل البشر يملكون طاقات خلاقةحرة وغنية، يحق لهم استخدامها بالشكل الذي يرونه مناسباً لهم؛ فقط هذا الإيمان يسوّغلنا الدفاع عن الملايين التي سعت إلى حريتها، وما زالت تسعى إليها.

بكلماتٍ أخرى، يجب تعميم التنوير ليشمل كل البشر. على القارئ أن يفكر ملياً، في حاللم يُرِد التنوير، في منظومة القيم البديلة التي يريدها. أنا أدافع عن التنوير العقلاني وأدعوإليه؛ البديل هو ظلام الخرافات. بديل قيم التنوير المشتركة هو النسبوية والخصوصيات. على سبيل المثال، تحرير المرأة والمساواة مع الرجل جزءٌ من التنوير، رفض استعبادالبشر والاتجار بهم جزءٌ من التنوير، الدفاع عن حرية التعبير وميثاق حقوق الإنسانجزءٌ من التنوير؛ لا يستطيع المرء ألّا يجزع حين يجد من يرفض التنوير باسمالخصوصيات الثقافية.

أضف إلى ذلك، لا يستطيع المؤمن بنسبية القيم الدفاع عن آخرين في ثقافات مختلفة، فيحين تتيح لنا القيم المشتركة توحيد جهودنا في مواجهة عدوٍ مشترك: إمبريالية توسعيةغربية وشرقية، وحلفاؤها من صغار الطغاة، بالإضافة إلى مجموعات من العصابييناللذين ينكرون الحرية باسم الخصوصيات: ينتشر هؤلاء في كل مكان، من اليابان إلىالهند إلى الدنمارك وأمريكا، وعندنا بالطبع. يتشابه دعاة الخصوصية كثيراً: معظمهميرفض مساواة الرجل بالمرأة، ويضطهدون الأقليات الدينية والعرقية، ويصبون جامغضبهم على المثليين والمتحوّلين جنسياً، وعلى كل ما هو مختلف عن السائد، ويرفضونشرعة حقوق الإنسان العالمية باسم قيم بالية ووحشية ومتخلفة وخصوصيات ثقافيةمغلقة.

ولكن الدفاع المشترك عن قيم مشتركة يقدّم لنا مخرجاً من فخّ الأصوليات: لا يوجد لناأعداء في الثقافات الأخرى، بل يوجد حلفاء حقيقيون ممن يقع على عاتقهم تحرير أنفسهممن قوى الطغيان. هذه هي الرسالة الحقيقة لنا اليوم: البحث عن حلفائنا في كل مكان،والصراع مع قوى الطغيان في كل مكان.

لا يعني ذلك تخلينا عن مفهوم الاختلاف: على العكس، بل يعني إغناء الاختلاف منخلال التعاون. إن كان لمفهوم الخصوصية أهميةٌ ما، بعيداً عن الأصوليين القوميينوالدينيين وغيرهم، فهو يكمن في محاولة رفع الظلم عن الناس في كل مكان، وقبولوسائل تعبيرهم عن أنفسهم: من موسيقا وشعر ورسم، وحرف ورياضة وغيرها، في كلمكان بكافة الاختلافات الموجودة. ويعني، أيضاً، إدانة أي قمع في أي مكان، يصدر باسمالخصوصيات.

عالم اليوم بشعٌ وقذر: وحده الإيمان بالقيم المشتركة، والعمل 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

غريزة الحرّية: تشومسكي والفوضويّة والطبيعة البشريّة/ عديّ الزعبي :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

غريزة الحرّية: تشومسكي والفوضويّة والطبيعة البشريّة/ عديّ الزعبي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» كيف تطورت غريزة القتل والعنف الدموي لدى البشر؟
»  المرأة والطبيعة والعنف أزمة هويَّة في عصر الإنسان الأدنى
» عن معاداة الحرّية
»  الدول الخارجة على القانون _ دور القوة في عالم الأعمال المؤلف: نعوم تشومسكي
» تشومسكي: جمهور تحت السيطرة فكل شيء علي ما يرام

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: