أحدثت التحولات الحاصلة في الحيز العربي الواسع خللا واضحا في المعادلات التي رسمت معالم الثقافة العربية على الأقل منذ الاستقلال العربي بدءا من الأربعينات من القرن الماضي. وضمن هذه الثقافة تبلورت صُورالمثقف العربي(نقول صورا وليس صورة لأننا أمام صور عديدة للمثقف) وتمثيلاته في حوار مع تجارب ثقافات أخرى ومع كتابات نموذجية عن المثقف من لدن سعيد وغرامشي وفوكو وسارتر وبابا وعامل وإقبال وأدونيس. وقد ارتسمت صور المثقّف العربي في حوار مع المثقف في العالم المحلي والكوني، كما صاغته تجارب متنوعة، من أمريكا اللاتينية إلى فيتنام مرورا بأمريكا الشمالية وأوروبا. فحركات تحرّر الشعوب صاغت على إيقاعها صورة لمثقف مناصر لهذه الشعوب مدافع عن قضاياها متجنّد في صفوفها. هذا، بعد أن كانت الثورة الاشتراكية في ربوع روسيا قد أنتجت مثقفا نقديا للغرب الأوروبي متماثلا مع شرقها ومناصرا للنموذج الشيوعي ـ وهو ما استفاق منه البعض لاحقا وولى هاربا محملا بالأسئلة.
يُمكننا أن نرى في النماذج الحديثة للمثقف تيمة تعود على نفسها وهي ذاك التوتّر البنيوي بينه وبين السلطة ـ أيّ سلطة. فالمثقفون الأوروبيون عانوا الأمرّين من عسف الكنيسة في حقبتها وسؤددها خاصة عندما خاضوا معها في الموروث المقدّس موضوع اختصاصها واحتكارها. لكنهم لم يكونوا أحسن حظا في حقبة الدولة في أوروبا. فقد واصلوا تقاليد معارضتها والتصدي لما أفرزته من عسف واحتكار للعنف وتقييد للحريات. وشكلت تجارب المثقف الأوروبي النقدي تمهيدا للمثقف العربي الذي استند إلى ما أنتجه المثقف الأوروبي من معرفة نقدية وعلوم إنسانية وأفكار تناصر الإنسان في مواجهة السلطات على أنواعها. وكان أن التقى المثقف العربي في القرن العشرين بالمثقف الغربي النقدي واقتبسه واستثمر نتاجه في محاربة الاستعمار ـ السلطة وخطابها وأنماطها وممارساتها.
تبلورت صور المثقف العربي على وقع القضايا العربية التي برزت فيها تيمات التحرر من الاستعمار وامتلاك المصير. وتحرك المثقف العربي على أرضية خطاب مؤسس متين يبدأ من مناهضة الاستعمار والإمبريالية وينتهي عند توكيد الهوية الوطنية مرورا بالحديث عن الحريات والاشتراكية والوِحدة الوطنية والاستقلال والسيادة الوطنية. فالمثقف العربي كان نتاج ما تراكم من صور للمثقف عالميا ونتاج تجاربه الوطنية في لبنان وسورية وفلسطين ومصر وغيرها من أقطار. فهو “ثوري” أو “مؤدلج” أو “ملتزم” أو “عضوي” على خط المواجهة مع المُستعمِر وفي سيرورة بناء الوطن. هو نتاج حقبة مليئة بهذه الإنشاءات وهذه المفردات التي أعاد الإنتاج بها مُسهما في توكيد هذه الثقافة وأنساقها. فهو المصنوع الصانع والمفعول الفاعل في جدلية أردنا لها أن تكون خلاّقة!
من هنا، فقد تشكّل المثقف بكونه كيانا رمزيا متخيلا أحيانا كثيرة ـ مثل الهوية ـ من مكوّنات ارتبطت ببعضها هرميا. ففي أوج الثورة الفلسطينية برز مكوّن العداء للصهيونية وإسرائيل نتاجها. وفي الفترة الناصرية برز مكوّن الهوية القومية العروبية ونزعة تحدي الغرب. وفي “الزمن الجزائري” كان المكوّن عروبيا مناهضا للفرنسية والفرْنسة والمركزية الأوروبية. وهكذا، كانت القضايا المناوبة تفرض نفسها على المثقف العربي الذي كان مفتونا مرة بالاشتراكية فجاءت لغته من القاموس الماركسي والواقعية الاشتراكية، ومرّة بالعروبة فجاء نتاجه مشبعا بلغة الجماعة والأمة ومقتضيات بنائها، ومرّة بالثورة وحرب العصابات وتيمة الفدائي الفلسطيني وذاك على مدار العالم.
لكن ما العمل الآن ما دامت كل المراكز العربية لإنتاج صورة المثقف قد صارت إلى انهيار، وأن الأيديولوجيات الكُبرى التي صاغت هذه المراكز وغذّتها قد اندثرت في امتحان الواقع ـ من الشيوعية بنموذجها السوفييتي الذي افتتن به العرب وغير العرب ـ إلى “البعث” بوصفه الصحوة القومية العربية في مناهضة العثمانية والغرب الاستعماري على حدّ سواء مرورا بالناصرية المأخوذة بنزعة عسكرية؟ ماذا تبقى من صورة المثقف المُلتزم أو العضوي أو الثوري لحظة سقوط الثورة أو القضية موضوع التزامه أو مشروعه العقائدي؟ ماذا بقي للمثقف من مكوّنات في ظلّ نشوء دولة الأمن والمخابرات وكان هو وشعبه توّاقا لدولة مواطنين وحريات وسلطة قانون؟ وماذا بقي من صور المثقف بعد التحولات الجذرية الأخيرة في المشرق والمغرب العربي التي أتت على كل ما ألفناه من تيمات تمسكنا بها كمراسٍ لإنتاج واقع جديد.
تنهال هذه الأسئلة غير رحيمة في كل أزمة من أزمات الإنسان العربي في الحرب الأهلية اللبنانية وفي الأزمة الجزائرية والمصرية. لكن الزمن العربي منذ حراك الشعوب العربية في العام 2011 صار سؤالا واحدا كبيرا عجز المثقف المألوف عن حمله ومقاربة الإجابات عليه. ليس لأن الأحداث قد أطاحت بالأنساق والمباني والأنماط والثوابت التي وضعته ووضعها فحسب، بل لأن “المثقف” بوصفه وليد حقبته قد ألفى نفسه في مواجهة مع شعوب تواقة للعيش الكريم والحريات وقد عافته هو على صوره المتقاربة ومُفرداته و“نتاجه” مثلما عافت الأنظمة ونِتاجها من الاستبداد والقهر!
من هنا أمكننا أن نفهم انقلاب “مثقفين” على الشعوب وخياراتها الراهنة أو انتصار “مثقفين” للطُغاة أو تهليل بعضهم للعدمية والتكفير والعُنف. وهي مفارقات يُمكن أن يكون مردّها المفهوم المتداول للمثقف المُلتزم أو العضوي أو مفهوم المثقف المعارض والنقدي. لكن قد يكون، أيضا، في تواطؤ المثقف مع النظام. وهو تواطؤ مردّه أحيانا كثيرة هذا الرعب الذي اصاب المثقف من صحوة الإسلام السياسي وبروز نموذجه الراديكالي العدمي كما حصل في سورية والعراق. فقد ارتدّ المثقف إلى حضن النظام أو الطاغية يترحّم عليه أو يستنجد به.
هناك طبقات أخرى في صورة المثقف لا بدّ من وصول الحفر إليها لتبيّن جذور ظاهرة النكوص. نتبيّن في واحدة منها سقوط المثقف في فخّ هويّته مقابل الآخر الغربي. هنا، نراه وقد قبل طوعا أو بالصمت ثنائية إما النظام أو الغرب ونظرية المؤامرة والاستهداف. بمعنى، أن المثقّف الذي من المفروض في بعض الحالات أن يقف موقف المحرّض وناشر الوعي ومحطّم الأساطير التي تنتجها السُلطة ـ قد ناخ تحتها وأنتجها للشعوب كتابة وصورا وخطابا. في لحظة كهذه تصير “سلطة المثقف” سقفا تحت سقف السلطة وأوطأ منه. فكيف نفسّر انكفاء “مثقفين” في مصر عن الثورة ودعوتهم للجيش أن ينزل إلى الساحة ويُطيح بديمقراطية أوصلت حركة الإخوان المسلمين إلى سدّة الحُكم؟ سنتبيّن في طبقة أخرى من الحفر أنّ المثقف ـ أو إحدى صوره ـ قد أخفق أيما إخفاق في قتل طَوْطَمَه المتجسّد مرّة في الزعيم الأب ومرّة في الأيديولوجيا الشمولية أو في كليهما. فظلّ أسير توهّمه أنّ الأب لا بدّ أن يكون رحيما يوما ما فيما هذا الأب يُخرج من أكمامه كل يوم شيطانا جديدا وكارثة! أمّا العقيدة، فقد رأينا المثقف يتمسّك بها بأسنانه كلما انزلقت على محكّ التجارب الإنسانية بل شرع في منعطفات عدة يمضغها ويمضغها كما يُمضغ جلد يابس! وقد رأيناه يُبدع في التوفيق بين الطوطم وبين العقيدة ويزاوج بينهما نكوصا عن المواجهة مع السطوة والسلطة وابتعادا عن الشرّ!
وفي الحالتين يظلّ المثقّف محدودا مهما تكن صورته. بل لدينا الأسباب للاعتقاد أنّ السقوط في هاتين الحُفرتين أنتجا مثقفا لا يتمتع بتمامية/استقامة (Integrity) على العموم وفي المنعطفات الحرِجة بوجه خاص. فهو مستعدّ لنقد الآخر بينما هو لا يجرؤ على التطلّع إلى وجهه في أي مرآة. وهو مستعدّ للحديث عن الديمقراطية المرتجاة أياما دون أن يجرؤ على مقاربة الاستبداد الذي حرمه من لقمة العيش. وهو مستعدّ أن يطالب كل العالم بالديمقراطية ليطالبك في نهاية اليوم بتفهّم استبداده وعنفه. وهو يريد من الآخرين أن يموتوا ويضحوا ويكونوا أبطالا كي ينعم هو بالراحة. أو قد يقلب كل وقائع الدنيا ويرفض كل العلوم دفعة واحدة عندما تشير إلى بُطلان عقيدته. عند هذا الحد يسقط المثقف من علوّ صورته عن نفسه ليرتطم بالواقع الذي يُنكره. فليس صدفة أن يبدو بعض المثقفين غرباء عن زمانهم ومكانهم ـ تكشف التحوّلات والأحداث جمودهم العقائدي ودوغمائيتهم العمياء. وهؤلاء أقدرنا في منع الوقائع والمتغيّرات من تعطيل طمأنينتهم في كنف العقائد البائدة! انظر إلى منافحتهم عن نظام آل الأسد الذي دمّر سورية شعبا ومجتمعا ودولة لتُدرك كيف أنهم ما زالوا على تنظيراتهم بخصوص مؤامرة الغرب على سورية ورغبة إسرائيل في تقسيم البلد أو بخصوص المقاومة الباسلة لجيش النظام!
طبعا لمثل هذه المفارقات أبعاد أخلاقية يُسأل المثقف عنها بوصفه مثقفا حاملا رسالة الحق ونُصرة المظلوم ومناهضة الظالم. فكيف يجوز التنظير للتحرّروالاشتغال المكثّف بتبرير سياسات الطاغية وأقبية التعذيب؟ أو كيف يصحّ نضال عمر كامل ضد القمع ونسيان كل موبقات السلطة وضحاياها؟ صحيح أن الوضع في الحالة المصرية أو السورية الآن محكوم بخوف من أصولية دينية مُفترضة يُدير بوصلة “المثقف” في بعض صوره، لكنه خوف العاجز عن الفعل والتنظير، خوف المُتعب من حصار السلطة والطاغية ومن قمعه.
في الختام سأدّعي أنّ المثقف العربي بصوره المألوفة قد تقادم ليس لأن الزمن سبقه فحسب وكذلك الأحداث والتحولات خاصة بدءا من العام 2011، بل لأنه كسول، أيضا، قصّر في رحلة المعرفة واستكان إلى أدواته المعرفية المتقادمة. بل رأينا الماركسيين العرب ـ من خلال أحزابهم ـ قد انكفؤوا بعد البرسترويكا واعتبروا خطاب البناء والتنظير من جديد كفرا وجريمة. كما أن العروبيين العرب زادوا تعصّبا وعنصرية كلما اتضح أن نماذجنا من العروبة لم تتفتق إلا عن مزيد من القمع والاستبداد. ونحت أوساط من المثقفين الآخرين إلى الماضي والموروث المقدّس تستعين به فيما سمّي “صحوة إسلامية” اتضح أنها عاجزة كالعروبة والقومية عن إنتاج نموذج أفضل فانكفأت نحو عدمية تكفيرية بدعوى استعادة ذروة متخيّلة من قبل 1400 عامً، وأن القرآن والحديث يُمكن أن يحلاّ محلّ كل العلوم الإنسانية منذ بدأ تدوينها!
بمعنى أن المآزق العربية المتنقلة والمتتالية أربكت المثقف بصوره المختلفة ونسفت مكوناته مع بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. وبدل أن يودّع صوره السابقة الداثرة ويكفّ عن الاشتغال بالتراث والماضي نراه يُكب على ترميم صوره التالفة ويتسابق مع أترابه وزملائه على الإمساك بما يُتيح إحياء العظام وهي رميم.لا نجاة في العقائد البائدة ولا مخرج.لا بدّ من قطيعة مع كل ما كان وإعلانها مدوّية: “إلى الجحيم كل ما كان”!. لا بدّ من قتل الطوطم في شكليه: الأب والعقيدة، والخوض في مواجهة الحياة دون وصيّ أو وصاية. إذ يتّضح أن المثقف في صوره العلمانية الحداثية لا الدينية الماضوية فقط، قد نهج مسلك النقل والاتباع لا الخلق والإبداع. وإلا كيف سنفسّر لأنفسنا وللذين بعدنا أن دراسات المستقبل لا وجود لها في قاموسنا ولا التخطيط الاستراتيجي! أما المثقف الذي تجاوز هويته وذاته وتنظيراته وقصيدته وعقيدته فقد نجا فعلا وهو المؤهّل أكثر من غيره لتحمّل عبء أسئلة الراهن والمستقبل. فهو صاحب الصورة التي تحتفظ بماء الوجه والحيوية اللازمة للشروع من جديد بعد خراب البصرتين! وإذا كانت أجيال من المثقفين وصورهم انهالت على مقلع الدولة الوطنية تنهل منه وتُنتج مادتها المعرفية فإننا في هذه العجالة نُشير إلى التوتر الذي حصل في مكونات هذه الفكرة ونماذجها منذ دخلت العولمة على الخط ـ فقد تقوضت الاشتراكية بنموذجها السوفييتي واهتزت الديمقراطية الغربية من أساسها فانبرى المثقفون في الغرب يجتهدون في فك اللغز وحري بالمثقف العربي أن ينخرط في هذا الجهد معهم لا ضدهم كما اعتاد أن يقف!